عبد الرحيم التدلاوي
كاتب
**
بدءا، عنوان يدل على الشموخ والرفض ومقاومة الصمت.
(يذهب القاص في السرد القصير بمحض ارادته وبكل ما يحمله وبكل ما يحمل من تحديات باللغة والتعبير والخيال ويغامر بالكتابة التي لا تنجح الا عند عدد قليل بسبب ندرة هذا الفن ونشدانه للتكثيف وقوة الاداء وفرادة الأسلوب، القصة القصيرة اذا هي الفن الأصعب، الفن الذي يجعلك على المحك في تحقيق لحظة فهم عميق للحياة من خلال قصة لا مساحة واسعة امامها) *، وأظن أن هششام ناجح من هذه الطينة.
مجلة الكلمة الألكترونية، عدد 196، سنة 2025. ملامح القصة القصيرة، بقلم رعد كريم عزيز.
**
تتجلى في قصة "الأشجار الخمس" بنية سردية متماسكة تقوم على صراع بين سرديتين متعارضتين: سردية السلطة التي تتكئ على الخطاب الديني لتبرير القمع وإرساء الخوف، وسردية النساء اللواتي تتحوّل أصواتهن الصامتة إلى ذاكرة لا تُمحى. ويمكن فهم هذه الآلية من خلال ثنائية "فتح الكتاب وإغلاقه" التي ترمز إلى الصراع الأعمق بين قوتي الحق والظلم في زمن يسوده الجهل وطمس عين الحقيقة.
عندما يُفتح الكتاب وتنفلت منه شياطين الحكي المغمور بالدم، فإنه لا يفضح نوازع الشر والظلم فحسب، بقدر ما يتحول إلى منصة لـ"ترميم روح التاريخ" ودعوته لإعادة سرد الحكاية من جديد في مواجهة العتمة. هذا الفعل هو مقاومة لهيمنة الباطل، فيما يمثل إغلاق الكتاب احتكارًا للحقيقة وتشويها متعمدًا للتاريخ. وهكذا تتحول القصة إلى منصة لتصحيح المسارات التي انحرفت عن جادة الصواب، ولتعرية منظومة السلطة التي تُسخّر كل أدواتها - بما في ذلك الخطاب الديني - لتثبيت مصالحها وإدامة نفوذها.
وفي هذا السياق، تُستحضر النساء بوصفهن أكباش فداء، كما حدث في محاكمات الساحرات في أوروبا بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، حيث تداخل الخوف الديني مع الأوبئة والمجاعات والاضطرابات الاجتماعية. فتصبح المرأة الخارجة عن الأعراف هدفًا سهلًا للاتهام، ويتم توظيف النار والنهر كرموز للعقاب المقدس، ليس بوصفهما عقابًا فحسب، بل كآلية لإخضاع الجماعة عبر إشاعة الخوف وترسيخ ثقافة الاتهام.
غير أن حضور الأب دييغو والكتاب يكسر احتكار السرد الرسمي؛ يقيم توازنا بالصوت المضاد، حيث يمنح الحقيقة حيزا للتعبير عن نفسها. وتستثمر القصة رمز الشجرة بشكل معقد، فيصبح كل جذع قائم شاهدًا على مقاومة صامتة. إذا كانت أشجار توفيق الحكيم في "الطعام لكل فم" ترمز إلى استمرار الحياة الفيزيائية والعطاء المستمر، فإن أشجار "الأشجار الخمس" تعبّر عن خصب روحي ومقاومة متجذّرة، فهي تبلغ ذروة وجودها لحظة سقوطها وهي واقفة، كأن الوقوف الأخير هو آخر أشكال المعنى والكرامة.
وتنقسم الشخصيات إلى مقاومة للظلم وتتجسد في النساء الخمس اللواتي يجسّدن الضحية الجماعية لبنية القمع الديني والاجتماعي، ويظل وجودهن حاضرًا في ذاكرة الأرض؛ وظالمة ويجسدها أحسن تجسيد السيّد كازيكا الذي يمثّل الذراع العقابية للسلطة، حارسًا للرواية الرسمية ومبرّرًا للعنف باسم الطهر، ويجدر التنبيه إلى إشارة مهمة حضرت طي القصة وتعبر عن صراع الأهواء لدى هذا الرجل الذي أحب واحدة من أولئك الخمسة فرفضته، فانقلب حبه كرها فعقابا ناريا، وكان قبل ذلك قد اغتال الراعي الذي اختارته وفضلته عليه، مما يؤكد أن دففوعات السلطة القائمة واتهاماتها للنسوة واهية ولا أساس لها من الصحة، وأن مبرر فعلها هو الدفاع عن مصالحها وتأبيد الواقع القائئم؛
ويقف إلى جانبه داعما ومدعما السيد أوير الذي يجسد قوة الخوف الشعبي، والذي يحوّل الشائعة إلى «برهان» على الخطر.
بينما يظهر الأب دييغو في المنطقة الرمادية، حيث يمثل الضمير المأزوم الساعي إلى حفظ الحقيقة كتابة، لا نطقًا، والكاتب بوصفه فاعلًا سرديًا يحفظ الوقائع التي حاولت النار محوها،
يحضر رقم خمسة بطاقة السحرية في القصة كعلامة دلالية مركّبة ينظّم الحدث في إطار طقوسي دوري يعبر عن العود الابدي، مانحًا الضحايا حضورًا يصعب محوه. كما يستدعي ذاكرة شعبية للحماية ودرء الشر، ليقلب المعنى حين يصبح المجتمع صانع الشر، فيما تتحوّل الأشجار الخمس إلى طاقة تنهض بفعل المقاومة؛ فهي اشجار ترفض الصمت وتموت واقفة.
وفي الختام، تقول القصة إن التاريخ ينحرف احيانا عن مجراه الاصلي خاصة حين يفرض بالخوف والنار، بيد ان الحكاية تقومه كونها ذاكرة الحقيقة وأن هذه الحقيقة قد تدفن لفترة لتنبعث من رمادها أشد قوة ونضارة؛ فحين يفتح الكتاب من جديد، نسمع صوت الانين القادم من اعماق الذاكرة المشتعلة، وأن ما قمعته السلطة ستفضحه الحكاية يوما ما، الحكاية التي تمتلك سلطتها المضادة، وصوتها النقي؛ لتظل الأشجار الخمس شاهدة على أن الصمت قد يبدو هدوءا نسبيا يعبر بطريقته الخاصة عن مقاومة لا يفهمها إلا من أنصت إلى لغة الرفض العميقة والبليغة الثاوية في جذورها.
ملحوظتان غير ملزمتين: هل القصة منفصلة عن واقعها؟ هو السوال الذي يمكن أن يطرحه القارئ بالنظر إلى أسماء الشخصيات ومكان الأحداث والوقائع.. لكن عملية تغيير لها بجعل الأسماء عربية والمسجد مكانا والوقائع قائمة في الجغرافيا العربية الممتدة سيجعلنا ندرك أن ما جرى هناك في القرون الوسطى، هو ما يجري هنا في وقتنا الراهن، وبالتالي فنحن بحاجة ماسة إلى عصر أنوار يرفع من درجة الحس النقدي، والوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتحقيق التغيير المنشود، عصر يخرجنا من وأد النساء الممتد من الجاهلية إلى حاضرنا الموبوء.
2_
تحضر في آخر القصة أشجار التفاح والرمان والإجّاص والتين والبرتقال بصفتها رموزا متعددة الدلالات لدى الفرد ولدى الجماعة، فضلا عن بعد بعضها الديني كالتفاح والتين والرمان. فهي تذكرنا بغواية المعرفة وتجربة الممنوع، وتحمل معنى الخصوبة، وهشاشة الإنسان. كما تعبر عن الذاكرة الثقافية التي تحمل بعد الستر والانكشاف معاً، هي رموز تم توظيفها للتعبير عن صراع الإنسان الداخلي بين الخوف والأمان، بين الاستتار والانكشاف، بين القوة والضعف بين الرغبة في الإيناع والخوف من الذبول، ولتكون تلك الأشجار المثقلة بثمارها رمزا للعطاء المتجدد تحمل في طياتها تحدي الموت بشموخ الوقوف..
**
الأشجار الخمس تأبى أن تسكت
القاص هشام ناجح Hicham Najeh
"حالما اكتشف الإنسان النار،
أعلنها القانون الزجري الذي يحيق بأولئك الذين يخالفونه،
سواء على الأرض أو في السماء".
(هـ. ن)
لا أحد سيصدق في البداية الخبر الطارئ عن الباحة الخلفية لكنيسة "انتقال السيدة العذراء" ببلدة زوكاراموردي؛ حيث ثمة خمس أشجار مختلفة الفواكه تصدر أنينا، حين تتثاقل أغصانها قبيل موسم القطاف. بل يتضاعف الأنين الموجع متسربا كنصال حادة تشرخ أفئدة الكل، وذلك في أتون الليل الحالك. وسيتكرر الأنين كل عام في موسم القطوف الدانية، لما تميد الأغصان من فرط الثقل. ويرسم الهلع المبين أشكاله الذهنية في العقول المتوجسة آنفا من لعنات العقاب، خاصة لما يتعطل القمر عن وازع البزوغ.
