نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

في بيتنا سكّرية

في بيتنا سكّرية!


رفعت رأسي وضحكت، كان صوت زوجتي يملأ فضاء الغرفة من حولنا وهي تغني: كورونا كل سنه مرّة! سألتها والضحكة باقية كوشم على شفاهي: السخرية من الأغنية أم من السيدة فيروز أم من كورونا؟ قالت لا من الأغنية ولا من السيدة فيروز ولا من كورونا. ثم أضافت: بل لا أسخر إطلاقا، ما غنيت سخرية من أحد. غنيت تعجبا منك ومن هذه الآلة الكاتبة التي أحدودب ظهرك عليها منذ ساعات الصباح الباكر. أمضيت سحابة صباحك تبحث عنها في مستودع مهجور لم تدخله الشمس من زمن بعيد، تنقب هنا وتنبش هناك، تحمل قطعة، وتضع أخرى، وها أنت الآن تمضي سحابة مساءك تنظف وتعدل وتصلح ما أفسده الدهر منها.

انكببتُ - والوشم ما يزال فوق شفاهي – على الآلة مرة ثانية أنظفها، أزيل عنها بقايا زيوت قديمة، أعدل أوضاع الحروف المتراصة فوق حاملة الأحرف. كانت هناك أحرف عديدة قد مالت عن مواضعها نحو اليمين أو نحو اليسار فعدلتها، لحسن حظي لم يتطلب الأمر أكثر من ضغطة قوية بالإبهام تسنده السبابة كما يسند السندان مطرقة تهوي من أعلى. اعتدل حالها جميعا عدا حرف واحد، نظرت إليه وخاطبته: يا لك من حرف لئيم! سوف أهملك تماما، سأتجنب كل كلمة تسكن إليها أيها الحرف العاق. يبدو أن صوتي كان عاليا وأنا أخاطب الحرف، أو مسموعا – على الأقل- لزوجتي، ولذلك ضحكت قائلة: حلمك قليلا على الآلة، وعلى كل قديم أسدى إليك معروفا ذات يوم. سمعت كلامها وانهمكت في آخر خطواتي: تنظيف حامل الأحرف بعد تصحيح حالته بقدر الإمكان.

قلت لزوجتي وأنا أنظف حاملة الأحرف تلك: هذه آلة المرحوم أبي. أنت تعرفينه محاميا لا يشق له غبار، لكنه لا تعرفين أنها آلته، كتب عليها كل مرافعاته، وجميع قضاياه وملاحظاته، وحتى الصكوك الشرعية التي كان ينسخ منها نسخة مطبوعة على الآلة كما يطلب الناس، ثم مات أبي وهي باقية على أحسن حال فورثتها عنه. قاطعتني قائلة: فعلا لا أعرف ذلك، لكني أعرف أنك كتبتَ عليها معظم رواياتك إن لم تكن كلها، وكتبت عليها كل قصصك الطويلة والقصيرة، والقصيرة جدا أيضا ولكن!

استوقفتني لكن هذه التي أغلقت عليها فمها فقلت لها بعد ثوان من الصمت: لكن ماذا؟ أجابت وقد ارتسمت الجدية على وجهها مثل نيشان على صدر محارب: ولكنك هجرتها، هجرتها بقسوة بعد استئناسك للحاسوب. ثم اقتربت مني لتقول: وهكذا أنتم الرجال!

رفعت رأسي وأسندت ظهري وضحكت بعمق، ضحكت كما لم أضحك من قبل، قلت لها: لماذا يا أمة الله تنصبين لي في كل منعطف كمينا؟ ثم بالله عليك بأي وصف تصفين الذي أقوم به الآن؟ أذهب إلى المستودع الموحش المتشبع بالغبار والأتربة، أقلب محتوياته راسا على عقب، ثم استخرج هذه الآلة من تحت الركام والغبار لصيانتها رغم عدم حاجتي إليها، ماذا تسمين هذا بالله عليك يا بعلتي؟ أليس هذا هو الوفاء بحذافيره؟ صمتت برهة، ثم تلبست جدية ما رأيتها عليها قبل اليوم، ثم تحدثتْ وكأنها تلقي قصيدة في محفل أدبي: ثلاثون عاما وهي مهجورة في مستودع أشبه ما يكون بمقبره، وبعد الثلاثين تتحدث عن الوفاء؟

استفزني ما سمعت، أو قل: استفز نواياي الطيبة! تركت الآلة ثم انتصبت مثل رمح سمهري، قلت لها بالفم المليان – كما يقولون -: اسمعي يا أم أبنائي، الرجال والنساء سواء أمام التقنيات التي تقودنا بشكل جنوني في شوارع الحياة، كل آلة تلعن التي قبلها، ونحن تبعا لذلك نترك القديم ونأخذ الجديد، أما سمعتِ قول الشاعر: بطلوا ده واسمعوا ده! ثم يا عزيزتي لم لا تنظرين في نفسك أيضا؟ انظري في نفسك أولا، كيف تركتِ النوكيا المسكين وتحولت إلى الآيفون؟ أم أن هذه لا تتوقف مشاعرك عندها؟ ومع أنني كنت أتحدث كما يتحدث تيم ماتيسون في بونانزا إلا أنها ضحكت، ضحكت فقط. وهي عندما تضحك دون أي كلام فإنها تفسد عليّ انتصاراتي عادة!

