نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

باب يغلق

"باب يغلق"
**
لم يكن منزلنا يملك مرحاضًا. كبرت وأنا أستيقظ في الليالي الباردة على نداء متانتي، فأمشي في الظلام، متسللًا بين الجدران والنفايات، حتى أصل إلى المرحاض المشترك. مكان لا تعرف فيه أين تطأ قدمك، تملأه الروائح النفاذة، وتخترقه عيون متلصصة تتربص بك من ثقوب السور المتهالك.
كنت أستحيي من الدخول إليه، فأحيانًا أضطر للخروج إلى الدرب، أختبئ خلف جدار أو شجرة، ثم أعود إلى فراشي وكأنني عُدت من معركة، أمارس طقوسًا خفية كي أستدعي النوم، ولا يزورني إلا بعد طول عناء.
في الصباح، أذهب إلى المدرسة بوجه متجهم وبطن فارغة. لم يكن الجوع وحده ما يثقلني، بل تلك التفاصيل الصغيرة التي كان غيري يجهل قسوتها. كم كنت أحسد زملائي الذين يملكون مرحاضًا خاصًا. كانوا يبدون أخف ظلًا، أكثر راحة، يضحكون كثيرًا… أما أنا، فكنت أشيح بوجهي عنهم، أحمل داخلي شيئًا من الظل الثقيل.
وذات يوم، زرت بيت أحد الأصدقاء. حين شعر بحاجتي، دلّني على المرحاض. فتحت الباب، فإذا بي أمام عالم آخر: أربع مراحيض! نظيفة، معطرة، كل واحد منها مغلق ببابٍ سميك، يضمن لصاحبه عزلة وخصوصية. لم أصدق أن المرحاض يمكن أن يكون مصدرًا للسعادة. صديقي، بابتسامته الدائمة، كان يعيش ترفًا لم أفهمه إلا في تلك اللحظة.
مرت سنوات، ومنّ الله على والدي برزق مكّنه من بناء مرحاض لنا. بسيط، لكنه لنا. لأول مرة، استطعت أن أغلق الباب خلفي دون خوف. شعرت بأنني إنسان.
كبرت، وبنيت بيتًا لي. لم أنسَ أبدًا ما كنت عليه، فحرصت أن أضع مرحاضين، واحد لي، وآخر للضيوف. لم يكن الأمر ترفًا، بل وفاء لذاك الطفل الذي كان يقف في البرد، يلتصق بجدران متسخة، يبحث عن مكان يختبئ فيه من أعين المارة.
ومع تقدم العمر، أصبت بانتفاخ في المتانة. كشف الأطباء أن البرودة الشديدة في صغري هي السبب. حينها فقط فهمت أن ما مرّ بي لم يكن مجرد لحظات قاسية، بل ندوبًا تواصل طرق أبواب الجسد.
واليوم، حين أمرّ بأحدهم يتبول في العراء، يلفه الخجل أو يكسوه اللامبالاة، لا أحكم عليه، بل أراه أنا في مرآة الماضي. أتمنى فقط ألا يعرف أطفالي ما عرفته، وألا يقفوا يومًا في مكانٍ بلا باب.
َ
أحيانًا، كل ما يحتاجه الإنسان… أن يُغلق الباب خلفه.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى