عبد الرحيم التدلاوي
كاتب
الجزء الأول.
**
تمتد رواية؛ سفر الأحزان؛ للروائي المغربي هشام بن الشاوي علي مساحة نصية تبلغ 147 صفحة من الحجم الكبير؛ وتشتمل علي احد عشر فصلا كل فصل بعنوان.
وقد صدرت عن دار “إي- كتب” في لندن، وهي روايته الرابعة في ربرطواره الروائي. .وتناولت جملة من القضايا ومنها الاستغلال والفقر والخرافة والاقصاء والجنس والحرمان، واعتمدت الجمع بين الأسلوبين الشعري والتقريري في مواقع محددة ومجالات خاصة، ونهجت أسلوب التقصي والبحث جامعة بين الواقعي والفانتاستيكي، مستثمرة القصص الواقعية وتلك المستجلبة من بطون الكتب والتي ترتبط أساسا بالثقافة الشعبية...
من خلال عنوان الرواية وعناوين الفصول يطرح السؤال التالي: ماهي المداخل القرائية المحتملة للدخول إلي العمل؛ وما هي الدلالات التي يمكن بلوغها؟
عتبة الغلاف:
إن ما يلفت انتباه القارئ لغلاف "سفر الأحزان" أنه غلاف متقشف من حيث مكوناته، فقد اقتصر على صورة لفتاة تنحي برأسها قليلا ناظرة إلى موطئ قدمها، صورة استحوذت على الصفحة بأكملها، وجاءت ألوان الأحمر والأخضر والأصفر والأسود لتجلل صورة تلك الفتاة؛ مجموع تلك الألوان يوحي بالاضطراب النفسي والوجداني. فالأحمر قد يشير إلى المعاناة والألم معا، الأصفر في حين نجد أن الأصفر يحمل دلالات التوتر والقلق، فيما يضفي الأخضر مسحة باردة وغريبة، ويأتي الأسود ليحاصر كل هذه التدرجات معبرا عن الثقل العاطفي. إنها ألوان تبرز حالة لا يقين أو قلق داخلي لدى الشخصية. .وقد طبع فوق صورة الغلاف بالأبيض اسم صاحب العمل، وتحته عنوانه العمل الذي أتى بخط أبرز.
تبدو صورة الفتاة أو المرأة حزينة بالنظر إلى ملامحها، وإلى اللون الأخضر الذي كلل وجهها، وهناك شريط يعبرها ويمتد إلى ظهر الغلاف، وكأنه وشاح من اللونين الأحمر والأسود يكاد يغطي جزءا من وجهها ويمتد عابرا الصدر معبرا عن حالة الانكسار والقلق والتوتر النفسي لديها.
ومن حيث التجنيس فاللافت أن هناك مقصدية لتغييبه، فقد تكون لفتح باب التأويل لدى القارئ، بترك حرية وضعه في الخانة التي ريدها أو يرتئيها، وكأن المؤلف يخبرنا أن عمله يتجاوز كل تصنيف بما فيه الرواية لأنه يفيض عليها، خاصة وأنه استثمر أسلوب البحث والتقصي الصحفيين.
وقد يكون الغياب انسجامًا مع التيارات الحديثة التي تميل إلى كسر الحدود بين الرواية والقصة القصيرة والسيرة والتقصي الصحفي. وهو ما يعزز من غموضه وجاذبيته، خاصة وأن العنوان نفسه يوحي بعمل مفتوح التأويل.
عتبة العنوان الكبرى وعتباته الصغرى الداخلية:
يفتح العنوان "سَفَر الأحزان" أكثر من باب للتأويل؛ فهو يجمع بين الرحلة والكتاب؛ رحلة وسط وجعٍ لا ينتهي، وكتاب يدوّن الخسارات، وكشف لطبقات مستترة من الألم. تستغرق الأحزان هنا الوجود كله: الفرد، والذاكرة، والجماعة، والمجتمع الذي يتوارث الخيبات جيلاً بعد جيل.
