نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

تحليل نصّ: لجان بول سارتر حول النيّة السيئة

تحليل نصّ:
لجان بول سارتر حول النيّة السيئة

يقول جان بول سارتر:
"ولكن الحكم على الآخرين ممكن من جهة أخرى، لأنّ الإنسان كما قلنا من قبل يختار وفي ذهنه الآخرون، وهو يختار نفسه وفي ذهنه الآخرون.
ونحن نستطيع أن نحكم أوّلا على الاختيار: هل هو صواب أم خطأ. وحكمنا هنا ليس حكما على قيمة، ولكنّه حكم منطقي، ونستطيع أن نحكم على إنسان ما بأن نقول إنّه يخدع نفسه: وما دمنا قد عرفنا موقف الانسان بأنّه موقف يمارس فيه الإختيار الحرّ، ولن يجد أحد عذرا أو يبذل له مساعدة، فإنّه لو احتمى خلف عذر عواطفه، أو خلف أي نظرية جبرية، يكون انسانا مخادعا لنفسه.
وربّ معترض يقول: "أليس من الممكن أن يختار الإنسان أن يخدع نفسه"؟
وأنا أجيب فأقول: ليس عليّ أن أحكم عليه أخلاقيا، ولكنّي أكتفي بالحكم على خداعه لنفسه بأنّه أمر خاطئ.
لا أستطيع هنا إلاّ أن أقول كلمة حقّ، لأنّ خداع النفس نوع من الكذب يطمس حرّية الإلتزام التامّة، وإنّي لا أقول أيضا، أنّي لو اخترت التصريح بأنّي قد تأثرّت بقيم سابقة، فإنّي أخادع نفسي كذلك، بل وأناقض نفسي إذا صمّمت على تحصيل هذه القيم وفي نفس الوقت قلت إنّها تفرض نفسها عليّ.
ولو قال قائل لي: "وماذا لو رغبت أنا نفسي في خداع نفسي؟"
وأنا أجيب: " لا داعي لأنّ تكون غير ذلك. ولكنّي أصارحك أنّك الآن حالاّ تخدع نفسك وتضلّلها، وأنّه ما لم تكن غير متناقض مع نفسك، فأنت تدين بعقيدة فاسدة.
وأكثر من ذلك أستطيع أن أصدر حكما أخلاقيا: بأن أعلن أن الحرية في الظروف العينية لا يمكن أن تكون لها غاية أو هدف آخر خلاف نفسها. وإذا ما اعترف الإنسان مرّة بأنّه مبدع القيم وخالقها، فإنّه لن يطلب إلاّ شيئا واحدا فقط: وهو الحرية: سينادي بالحرية أساسا لكلّ القيم، وسوف يطلبها طالما أنّه في وحدته والعزلة التي يعيش فيها، لن يجد ما يطلبه سوى أن ينادي بها.
ولكن هذا لا يعني أنّه يطلبها في حالتها المطلقة، بل لأجل نفسها: لأنّها حرية. إن إنسانا ما، عضوا في جمعية شيوعية أو ثورية، ليطلب تحقيق غايات محدّدة، منها إرادة الحرية، لكنّها الحرية التي لا تمارس إلاّ في المجتمعات.
إنّنا نمارس الحرية من أجل الحرية، وسوف نطلبها من خلال ظروف معيّنة، وبسعينا خلف الحرية نكتشف أنّها تتوقّف كلّية على حرّية الآخرين، وأن حرية الآخرين تتوقّف على حرّيتنا.
والحرية من حيث هي تعريف بالإنسان لا تتوقّف على حرية الآخرين، ولكنّي عندما ألتزم، أطلبها لنفسي كما أطلبها للآخرين. وأجعلها غايتي، وأدمج في تلك الغاية حرية الآخرين. ومن ثمّ فأنا عندما أعترف، عن حقّ، بأن الإنسان هو الكائن الذي يسبق وجوده ماهيته، وأنّه لذلك حرّ، ولا يستطيع إلاّ أن يريد حريته في مختلف الظروف، ومن ثمّ فلا يستطيع إلاّ أن يريد حرية الآخرين، فإنّني باسم إرادة الحرية، التي هي جزء من الحرية ذاتها، أستطيع تكوين أحكام أصدرها على كلّ من تحدّثه نفسه على أن يتخلّى عن مسؤولية وجوده وطمس معالم حرّيته.
والذين يطمسون حريتهم الكاملة بحجّة أنّهم لا يريدون الحرية، وإنّما يريدون أن يعيشوا الحياة متّزنين جادّين، أو بحجّة أنّهم كانوا مضطرّين تحت ضغط ظروف قدرية حتمية، هؤلاء ندعوهم جبناء (les lâches).
أمّا الذين يحاولون البرهنة على أن وجودهم ضروري، في الوقت الذي لا يعدو فيه وجودهم أن يكون مجرّد عَرَضٍ لوجود الجنس البشري على الأرض، يعني أن وجودهم إنْ هو إلاّ مجرّد وجود ـ هؤلاء أطلق عليهم اسم "الأنذال" (les salauds). لكنّنا لا نستطيع الحكم على "الجبناء"، ولا على "الأنذال"، إلاّ إذا كنّا مخلصين في الحكم عليهم إخلاصا حقيقيا.
وهكذا نجد أن الأخلاق في شكل من أشكالها، عالمية، مع أن محتواها متغيّر. وقد أعلن "كانت" أن الحرية هي إرادة، إرادة لذاته، وإرادة لحرية الآخرين في نفس الوقت. وأنا أوافقه على رأيه: لكنّه يرى أن الصورية والعالمية كافيتان معا لتكوين على الأخلاق.
أمّا نحن فنقول على خلاف "كانت"، أن المبادئ الشديدة التجريد تخفق في تحديد العمل. وهنا نعود مرّة أخرى إلى مَثَل هذا الطالب الذي تحدّثت عنه سابقا، فأقول:
ما هي الأخلاق التي كان في وسع هذا الطالب أن يستند إليها في ارتحاله عن أمّه، أو البقاء إلى جوارها، وهو مرتاح الضمير في أي الحالين؟
لا نستطيع الجواب على ذلك السؤال، لأنّنا لا نجد ما نستند إليه في حكمنا، فمادّة الحكم عينية، وما هو عيني لا يمكن أن يخضع للتّنبؤ، إنّما هو شيء نبدعه ونصنعه. والمهمّ أن نعرف هل هذا الإبداع يتمّ باسم الحرية أم لا.
جان بول سارتر "الوجودية مذهب إنساني" من ص 56 إلى ص 60
ترجمة عبد المنعم حنفي​

التخطيــــــــــــــــط
I- ماهية الفرد هي اختيار حرّ
II- مفهوم سوء النيّة: الهروب من الحرّية بتعلاّت واهية
III-الردّ على اعتراض: قد يكون سوء النيّة اختيارا
1)- ردّ منطقي: الموقف المتماسك هو موقف يدلّ على النيّة الطيّبة
2)- ردّ أخلاقي: صاحب النيّة الطيّبة هو شخص يبحث عن حرّيته وراء اختياره لأهداف عينية
-IVأنواع سيّــئ الـــنـيّــــــة
1)- الجبناء: وهم من يطمسون حرّيتهم
2)- الأنذال: وهم من يعتبرون أن وجودهم ضروري
-Vالمبادئ الأخلاقية الصورية التي يدعو إليها كانط لا يمكن أن تحدّد السلوك
التمهيــــــــــــــــد

يقسّم ماركس المجتمع إلى طبقتين طبقة البرجوازية وطبقة العمّال وهو تقسيم على أساس اقتصادي لكن إذا نظرنا إلى حياة الأفراد بمنظار وجودي حياتي يومي قلنا أن هناك أحرارا وهناك عبيدا، هناك متسلّطون وهناك مغتربون، هناك ساديون وهناك مازوشيون (أو مازوخيون)، هناك قادة وهناك أتباع، هناك ناجحون وهناك فاشلون. مع هذا الواقع الصادم يجب أن نقرّ أن النّاس يولدون سواسية ولا تظهر عليهم عند ولادتهم علامات مسبقة للنجاح أو الفشل أو السادية أو الخنوع... فهم سواسية في عدّة ملكات كالوعي والحرية والمبادرة وجملة من الميول كالميل لإثبات الذات وتحقيق الإمكانيات والرغبات، وأن يتخلّى مجموعة من النّاس عن بعض هذه الملكات والميول الإنسانية دليل على أن هناك أمرا ما حصل. وليست تعنينا الأسباب الذاتية أو الموضوعية التي حملت البعض إلى الوضع السيّئ ولكن الذي يهمّنا هو:
الإشكاليــــــــــــــــة
هل هذا الوجود المأسوي مشروع؟ أليس من حق الفرد أن يختار وجوده وماهيته؟ كيف يفسّر المغتربون اغترابهم؟ هل لهم عذر يبرّر الوضع الذي آلوا إليه؟ ما هو حكم سارتر على تفسيرهم وعلى وضعهم؟ ما هو وصفه لهم؟
التحليــــــــــــــــــــل
I- ماهية الفرد هي اختيار حـــرّ

يعتبر سارتر أن من حقّ الفرد أن يختار ماهيته بنفسه لأنّه حرّ وهو حرّ لأنّ الوجود يسبق الماهية (l’existence précède l’essence) وهو مبدأ أساسي في وجودية سارتر. فما هي علاقة الماهية والحرّية بهذا المبدأ؟
في تفسير معنى الوجود يسبق الماهية يلتجئ سارتر إلى التفريق بين الوجود الإنساني ووجود الأشياء المصنوعة. فالأشياء المصنوعة قبل أن توجد فعليا، توجد كفكرة يحدّد فيها شكلها والغاية من وجودها. وهنا تكون ماهية أو جوهرا (على مستوى التصوّر) قبل أن تكون وجودا في الواقع. هذه الأشياء لأنها مادّية غير واعية يسمّيها سارتر موجودات في ذاتها (l’être en-soi)
على نقيض هذه الأشياء يولد الإنسان بلا ماهية (أي لا يحمل مسبقا ماذا ستكون مهنته وأعماله وأفكاره...) أي يولد وهو يفتقر لتحديد مسبق. كما أن انعدام الإله يفيد أن ما سيكون عليه الفرد لا يعطى له من السّماء. هذا الافتقار للتحديد الطبيعي والإلهي يعني ضرورة التحديد الذاتي. غياب التحديد يعني حضور الحرّية. والحالة هذه، ليس أمام الإنسان إلاّ أن يصنع نفسه بنفسه أو بتعبير آخر عليه أن ينصنع. وهذا ما يسمّيه سارتر "الجبرية في الحرية" يقول سارتر "لقد حُكم على الإنسان بالحرية" (l’homme est condamné à être libre). غياب التحديد الطبيعي والإلهي يعنى أن الإنسان لم يوجد من أجل الطبيعة أو من أجل الإله، وإنّما يوجد من أجل نفسه، من أجل أن يكون هو. لذلك يسمّيه سارتر "الموجود لذاته" (l’être pour-soi). ومثلما أن الإنسان لم يولد بتحديد مسبق معه كذلك لا يجب القول إن هناك عوامل ستعترضه في حياته ستحدّده وتقيّده كالظروف الاجتماعية والقوانين ومتطلّبات الحياة الاجتماعية. فليس أمام الإنسان التملّص من حرّيته. هذا ما يجب أن يكون. لكن ما هو كائن ليس دائما ما يجب أن يكون. فالواقع أن هناك أناسا يهربون من حرّيتهم. وماهياتهم ليست هي التي يريدونها. فكيف يفسّر ويبرّر هؤلاء فشلهم في تحقيق كيانهم؟ وما هو حكم سارتر على تفسيرهم؟
II- مفهوم سوء النيّة: الهروب من الحرّية بتعلاّت واهية
كيف يبرّر أصحاب النيّة السيّئة فشلهم في تحقيق كيانهم؟
يرى بعض الفاشلين في تحقيق ماهياتهم كما يريدونها أن للظروف سلطة على حياة الفرد. فالواقع المعيش ليس المجال الذي يسمح بتحقيق ما نريده فهو يخفي مفاجآت تطيح بآمال الفرد. فعندما يريد الإنسان لا يُعترض عليه، ولكن عندما يسعى لتحقيق ما يريد تظهر سلطة الواقع. وهو مضطرّ للاحتكاك بالواقع لأنّه المجال الذي تتحقّق فيه رغباته. وممّا يعقّد الأمور أن قدرة الإنسان محدودة وهو يخضع لمستلزمات الحياة الاجتماعية ولا يؤثر فيها إلاّ بشكل محدود ولذلك ليس مسؤولا عن فشله. هناك وضعيات لا تفيد فيها عزيمة ولا تقهرها إرادة. وتبعا ذلك علينا أن لا نحكم على قيمة الشخص حسب ما يأتيه من أفعال. فالأعمال التي يأتيها لا تعكس حقيقة إمكانياته ومواهبه وبالتالي شخصيته. إن الظروف لا توفّر للفرد مجال تحقيق إمكانياته. حتّى أنّنا نكاد نقول إن حقيقة الإنسان ليست في ما قام به ولكن في ما لم يقم به. ليس الفاشل هو من لا يرغب في النجاح ولا يملك عزيمة وإنّما هو الذي تنكّر له وتبسّم له الشقاء.
هل هذه التبريرات مقنعة في نظر سارتر؟ ما هو موقفه منها؟
يعتبر سارتر أن كلّ شخص لا يرى نفسه مسؤولا عن فشله في تحقيق كيانه وبالتالي يلحق المسؤولية بالظروف والحتمية والغرائز والانفعالات هو شخص يخادع نفسه أو يكذب على نفسه يسمّيه "شخص سيّئ النيّة" (une personne de mauvaise foi). ولتوضيح معنى سوء النيّة أو الكذب على النّفس يمكن أن نقارنه بالكذب بشكل عام. هناك علاقة وطيدة بين سوء النيّة والكذب (le mensonge). الكذّاب يدعونا إلى أن نصدّق ما يقول دون أن يعتقد هو في صدق ما يقول. إن وعي الكذّاب يترفّع عن تصديق ما يقول. فهو واع إنّه يكذب على غيره وواع أنّه لا يكذب على نفسه. على النقيض من ذلك فإنّ الشخص سيّئ النيّة يخادع نفسه فيتأثّر بالشخصية التي يمثّلها ويتبنّى الحجج الواهية التي يعرضها. فهو يفرض على نفسه قبول ما لا يصدّقه.
قد يبدو هذا الكلام لغوا في نظر البعض، لأنّهم يسلّمون أن كلّ وعي من المفروض أن يكون واضحا بالنسبة لنفسه. فهم يرون أنّه يمكن أن نجهل ما يدور في خلد غيرنا لكن لا يمكن أن لا نشعر بما يدور في خلدنا. بهذا الشكل من المفروض أن يعي الشخص الذي يكذب على نفسه، أنّه يكذب على نفسه. وإذا وعى بذلك هل يسمّى ما يسعى ليقنع نفسه به، أنّه حقيقة، والحال أنّه يعرف أنّه كذب؟ بطريقة أخرى لكي ينجح كذبي على نفسي لا بدّ أن أعي بالحقيقة التي سأخفيها عن نفسي، لا بدّ أن أعرف ما سأخفي عن نفسي، ولكن إذا وعيت بما سأخفي عن نفسي، انتفى الإخفاء. كيف سأخفي عن نفسي أمرا ووعي هو الذي سيقوم بعملية الإخفاء؟ وهكذا يستخلص المعترضون أنّه لا يمكن أن أكذب على نفسي طالما أنّني أعي بهذا الكذب.
هذا الاعتراض منطقي وليس واقعيا. فللواقع منطقه الخاص. في الواقع يتعرض الفرد منذ صغره إلى عوائق وهي عموما ترتبط بنظام الطبيعة وبالقوانين السيّاسية والقواعد الأخلاقية والتعليمات الدينية. وهذه العوائق تتعارض مع رغباته بدعوى أن ما هو مرغوب فيه إمّا هو غير ممكن أو محرّم دينيا أو ممنوع اجتماعيا.
فما هي النتيجة؟ تتشكّل في النفس الإنسانية منطقة اللاوعي وهي جملة من الرّغبات المكبوتة. إن كان هناك لاوعي أو لاشعور فلأنّ الوعي الفردي يرفض أن تكون رغباته محرّمة. فهو رمز كبته وفشله لذلك يقصيها من وعيه وكأنّه بذلك يتخلّص من وعيه بفشله. ولكن هل يركن هذا اللاوعي المسجون (الرّغبات المكبوتة) للصمت؟ يظلّ هذا اللاوعي يزعج الفرد برغبته في الظهور والتحقّق. لذلك يجد الفرد نفسه مضطرّا إمّا لتحقيق رغباته المكبوتة علنا فيخرق القانون والشرع والأخلاق فينظر إليه على أنّه مجرم أو مجنون، أو يسعى ليعترف بهذه المحرّمات ويقنع نفسه بضرورتها رغم أنّه في قرارة نفسه وفي لاوعيه هي عوائق وحواجز ولكن لأنّه عانى من التمزّق النفسي يحاول أن يقبل مكرها هذا المنبوذ. وهذا هو معنى سوء النيّة. سوء النيّة يتمثّل في أن يقيم الوعي مصالحة أو تعاطفا أو هدنة مع ما يرفضه. سوء النيّة هو ذلك الخضوع للضرورة، لما لا يردّ، والإدّعاء أنّنا نريد ذلك. عندما يعتقد شخص ما أنّه عليه أن يقبل الموت لأنّ لا مفرّ من ذلك يكون سيّئ النيّة لأنّه يكذب على نفسه. إن الفكر يسعى ليخضع نفسه بنفسه، يسعى ليتحايل عليها ويكذب عليها هروبا من حقيقة لا يقبلها. كذلك الشخص الذي يلقي التبعيّة على الظروف هو في الحقيقة لا يعترف بحرّيته ويتهرّب من مسؤوليته وهذا الشخص سيّئ النيّة لأنّه يغالط نفسه ويخدعها. والعامّي الذي يقرّ أنّ هناك إلها في هذا الكون ويسعى جاهدا لإسكات تلك الأسئلة الداخلية التي تشكّكه في وجود الله من قبيل من خلق الله، هو إنسان سيّئ النيّة.
ولسائل أن يسأل وماذا يريد سارتر وهو الخاضع مثله مثل من يسمّيهم هو أصحاب النيّة السيّئة؟ ما يميّز سارتر عن هؤلاء هو أنّه متحرّر نظريا. فهو وإن كان مثله مثل غيره يخضع للحتمية وللظروف إلاّ أنّه لا يريد ما لا يريده ولا يتصالح معه. وكأنّه يقول: أعرف أنّي سأموت ولكن موتي لا يسلب منّى كرهي له ورفضي له. موتي لن يفتك منّى الاعتراف به. سأظلّ أردّد الموت مصيبة وهذا هو موقفي مع كلّ ما أرفضه. بنقد النيّة السيّئة يدعو سارتر لأن يكون الإنسان مخلصا لنفسه، متحرّرا على المستوى النظري. هل هناك ضرورة لأنّ يحبّ العبد سيّده؟ أبدا هو حرّ في موقفه من سيّده ومهما فعل سيّده فلن ينزع منه الاحتقار الذي يكنّه له. ولكن سائل أن يسأل: ولماذا نبحث عمّا يجبر هذا العبد على حبّ سيّده والحال أنّه قد يكون ألزم نفسه بحبّه ونجح في ذلك وصار يحبّه بالفعل؟ على افتراض أن سوء النيّة أو خداع النّفس أمر حاصل "أليس من الممكن أن يختار الإنسان أن يخدع نفسه"؟
III- الردّ على اعتراض "قد يكون خداع النّفس اختيارا"
1) الردّ المنطقي: الموقف المتماسك هو موقف يدلّ على النيّة الطيّبة

من الناحية المنطقية يجب أن نسلّم أن الشخص ذا النيّة السيّئة، هو متناقض. هناك تناقض بين ما يعتقده في قرارة نفسه (وهو رفض ما يكبته وما يكرهه) وما يسعى للوصول إليه (وهو التصالح مع هذا المكبوت). يقول سارتر" Je suis en contradiction avec moi-même si, à la fois je les veux et déclare qu’elles s’imposent à moi ".. فكرة "الرغبة في أكون سيّئ النيّة" هي في الواقع جزء من مشروع سوء النيّة لا يمكن لشخص صادق مع نفسه أن يرغب في أن يكون سيّئ النيّة. ولهذا، بهذا العناد يعمّق أزمته النفسية ولا يحلّها. لذلك يقول سارتر لمن يحاول أن يقنعنا ببطولته في خداع نفسه، هنيئا لك "لا داعي لأن تكون غير ذلك. ولكنّي أصارحك أنّك الآن تخدع نفسك وتضلّلها".. إن الموقف الواضح والمتماسك هو علامة من علامات النيّة الطيّبة وهو موقف يفتقره أصحاب النيّة السيّئة.
2) ردّ أخلاقي: صاحب النيّة الطيّبة هو شخص يبحث عن حرّيته وراء اختياره لأهداف عينية
وإذا نظرنا إلى هذا الاعتراض من الناحية الأخلاقية أو العملية، اكتشفنا أنّه اعتراض غير جدّي. فما هي النتائج على المستوى العملي أو الأخلاقي لهذا الطلب: "أريد أن أكون سيّئ النيّة". لن يتحقّق لهذا المريد شيئا مفيدا. من المفروض في هذا الباب أن من يريد، يريد أمرين على الأقلّ:
أوّلا: يريد نجاحات عملية ملموسة، كالنجاح في الدراسة، تحقيق أرباح. والذي ينخرط في نقابة شيوعية ينتظر تحقيق أهداف عملية معيّنة. ولا تعنى النجاحات العملية بالضرورة تحقيق انجازات لم تكن، فقد تكون بالتخلّي عن عادات سيّئة عن إرادة وتصميم كالتخلّي عن التدخين أو شرب الخمر. كلّ هذه الأعمال هي تجسيد لإرادة حرّة ونجاحات على مستوى عملي.
ثانيا: وراء كلّ هدف يرسمه الفرد ويسعى لتحقيقه هناك هدف ضمني هو الحرّية. يريد الفرد أن يشعر أنّه حرّ. يقول سارتر "وإذا ما اعترف الإنسان مرّة بأنّه مبدع القيم وخالقها فإنّه لن يطلب إلاّ شيئا واحدا فقط: هو الحرّية".. فهل من يريد أن يكون سيئ النيّة، يريد أن يكون حرّا حقّا ويريد أن يحقّق هدفا عمليا مفيدا له؟ أبدا!! إنّه بهذه الرّغبة يخدع نفسه ويهينها ويكرّس اغترابه.
يتبيّن لنا ممّا سبق أن سوء النيّة هو خيار خاطئ وغير مفيد، فهو ليس إلاّ خداعا للنفس وعائقا للحرّية وأن الحرّية مبدأ يستحيل التنازل عليه.
وجدير بالملاحظة هنا أن نشير إلى أن الحرية وإن كانت مطلبا ذاتيا إلاّ أن تحقيقها لا يتوقّف على الذات. فلأنّ الحرية مبدأ لا يكتسب قيمته إلاّ من خلال الممارسة، يصطدم الفرد بالمجتمع في تحقيق حرّيته، ولذلك تحقيقها لا يتوقّف على الذات فقط. وأفضل سبيل في نظر سارتر لتجسيد حرّيتنا هو أن تصبح حقّا مشروعا للجميع. لذلك من مصلحة كلّ فرد كي يظفر بحرّيته أن يسمح لغيره أن يكون حرّا. إن أيّ فرد لا يمكن أن يكون حرّا في مجتمع من العبيد يرون أن الحرية مطلب صبياني. لذلك فالتزامي بالدفاع عن حرّيتي يصحبه التزامي بالدفاع عن حرّية الآخر. يقول سارتر "وبسعينا خلف الحرية نكتشف أنّها تتوقّف كلّية على حرّية الآخرين، وأن حرّية الآخرين تتوقّف على حرّيتنا". وبهذا التوجّه تكون الوجودية بالفعل فلسفة إنسانية وبالتالي تكون بعيدة عن تلك التهمة التي وجّهها إليها البعض وهي كونها فلسفة ذاتية تشجّع على الأنوية مردّدين تلك القولة التي أثارت لغطا كبيرا "الجحيم هو الآخر" (l’enfer c’est les autres).
