عبد الرحيم التدلاوي
كاتب
"إلّا"... الاستثناء الذي استثناني.
**
لم أكن أعرف أنني أحبها... حتى كرهتها.
"إلّا"، أداة صغيرة، لا تزن شيئًا في الميزان النحوي، لكنها رجّت حياتي كما تفعله كلمة في غير موضعها في جنازة. كانت تُنقذني من ورطة التعميم، تمدّ لي حبلًا كلما سقطتُ في هاوية الشمول: "الناس أغبياء... إلّا حين يصمتون"، "كل الكتب تافهة... إلّا تلك التي قرأتها بعد الخراب"، "أحب الجميع... إلّا حين يقتربون". كنتُ أستعملها كثيرًا، أكثر من حروف العطف، أكثر من علامات الترقيم، وربما أكثر من عقلي نفسه. هي ملاذي حين تضيق العبارة، شرفة أطلّ منها على المعنى وأغلقها بسرعة، كي لا يهرب شيء منّي.
لكن ذلك تغيّر، كل شيء تغيّر في لحظة عبثية... حين كتبت قصة قصيرة وانتهت بجملة: "إلّا أبي." جملة بدت لي وقتها مثل قطرة حبر أخيرة في قلم يحتضر، تنهيدة على هيئة حرفين.
ثم خرج من تحت الأرض قاصٌّ، أشعث الحروف، كأن اللغة طردته قبل أن يحتجّ، وقال لي، دون أن يرمش: "هذه الجملة لي، قلتها قبلك، هي لي، كصوتي وأنا نائم." ثم أخرج من جيبه ورقة عليها ختم مزعوم: مكتب حماية الاستثناءات. قال إن كل "إلّا" غير منسوبة إليه هي سرقة علنية.
ضحكت أولًا، ثم كرهته، ثم كرهت "إلّا"، ثم كرهت ضحكتي التي سبقت الكراهية. ومن يومها صرت أتحاشى "إلّا"، كمن يتحاشى حبيبته السابقة في جنازة صديقهما المشترك. كلما كتبت جملة، ترددت، كأنني أمسك شفرة، لا حرفًا. كل محاولة لاستخدامها بدت لي مثل خيانة مزدوجة: لنفسي، ولها.
حاولت الاحتيال: استبدلتها بـ "سوى"، و"ماعدا"، و"غير أن"، و"لكن"... لكن لا شيء له نفس الحافة، نفس اللدغة. الجمل صارت كأنها أغانٍ وطنية: مترابطة، مرتبة، ومملة حدّ الغثيان.
ثم كتبت في لحظة صدق غافلة: "كلّهم مرّوا... إلّا أنت." وحين قرأتها، انشقّ النص كجرح قديم رفض أن يندمل، وتنفسّت اللغة كأنها كانت تحت الماء.
هنا فقط أدركت أنني لم أكن أكره "إلّا"، كنت أكره ذلك الذي أراد أن يحتكر الجرح، ذلك الذي أراد من اللغة أن تلبس قبعةً عليها اسمه، أن تقف في الطابور، وتأخذ رقمًا، وتدفع ضريبة الاستخدام.
وقبل ذلك كنت أتحاشى "إلّا" فكلما كتبت جملة، ترددت قبل أن أُخرجها من معناها، كأنني أقصّ ريشةً من جناح طائر هشّ. حاولت استبدالها، مراوغتها، تطويقها ببدائل... لكن اللغة كانت تعرف غيابها. الجمل صارت مغلقة، متجانسة، بلا شقوق... تشبه مؤتمرات المصالحة.. لقد كنت أكره ذاك الرجل، لا لأني أضمر الكراهية، بل لأنه أراد أن يحتكر الاستثناء، ويقنعني أن العبارات مثل الأحذية: تُقاس وتُرَقم وتُباع.
واليوم؟ لم أعد أكره "إلّا". بل أراها عتبةً للبوح، ونافذةً للفرار من الإجماع. أكتبها كلما أردت أن أُنقذ نفسي من الجملة.
منذ ذلك اليوم، لم أعد أكتب بلا "إلّا". هي عتبة نجاتي، حافتي، هاويتي المقدّسة. صرت أضعها في الجمل مثل من يضع الملح فوق الجرح... لا للشفاء، بل ليعرف أنه ما زال حيًا.
وأعترف، كلما كتبت "إلّا"، أشعر أنني أمارس الاستثناء عليّ، أحذفني من الجملة لأبقى داخلها.
وفي النهاية؟ لا أحد نجا... إلّا أنا. ثم صحّحتها لنفسي، وأنا أضحك:
حتى أنا... لم أنجُ. ولا أرغب.
**
لم أكن أعرف أنني أحبها... حتى كرهتها.
"إلّا"، أداة صغيرة، لا تزن شيئًا في الميزان النحوي، لكنها رجّت حياتي كما تفعله كلمة في غير موضعها في جنازة. كانت تُنقذني من ورطة التعميم، تمدّ لي حبلًا كلما سقطتُ في هاوية الشمول: "الناس أغبياء... إلّا حين يصمتون"، "كل الكتب تافهة... إلّا تلك التي قرأتها بعد الخراب"، "أحب الجميع... إلّا حين يقتربون". كنتُ أستعملها كثيرًا، أكثر من حروف العطف، أكثر من علامات الترقيم، وربما أكثر من عقلي نفسه. هي ملاذي حين تضيق العبارة، شرفة أطلّ منها على المعنى وأغلقها بسرعة، كي لا يهرب شيء منّي.
لكن ذلك تغيّر، كل شيء تغيّر في لحظة عبثية... حين كتبت قصة قصيرة وانتهت بجملة: "إلّا أبي." جملة بدت لي وقتها مثل قطرة حبر أخيرة في قلم يحتضر، تنهيدة على هيئة حرفين.
ثم خرج من تحت الأرض قاصٌّ، أشعث الحروف، كأن اللغة طردته قبل أن يحتجّ، وقال لي، دون أن يرمش: "هذه الجملة لي، قلتها قبلك، هي لي، كصوتي وأنا نائم." ثم أخرج من جيبه ورقة عليها ختم مزعوم: مكتب حماية الاستثناءات. قال إن كل "إلّا" غير منسوبة إليه هي سرقة علنية.
ضحكت أولًا، ثم كرهته، ثم كرهت "إلّا"، ثم كرهت ضحكتي التي سبقت الكراهية. ومن يومها صرت أتحاشى "إلّا"، كمن يتحاشى حبيبته السابقة في جنازة صديقهما المشترك. كلما كتبت جملة، ترددت، كأنني أمسك شفرة، لا حرفًا. كل محاولة لاستخدامها بدت لي مثل خيانة مزدوجة: لنفسي، ولها.
حاولت الاحتيال: استبدلتها بـ "سوى"، و"ماعدا"، و"غير أن"، و"لكن"... لكن لا شيء له نفس الحافة، نفس اللدغة. الجمل صارت كأنها أغانٍ وطنية: مترابطة، مرتبة، ومملة حدّ الغثيان.
ثم كتبت في لحظة صدق غافلة: "كلّهم مرّوا... إلّا أنت." وحين قرأتها، انشقّ النص كجرح قديم رفض أن يندمل، وتنفسّت اللغة كأنها كانت تحت الماء.
هنا فقط أدركت أنني لم أكن أكره "إلّا"، كنت أكره ذلك الذي أراد أن يحتكر الجرح، ذلك الذي أراد من اللغة أن تلبس قبعةً عليها اسمه، أن تقف في الطابور، وتأخذ رقمًا، وتدفع ضريبة الاستخدام.
وقبل ذلك كنت أتحاشى "إلّا" فكلما كتبت جملة، ترددت قبل أن أُخرجها من معناها، كأنني أقصّ ريشةً من جناح طائر هشّ. حاولت استبدالها، مراوغتها، تطويقها ببدائل... لكن اللغة كانت تعرف غيابها. الجمل صارت مغلقة، متجانسة، بلا شقوق... تشبه مؤتمرات المصالحة.. لقد كنت أكره ذاك الرجل، لا لأني أضمر الكراهية، بل لأنه أراد أن يحتكر الاستثناء، ويقنعني أن العبارات مثل الأحذية: تُقاس وتُرَقم وتُباع.
واليوم؟ لم أعد أكره "إلّا". بل أراها عتبةً للبوح، ونافذةً للفرار من الإجماع. أكتبها كلما أردت أن أُنقذ نفسي من الجملة.
منذ ذلك اليوم، لم أعد أكتب بلا "إلّا". هي عتبة نجاتي، حافتي، هاويتي المقدّسة. صرت أضعها في الجمل مثل من يضع الملح فوق الجرح... لا للشفاء، بل ليعرف أنه ما زال حيًا.
وأعترف، كلما كتبت "إلّا"، أشعر أنني أمارس الاستثناء عليّ، أحذفني من الجملة لأبقى داخلها.
وفي النهاية؟ لا أحد نجا... إلّا أنا. ثم صحّحتها لنفسي، وأنا أضحك:
حتى أنا... لم أنجُ. ولا أرغب.