تبدو العناوين الداخلية للرواية بمثابة خريطة للأحزان: صمت يفضح إدانة خفية، دم يظل شاهداً على جراح لا تندمل، مسافر يمشي بلا هوية، نشيد ديني يلتقي باليومي في التباس وجودي، امرأة تتجسد في صورة شيطان لتقلب الصورة النمطية رأساً على عقب، ذاكرة تتعلق بهشيم الذكريات وكأنها كنز لا يُترك، فجيعة لا تعرف نهاية، حب قادر على القتل بقدر ما يمنح الحياة، حياة قصيرة كأنها لقطة عابرة، كنز مفقود يرمز إلى معنى ضائع، وأحلام مبعثرة لا تكتمل.
ما الذي يمكن الخروج به من خلال تحليلنا لهذه العتبات؟
يتضح أن الرواية لا تروي حكايات بقدر ما تفتح جروحاً وتتركها تنزف. إنها رحلة في الذاكرة الجمعية والخيبات الفردية، حيث يتقاطع المقدس مع الدنيوي، ويظهر التشظي بصفته قدرا إنسانيا لا مهرب منه. كل عنوان يمثل نافذة صغيرة تطل على عالم صغير، وحين نقوم بجمعها معاً نحصل على صورة أوسع لعالم كبير مثقل بالخسارة، بيد انه لا يكف عن البحث عن معنى.
يتعمد هشام بن الشاوي في "سفر الأحزان" الاشتغال على الجسد السفلي للمجتمع، بكل ما يخترقه من عنف وجنس وخرافة وصراعات يومية، تاركًا جانبًا الجسد العلوي للخطاب الرسمي الذي يتظاهر بالجدية والصرامة ويسعى إلى إخفاء عيوبه خلف واجهات براقة. بهذا التوجه، يقترب الكاتب من التصور الباختيني الذي منح الرواية مكانة متميزة في الأدب، واعتبرها جنسا أدبيا ثوريًا لأنها قلبت المعادلة القديمة بين "الأعلى" و"الأسفل".
فإذا كانت الملحمة الكلاسيكية خطابًا يحتفي بالآلهة وأنصاف الآلهة والطبقات العليا، فإن الرواية – وفق باختين – جاءت من القاع، لتعكس لغة الناس البسطاء، وتجارب المهمشين، وحياة الجسد المادية بما فيها من أكل وجنس وموت وعنف. الرواية بهذا المعنى لا تخشى كشف ما يراد إخفاؤه، فهي تمنحه مركزية لأنه يمثل الحياة الحقيقية للإنسان غير المزيف بعيدًا عن المثاليات الزائفة.
على هذا الأساس، نجد سفر الأحزان تصب اهتمامها على الفئات المحرومة والمشوهة، لتكشف أفكارها وأوهامها ومكبوتاتها. وقد تميز النص بجرأته في كسر الطابوهات، خاصة تابو الجنس، حيث أفرد له المؤلف مساحة وازنة بجانب الخرافة والإيمان بالمعجزات، وهما مكونان راسخان في الثقافة الشعبية. ومن أبرز العناصر اللافتة للانتبه وذات ارتباط بالمعتقد الشعبي قصة الجنية وحضورها الفاعل في تحريك عجلة أحداث الرواية، وهو ما يقرب العمل من أجواء "ألف ليلة وليلة" بجمعه بين شخصيات مختلفة ومتنوعة وأساسا بين المرئية واللامرئية.
ومن أبرز ملامح الرواية أيضًا انفتاحها على الحكاية الشعبية والأسطورة، سواء عند المسلمين أو اليهود في المغرب. ومن بين أهداف هذا التوظيف طرق قضية التعايش بين الديانتين، وإن بدا هذا التعايش مهددًا كما في قصة اليهودية التي ضحّت بحبها وحياتها حفاظًا على دينها، رافضة تغيير عقيدتها رغم الضغوط. وكانت النتيجة أن اتُهمت ظلمًا بالارتداد عن الإسلام في مؤامرة دبّرها أحد أقارب عشيقها.
إن انفتاح النص على الحكاية الشعبية، والنص الشعري، والأغنية جعل منه نصًا زئبقيا يثعب القبض عليه داخل تجنيس واحد، وهو ما يفسر غياب كلمة "رواية" عن الغلاف. فالمؤلف ترك عمله بلا هوية صارمة، مانحًا القارئ حرية تجنيسه بحسب خلفيته المعرفية وذائقته الجمالية.