يمسح الأب دييغو دموعه، بعد أن تتداخل الكلمات في حلقه، مفرزا بعينيه الضيقتين كل كلمة صامدة على الورق البالي المحفوظ زهاء ثلاثة قرون في أرشيف الكنيسة، بنية تقويمه من عوائد ترميمات المواد الأولية التي تمكن من حفظه إلى حد ما، متقدما بطلبه المؤثر إلى عمدة لوغرونيو: "لا يمكن للنساء الخمس المتهمات بالسحر أن يحرقن في سالف العهد من حياتهن، ونمدد اللهيب في ذكراهن المكتوبة أيضا. عجلوا، بحق المسيح، بإعادة ترميم خراب روح التاريخ أيها العمدة! فليسعد الرب بحسن صنيعكم".
ولا يكاد منتصف شهر أكتوبر، من كل عام، يمر دون أن يفتح الأب دييغو الكتاب الحافظ الذكرى، والمعنون حسب المشيئة المرسومة سلفا بــ"الأشجار الخمس تأبى أن تسكت"، كما لو أنه يحرص على بعث دواعي الكتاب بإعادة قراءة بعض فقراته، التي تضمن الاستجابات الخفية بالتواصل مع أرواح النسوة الخمس، اللواتي تحولن إلى شجرات يدارين براءتهن ولو بعد أمد بعيد. يجمع أنفاسه ويدمدم بصوت فيه خنة من جراء التأثر، بعد أن يرفع الكتاب قبالة الجمع: "ثمة من يزعزع يقين الكنيسة الداخلي أحيانا ويكتب في الخفاء، راكنا المقيد إلى حيز المصادفات التي ترنو بعين اللطف إلى التبيين المؤجل؛ إنها المجازفة البحت، أو لنقل إنه النقص الذي يعتري الكمال، ويبعث بالنقيض الذي يندلع من الحروق نفسها، فيطفق بردا وسلاما على وجه التاريخ".
ويحمحم مصفيا حلقه نافلة ليعلن عن التلاوة أمام الزوكارامورديين بنوع من الحماس المبجل، منسجما مع الفقرات الذاعنة لحدوسه بأن تلقي بالمستمع إلى جلال الذكرى وفق ما يسمى بالتصعيد المروحن: "طالما تردد اسم السيد كازيكا، على كل ألسنة بلدة زوكاراموردي، بأنه الوحيد المنذور، بوصية من الملك لويس الرابع عشر ملك فرنسا ونافارا، مفوضا من الرب في الكشف عن الساحرات، اللواتي تسئن طريق الرب من فرط أعمالهن الشنعاء، حيث تجلبن الأوبئة الحائقة بالناس والحيوانات معا، وتنشدن بطلان سبل الخصب. إن الشيطان يقطن بينهن، ويرشدهن إلى إقامة طقوس "أكيلاري" في كهف الماعز على رأس الجبل.
قد يشعر بالرعب كل من أوكلت له هذه الوظيفة، لكن ما دامت أنها تمثل حظوة السماء، وحظوة الرب بالتفويض، فإنني سأكون يد الرب التي يبطش بها بكل ساحرة سليلة الشيطان، بكل ساحرة أخرت مواعيد الرب عن إبانها".
هكذا يدلي السيد كازيكا، متطلعا إلى الرؤوس المجتمعة قبالة الكنيسة، حتى يبرهن على أداء هذه الوظيفة بإقدام لا يقبل التخاذل، أو إنه يرغب عن سبق إصرار في اقتسام الشعور مع الآخرين، فيحرك الجميع رؤوسهم استحسانا ووجلا في الآن نفسه. ثم يشير بإيماءة من رأسه إلى أوير، أن أدل بشهادات تؤكد العزم المرغوب فيه. فيتراجع أوير خطوتين حائما ببصره على الجمع مداريا عنصر المباغتة، حيث يدرج على وجه السرعة واقعة إريبار الذي كانت الخنانيص تأكل أذنه وهو لا يدري، أو حالما تحول إيفان إلى حمار ينهق ساعات القيلولة ويطلب من زوجته غوركا أن تمتطيه وتشحطه في سادية مقرفة، حتى يرتد نهيقه من قمة الجبل.
وتلطف أوير بعد أن حك جبهته في أن يحكي عن زوجته أويانا هي الأخرى، حين حاق بها المس فيؤول وضعها في الليل إلى بقرة، حيث تلتهم ما يعادل عربة من الكلأ. لكنه يعدل عن ذلك حفظا ماءَ الوجه أمام الجمع، الذي سيلوك الحادثة ويكني أويانا بــ"البقرة الجائعة"؛ فمن السهل أن تلتصق بك كنية أو لقب في هذه البلدة، التي تلتقط على وجه السرعة مخلفات الحوادث.