أكملت ضحكتها الماكرة ثم ضربت بيدها على طرف المنضدة، وبهدوء نَهَضَتْ من فوق مقعدها. قالت إنها ستذهب لتروي النخلة السكرية التي غرسها أبي في الحديقة وخرجت. خرجت بالفعل، خرجت وتركتني مثل سيارة ارتفع غطاء ماكينتها في ظهيرة من لهب. قلت لنفسي: أيّ نخله؟ تابعتها من مكاني بعينين ملؤهما ألف سؤال. عدت لنفسي وقلت في داخلي: ما عرفت في بيتنا نخلة واحده منذ فتحت عيني على الحياة وإلى يومنا هذا. التفت حيث رأيتها آخر مرة وهي تخرج ثم همست: يبدو أنها تخطط لمعركة أخرى، نعم هي تخترع قضية أخرى وإلا فلا نخلة في بيتنا، نعم وألف ألف نعم فأنا أعرف أنه لا نخلة في بيتنا.

عدت أنظف أذرعه الحروف في الآلة، جلست وانكببت لكني رفعت رأسي ثانية وسألت: عن أي نخلة تتحدث؟ أما لو صدقت فستكون فضيحتي بجلاجل، نخلة في حديقتنا ولا أعرف عنها شيئا؟

نهضت من مكاني وأنا أعرف أنه لا نخلة عندنا، بل وأقسم على ذلك، لكن – وللحق- فقد غبت عن الحديقة سنين طويله، فلماذا أقسم؟ ما الذي يدريني؟ لعل أبي قد غرس فيها فسيلة يوم إن كان حيّا، ثم كبرت تلك الفسيلة حتى أصبحت نخله. أبي كان مغرما بالزراعة، وأنا ما حضرت يوم غراسها ولا عشت معها وهي تنمو يوما بعد يوم، وزوجتي تلوب أرجاء البيت وأطراف الحديقة في كل ساعة مثل ذئب قَلِق، بل في كل دقيقة بل في كل ثانية. ضحكت من هذا الوسواس الخنّاس ثم قلت: من يدري؟

فركت جبيني ولعنت أبو الكورونا وعزلة كورونا، هذا الفراغ الطويل يبدو مثل نفق طويل في طريق طويل. لقد بعثرنا في عزلتنا هذه كل شيء، الماضي والحاضر، وحتى المستقبل لم يسلم من نبش أظافرنا. لكن – ولكي أكون منصفا- فقد عدنا - بسبب هذه العزلة - إلى بيوتنا، إلى روائحنا، بعد أن غبنا عنها كثيرا وطويلا. أخذتنا مشاغل العمر، طوحت بنا بعيدا عن أنفسنا، ألقت بنا خارج ذواتنا. أودعنا طيبتنا ومحبتنا داخل مستودعات مظلمة، ثم أغلقنا عليها الباب وأحكمنا عليها الأقفال، والان عدنا، عدنا فما حكمة أن نلعن كورونا؟

مشيت على رؤوس أصابعي، أمشي بتؤدة وركبتي تصفق أختها، اتجهت صوب النافذة وأنا خائف أترقب، أترقب حتى لا تراني فلربما كانت معي هنا ولم تخرج، لا أريد أن يظهر لها مني هزيمة أو يظهر لها مني تردد أو خَوَر. فتحت باب النافذة دون أن تحدث صوتا على غير عادتها، حدثت نفسي: قلت أطل منها وكأنني أبحث عن شمّة هواء لا غير، شمة هواء فقط، وفي هذا الأثناء أكون طالعت الحديقة من أقصاها إلى أقصاها، هل هناك نخلة سكرية بالفعل أم ذلك نسج خيال، شرك تنصبه زوجتي فحسب.

فتحت باب النافذة الخارجي ويداي ترتعشان، أخرجت رأسي مثل رضيع كانغر ينظر إلى الكون الفسيح وهو في جيب أمه، مسحت الحديقة كما يفعل الباركود إذ يبحث عن السعر، مسحت الحديقة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بحثت بحث فاحص مدقق فلم أجد لا نخل ولا سدر ولا حتى زوجتي. أعدت رأسي للخلف، أخرجته من إطار النافذة ثم أغلقتها بهدوء، أغلقتها واستدرت فلما استدرت وقع وجهي بوجهها وهي تسأل بمكر: شفت النخلة السكرية؟!
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى