المصطفى سالمي
كاتب
ها هو السيد (الراضي) يجد ذاته المبعثرة وسط الحشود التي ملأت المدرجات بالجماهير الرياضية، كان حقا في حاجة لأن يحتضن الناس ليذيب همومه وآهاته، ليصرخ بكل الألم والمعاناة والقهر، وكل الأحاسيس السوداء التي تراكمت على مدى أيام عمره، هنا دون شك سيتخفف ويذيب جزءا من الغبن الدفين في أعماقه، لقد وجد نفسه منذ لحظات مدفوعا دفعا بسيل عاتٍ من الطلبة والتلاميذ والناس البسطاء الشعبيين المنبسطة أساريرهم رغم خطوط الزمن وآثاره القاهرة على محياهم التي تخبر بكل شيء، ليجد (الراضي) نفسه أخيرا يعبر الأدراج وينزلق على كرسي من الكراسي البلاستيكية، وما هي إلا لحظات معدودات حتى اكتظت المدرجات بالرؤوس، ولم يعد يُرى مكان فارغ بين الحشود الغفيرة، وتعالت الأعلام الخضراء وسحب الدخان المتموج على إيقاعات هتافات جمهور فريق (الرجاء)، وما كاد اللاعبون يمررون الكرة بين رجلهم معلنين انطلاق المباراة حتى ارتفعت الحناجر بالأنشودة المنتظرة: (في بلادي ظلموني)، كان الكل يرددها كأنما حفظوها في حلم جميل، كان التحمس لها كبيرا أكبر من التأهل لنهائي الكونفدرالية الأفريقية، وارتفعت الأيدي للسماء كأنما تعلن انطلاق معزوفة الدعاء على الظالمين: (انصرنا يا مولانا)، أحس (الراضي) بالرعشة والقشعريرة، وتصبب عرقه غزيرا على عموده الفقري، كانت الأصوات تعلن الاستسلام للقهار لكي يأخذ لها حقها من عدو ما لها من سبيل لمواجهته، إنها التعبير عن المظلمة في أبهى تجلياتها، وإنها نداء الشكوى النابع من ذات مقهورة (الشكوى للرب العالي)، كان الكل يردد هذه الملحمة التي تهتز لها الأبدان وتخفق لها الأرواح، فتتزلزل جنبات المركب الرياضي (محمد الخامس)، صوت واحد ولحن واحد وأحاسيس مشتركة، كانوا كأنما يتحدون وهم عقر دارهم ضد جلادهم الخفي، فهو يظهر لهم أنه واحد منهم وليس دخيلا عليهم، لكنه يتلون بألف لون وله رؤوس عديدة كتنين أسطوري برؤوس شيطانية يلفظ منها النار والشرر، لقد احتاروا في أمره وأعجزهم التصدي له مما جعلهم يعيشون حالة ضبابية كالغمامة التي تمنع الرؤية عن طائفة كبيرة من المغيبين: (في هذه البلاد نعيش في غمامة، نطلب السلامة، انصرنا يا مولانا)، كانوا حقا يعبرون بإشراق وابتهاج عن واقع مرير، تذكر السيد (الراضي) ذلك البيت الشعري القائل:
لا تحسبن أن رقصي كان من ضحك # فالطير يرقص مذبوحا من الألم
هكذا رآهم وهم يتحركون ويتموجون وتهتز تحت أقدامهم المدرجات معبرة عن الجرح والنزيف والألم بسبب قتل الشغف والأحاسيس الجميلة داخلهم، إنه الإحساس بجمالية الحياة الذي بدأوا يفتقدونه في هذه البلاد، كانت كلماتهم مكتوبة بالدموع والدم، ومن يرددها لا يملك نفسه ولا يحبسها عن سكب العبرات الحارة والحارقة..
أحس (الراضي) نفسه أنه الآن ـ أكثر من أي وقت مضى ـ واحدا من هؤلاء، هم إخوته وأصدقاؤه وأعمامه وأبناؤه وكل شيء، تمنى لو يحضنهم واحدا واحدا، وحتى بعد انتهاء المباراة كانت أعماقه ما زالت مشدودة إلى المكان والناس، لكن سيل الحشود كان يدفعه هذه المرة نحو الخارج من حيث لا يشعر، هو الآن يحس كأنه ريشة تطير في السماء، وقد تخففت من أحمالها وأثقالها التي راكمتها على مدى الأيام والشهور، عاد (الراضي) لحياته من جديد، عاد لبؤسه وأعبائه الصغير منها والكبير، عاد ليدندن في كل وقت وحين بشعار: (أوووه الشكوى للرب العالي، أوووه هو اللي داري بحالي...)
لا تحسبن أن رقصي كان من ضحك # فالطير يرقص مذبوحا من الألم
هكذا رآهم وهم يتحركون ويتموجون وتهتز تحت أقدامهم المدرجات معبرة عن الجرح والنزيف والألم بسبب قتل الشغف والأحاسيس الجميلة داخلهم، إنه الإحساس بجمالية الحياة الذي بدأوا يفتقدونه في هذه البلاد، كانت كلماتهم مكتوبة بالدموع والدم، ومن يرددها لا يملك نفسه ولا يحبسها عن سكب العبرات الحارة والحارقة..
أحس (الراضي) نفسه أنه الآن ـ أكثر من أي وقت مضى ـ واحدا من هؤلاء، هم إخوته وأصدقاؤه وأعمامه وأبناؤه وكل شيء، تمنى لو يحضنهم واحدا واحدا، وحتى بعد انتهاء المباراة كانت أعماقه ما زالت مشدودة إلى المكان والناس، لكن سيل الحشود كان يدفعه هذه المرة نحو الخارج من حيث لا يشعر، هو الآن يحس كأنه ريشة تطير في السماء، وقد تخففت من أحمالها وأثقالها التي راكمتها على مدى الأيام والشهور، عاد (الراضي) لحياته من جديد، عاد لبؤسه وأعبائه الصغير منها والكبير، عاد ليدندن في كل وقت وحين بشعار: (أوووه الشكوى للرب العالي، أوووه هو اللي داري بحالي...)