كما لو أن أوير سيفوق المبتغى بعد أن رفع عينيه صوب كازيكا بألا يعلن عن الحماس الفياض، وأن يحرك رأسه في حسرة مستحضرا البلدة لما ظلت سنين طويلة تنعم في الخير المشترك. فصفق بيديه ملتفتا من مخبوء الحدس الذي يستدعي أن يصمت قليلا؛ ذلك الصمت الممعن في المحاسبة والخوف معا. لكن، سرعان ما اعتمر قلنسوته عن قصد محسوب حين صاح رافعا صليبه في الهواء: "حق الرب عاجله. لا بد أن الرب والروح والابن يتطلعون إلى استرداد حقهم. ماذا ننتظر إذن؟ إن الخلاص يستلزم أن نعاين الحالات المشكوك فيها حتى لا نبخس الرب حقه. ويتعين على الممارية في أمرها أن نلقيها في نهر "أولابيديا"، فإنه كفيل بأن يبين المراد. حتى إذا نجت لم تكتب من الساحرات المغضوب عليهن، وإن غرقت فذلك ما نبغي إثر أفعالها التي أخرت رضوان الرب على البلدة. وحينها سيئيض النهر إلى جحيم الرب المعلن".
من الطبيعي أن تغرق كل النساء المتهمات، بحكم قوة المجرى ومن فرط الارتطام غير الرحيم، الذي يسوق الأبقار والدواب في انجراف كاسح.
ومن أجل أن يتملص كازيكا ويحافظ على هيبته فقد أرجأ المحاكمات الأولى ببعثها إلى لوغرونيو، وهو يعلم مصيرها الذاعن للعبرة ولو عن طريق الخطأ؛ إنه يلم بالدفوعات الأولية التي لا تأتي على كثرة الرد، وثمة يكمن المراد الذي سينسخ كل المقترحات الممعنة في النتيجة الواحدة، التي تتحصن في فكرة العقاب المندلق من كل صوب بشأن وجود الرب.
وتقبل كازيكا كل المقترحات بنوع من الحماس الناقص، فقد ظلت روحه ظامئة للنيران، كما لو أن الإنسان مقدود من اللهيب الزاهر في روحه حتى يضرم هذه اللفحات، محدثا قيامته من جراء الطقطقة التي يمددها عنفوان السعير. وانتظر اليوم السابع ليعلن عن أن هؤلاء النسوة الخمس، المربوطات من أيديهن وأرجلهن، الساحرات: الشريرة إنارا والوضيعة أمونة والسافلة إيرانتسو والخسيسة ميليا والدنيئة هيرون.
ثم تقوت الكلمات الزاعقة في الحلوق بدافع من أوير، حتى تحدث المحاكمات بقرب الكنسية ما دامت هي الراعي الموكل بالنيابة عن الرب. فيرفع كازيكا بصره إلى العذراء من أجل الدعم المرغوب فيه، ويقول في خشوع: "إنها تبدو غير راضية عما آل إليه الوضع. ماذا يمكننا أن نفعل حتى نرضيها يا جماعة الرب؟"
وقرص أوير بعينه محمسا كازيكا، الذي بدا متأثرا بحق الرب المعلن والخفي. ونظر إلى النسوة الخمس بعين التشفي، وأكد: "إن الرب نادم على الشر أبدا، وباسمه يستدرج العقوبات التي هي من جنس العمل. واقتضى حكمه أن يلزمنا بحرقكن أيتها السافلات، حتى تحرق شياطينكن التي تقد من ثوب الرذيلة كسواتكن النتنة".
وانتفضت إنارا ووجهها عرضة للشمس، حيث سال العرق على جبهتها اللامعة بنوع من الصلابة المعهودة فيها، وهي تعلم سلفا أن كازيكا لن يغفر لها حبه إياها أيام التصريحات الخجولة، حيث فضلت عليه أدور الراعي القوي. وسيتدبر مكيدة قتله خفية، فازداد حنقها على كازيكا نافلة، ولم تفضل سوى تلك العظمة المنهزمة مداراة للخوف والتشفي.
ومن العادي أن تعبر كل دواعي الانتقام، بسبب أو بآخر، ذهن باقي النسوة الأربع. صاحت إنارا: "إن الخوف هو العدو الحقيقي أمام الأوغاد. لكن، لنا رجاء واحد: أن تأخذوا ما تبقى من أرمدتنا وتدفنوه بشكل متفرق وراء باحة الكنيسة. هذا ما تبقى لنا من حلم، ولا عزاء للشامتين".
أقفل الأب دييغو كتاب "الأشجار الخمس تأبى أن تسكت"، ماسحا دموعه ومتطلعا إلى أشجار التفاح والرمان والإجاص والتين والبرتقال، في النصف الثاني من أكتوبر الذي بدا مذنبا على الدوام. بينما كان الرب نادما على الشر الذي لحقه من طرف سفرائه إلى بلدة زوكاراموردي.