يقسّم سارتر سيّئي النيّة إلى قسمين: الجبناء والأنذال.
IV- نوعا سيئي النـيّـــّة: الجبناء les lâches والأنذال les salauds
1) الجبناء: هم الذين يطمسون حرّيتهم

الجبناء هم الذين يتخلّون عن حرّيتهم بتعلاّت واهية ويبرّرون جبنهم بحجّتين حسب سارتر:
الأولى: يدّعون أن النهج الحياتي الذي اختاروه هو نهج الجدّية. وهم لا يرغبون في التمرّد على مجتمع له فضل عليهم. علاوة على ذلك فإن الحياة الاجتماعية تتطلّب الانضباط والطاعة.
الثانية: الإنسان كائن يخضع للحتمية الطبيعية والتاريخية والاجتماعية... فهو يفكّر في إطار منظومة اجتماعية وخاضع للعصر الذي يوجد فيه.
هاتان الحجّتان هما في نظر سارتر واهيتان. ولو كانتا صحيحتيْن لما كان هناك إبداع واكتشافات وتطوّر وتمرّد على المجتمعات التي تسيّرها ايديولوجيات بالية ودكتاتوريات
2) الأنذال: يحاولون البرهنة على أن وجودهم ضروري.
هم الذين يحاولون أن يضفوا الشرعية على وجودهم بالقول إنّه ضروري. وهم بقولهم هذا يشيرون إلى أن هناك حكمة هي التي خطّطت لوجودهم ليكونوا بالشكل الذي كانوا عليه. هؤلاء يقول عنهم سارتر أنّهم أنذال. وهم كذلك ليس فقط لأنّهم تافهون بل أكثر من ذلك لأنّهم يحاولون أن يكتسبوا قيمة لا عن جدارة ولكن عن وضاعة ودناءة. وكأن هذا الوجود لا تستقيم شؤونه إلاّ بوجودهم. وهم سيّئوا النيّة لأن في قرارة أنفسهم يؤمنون أن وجودهم في الواقع ترتّب عن وجود الإنسان على وجه الأرض ولا يجب أن نذهب إلى أبعد من ذلك. وواضح أن سارتر ينقد الدين.
إن اتّهام سارتر للبعض بأنّهم جبناء وأنذال يعني أنّه يدعو إلى نمط محدّد من الشخصية والسلوك وهذا يقتضي تبنّيه لأخلاق عالمية مطلقة هي ما يجب أن يتّبع. فهل يلتقي سارتر مع كانط الذي يعتبر هو بدوره أن المبادئ الأخلاقية هي عبارة عن أوامر مطلقة؟
V- المبادئ الأخلاقية الصورية لا يمكن أن تحدّد السلوك
يعتبر كانط أن مصدر الأخلاق هو العقل. فالعقل هو الذي يحدّد الإرادة الطيّبة. إن هذه الإرادة الطيّبة لا تطلب غير القوانين لذاتها. فهي لا تطلب الغايات النفعية أو السعادة الذاتية أو الطمع في الثواب. هي إرادة للفعل طبقا للواجب. ولكي نعرف هل أن ما نريده نابع من الإرادة الطيّبة وبالتالي من العقل أم لا، يوفّر لنا كانط مقياسا لذلك. علينا أن نسأل: "هل أريد لمسلّمتي أن تصبح قانونا عامّا؟" فإن لم نشأ ذلك فهي ليست قانونا أخلاقيا ويجب طرحها. كانط لم يضبط قوانين أخلاقية عملية كما تفعل الأديان كتحريمها للقتل والسرقة والخيانة... وإنّما وضع مبادئ نحكم بها على أخلاقية كلّ سلوك. ما هو موقف سارتر ممّا يدعو إليه كانط؟
إن المقاييس التي وضعها كانط للحكم على مدى أخلاقية السلوك هي مقاييس محدودة. يجوز أن نطبّق هذه المقاييس على القتل أو التعاون، السرقة أو الأمانة وغير ذلك لكن هناك وضعيات يصعب أن نطبّق عليها هذه المقاييس. من هذه الوضعيات وضعية التلميذ الذي جاء لسارتر وسأله هل يلتحق بالجبهة ويدافع عن بلده ضدّ المستعمر الألماني أم يظلّ بجانب أمّه المسنّة والوحيدة. التلميذ ممزّق بين الواجب الوطني والواجب العائلي. وكان جواب سارتر "لا نستطيع الجواب على ذلك السؤال لأنّنا لا نجد ما نستند إليه في حكمنا". ما يودّ سارتر أن يقوله في هذه القولة هو أن هذا التلميذ يسأل هذا السؤال وينتظر إجابة وكأن المسألة علمية ولها إجابة واحدة ثابتة مطلقة كأنّنا نسأل كم يساوي مجموع 2+3. السؤال الذي طرحه ذلك التلميذ لا يستطيع أن يجيب عنه إلا هو، لأنّه مسألة شخصية تتطلّب قرارا شخصيا حرّا ومسؤولا. هي مسألة مغرقة في الذاتية تخصّ صاحبها ولا يستطيع أحد أن يجيب مكانه أو يلومه على القرار الذي يتّخذه. بالنظر لهذه الوضعيات الخصوصية تعترض سارتر على كانط.
الـنـقــــــــــــــــــــــــــــد
1) إن نقد سارتر لأصحاب النيّة السيئة ووصفهم بالجبناء والأنذال فيه جانب من القسوة، فلا أحد يريد أن يخدع نفسه ولكن إن حصل ذلك فلأن هناك مصائب أتعس من سوء النيّة. للقضاء على النيّة السيّئة باعتبارها وضعية مأسوية لا بدّ أن نقضي على الأسباب التي جعلت هؤلاء يتصالحون مع ما يكرهونه ويخدعون أنفسهم بأنّه يمكن أن يحبّ. وهذه الأسباب هي التسلّط والقهر والاغتراب والفقر والجهل...
2) كما أن تقديس سارتر للحرية فيه مبالغة. فالإنسان يخضع لعدّة ضرورات وواجبات ومستلزمات ويجد نفسه ممزّقا بين عدّة واجبات. صحيح أنّه في النهاية يختار ولكن هو اختيار عن كره. ما يهمّ سارتر هو أن يكون الاختيار حرّا ولكن الأهمّ من ذلك هو الرضا عن الاختيار والاقتناع به والحرية هنا لا تكسبنا ذلك الرّضا.
3) ذوتة الأخلاق التي يدعو إليها سارتر أمر مزعج. يعتبر سارتر من خلال تعرّضه لوضعية التلميذ أن هذه الوضعية مسألة خاصّة لا يمكن لأيّ كان أن يتدخّل فيها ومهما كان القرار الذي سيختاره هذا التلميذ فهو الاختيار >الصائب. ما معنى هذا؟ هل نلغي النصيحة والإرشاد واللّوم؟ ثمّ ما هو الحدّ الفاصل بين ما هو خاصّ وما هو عام في الأخلاق؟
الخاتــمـــــــــــــــــــــــــــة
رغم أن ليس كلّ من اعتبره سارتر سيّئ النيّة قد أخطأ إذ أن للظروف سلطتها وقسوتها، لكن رغم ذلك فإن مفهوم سوء النيّة هو فضح لبعض النّاس الذين لا فقط قيّدوا أنفسهم بل يسعون لتقييد الآخرين تحت غطاء الضرورة والواجب والمصلحة. ويظهر ذلك خاصّة في سلوك بعض المتديّنين إذ لا يكفيهم أنّهم مغتربون فهم يحاولون جرّ الآخرين إلى أن يخدعوا أنفسهم وكلّ ذلك يقومون به تحت غطاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى