نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

مدينة الهلع

انتشر في مدينة (العجيلات) إحساس غريب بالهلع والرعب، لم يكن إحساسا عابرا، بل كان ارتعابا شديدا جارفا، من كل شيء ومن لا شيء، ساد وعم هذا الشعور كالنار في الهشيم، فاستنسرت الدواجن، وتمردت الأكباش والثيران والعجول، وجمحت الحمير والدواجن، لقد توحشت وأصبحت حرة بعد طول استعباد، هكذا استحال على "العجيلي" ـ (نسبة إلى مدينة العجيلات) ـ أن يمتطيها من جديد، أو حتى يقترب منها مخافة أن تركله شر ركلة، لقد أحست الحيوانات بغريزتها مدى الهلع الذي دبّ في نفوس "العجيليين"، فبارت وكسدت كثير من المهن، فمن الذي سيغامر بركوب قارب الصيد في البحر وهو الذي يرتجف من مجرد موجة صغيرة، فبالأحرى أن يركب أمواجا كقمم الجبال، ومن ذا الذي سيبني المنارات الشامخة أو يعتلي الأسوار العالية ليبني أو يرمم أو يطلي بالأصباغ..؟! هكذا دب الفساد والبوار والكساد في مفاصل مدينة (العجيلات)، وأصبحت الأخيرة تعد أيامها في بؤس وانكماش على ذاتها، ولم تعد النساء يجدن رجالا حقيقيين يحكمونهن ويلجموهن، فانطلقن في الأسواق والمواسم، تمردن وجمحن قليلا أول الأمر، ثم كثيرا بعد أن لم يبد أشباه الرجال أية ردة فعل، ثم زاغت النساء "حبة" فـ"قبة"، بل إنهن رقصن وزغردن عقب الحرية الموعودة أول الأمر، لكن ما لبثن في قرارتهن أن سكبن دموعا حارة على خيبتهن المريرة، وإن تكتمن في إخفائها، وهكذا ظهرت أمراض اجتماعية لم تكن تخطر في البال، فقد شاعت الأنانية ووهن القلوب وضعف النفوس وقلة الإيمان وموت الضمير وتوارت واختفت الحميّة والغيرة والأنفة وعزة النفس.
احتار الناس ـ القريب منهم والبعيد ـ في تفسير هذه الظاهرة، فمن قائل إنها لعنة أو غضب إلهي، إلى قائل إن عِرقا بعيدة في الأجداد أعادت (العجيلات) إلى أصلها الهلوع، لكن الثابت أن القلوب الوجلة استمرت في الخفقان، والأيدي والأرجل في الارتعاش، والنفوس الجوفاء تذوب وتسبح في الخواء، واستمر هذا الوضع إلى أن ورد على المدينة المنكوبة ومن غير ميعاد عابر سبيل يدعى: (مغامر بن المتهور) قادما من البلاد الشرقية، لقد شاهد الرجل ما لم تصدق عيناه، رأى حميرا وجيادا وأبقارا مستنفرة متوحشة تعدو هنا وهناك، ونساء وأطفالا يتسكعون وحتى يلتقطون مأكلهم من المزابل، عاين بغاء لا يخفى على العين، وأرضا بوارا وكسلا وأرض فحش في الكلام والسلوك رغم أن البلد أرض خصب وأشجار مثمرة.. انفرجت أسارير الرجل، فهذه هي البلاد التي يبحث عنها، وهؤلاء هم الناس الذين ينبغي أن يعيش وسطهم. التقى الرجل الوافد بسادة البلد المنخورين، الذين كانوا أسماء من غير مسميات حقيقية، وسألهم عن حالهم، وزعم لهم أنه قادم من بلاد الشرفاء، أصحاب البركة والسعد، وأنه على يديه سيحل الخير العميم على الجميع، واطلع منهم على أوضاع لا تسر صديقا ولا عدوا، لكنه طمأنهم أنه سيعيد إليهم النخوة المفتقدة والشجاعة المسلوبة، وستعود جيادهم وباقي دوابهم ذلولة خاضعة، ومواشيهم ودواجنهم منقادة كسابق عهدهم.. لكنه أقسم في قرارة نفسه أن يجعلهم هم المطية بالنسبة له.

كان شرطه عليهم أن يجعلوه حاكما عليهم حتى يكون مطاعا مهاب الجانب، هكذا كان الأمر، فهم لن يخسروا شيئا ولو جعلوا أميرا وحاكما عليهم الشيطانَ نفسَه، لقد فقدوا كل شيء يستحق أن يُخافَ عليه. واستعان (مغامر بن المتهور) بأعوان وعبيد لمساعدته في مهمته الموعودة، وكان أول امتحان لعبيده لكي يهبوا للخدمة دون وجل أو تردد هو أن يقوم كل واحد بذبح ذبيحة بمفرده وسلخها وتعليقها، لم تكن المهمة سهلة أو يسيرة بالنسبة لهم وهم المرعوبون الذين لا يقوون على مشاهدة منظر الدم، لكنه التخويف، يزيل من النفوس كل وجل أو رعب ساكن في ثنايا أي تجويف، فذبح العبيد الدواجن أولا ثم ذبحوا الخرفان وبعدها العجول تحت التهديد بالكي بالنار والضرب بالسياط، وما هي إلا أيام حتى قام عبيد (مغامر بن المتهور) بإعادة الجياد والحمير .. الجامحة التي كانت قد انطلقت في الغابات المجاورة والسهول الممتدة، حيث توحشت وازدادت ضراوة، لقد تمكن أعوان (مغامر) من نصب الشراك لها وتطويعها وإعادتها ذليلة خاضعة، تعجب وأعجب أهل (العجيلات) بصنيع الوافد الجديد، ولم تصدق أعينهم ما رأت، فأكبروا الرجل وتوجوه في حفل بهيج، لقد ظنوا أنه يتصرف هكذا معهم لأجل سواد عيونهم، فزوجوه أجمل بناتهم، وبنوا له قصرا، ولكن الرجل تزوج أخرى بل أخريات، وأصبحت له الجواري الحسان، ونعت بالسيد المطاع، وظن أهل المدينة أن الرعب سيتوارى من نفوسهم مع مقدم (مغامر بن المتهور)، إذ بالرعب يشتد ويقوى ويتجذر، لقد أصبح السيد المطاع هو مصدر الرعب الأقوى، وفرض الرجل عليهم الإتاوات والمكوس بدعوى محاربة الكسل والكسالى الذين لا يريدون شغلا، فالغلات يجبى له ثلثها، والأعمال والمهن والحرف له خمسها، هكذا أصبح الناس يشتغلون طوال اليوم لسد المتطلبات ومواجهة ارتفاع الأسعار والتهابها، وهبوا نحو المهن الكاسدة لعل فيها مداخيل أفضل لسداد الإتاوات المفروضة. لقد كان (العجيليون) في السابق عبيدا لنزوات الكسل والهلع، فأصبحوا اليوم عبيدا للجشع والطمع وذل الخضوع والهوان، وما زال (مغامر بن المتهور) يمارس سطوته على (العجيلات) وناسها، الآن عرفوا سر تسميته، فهو يستمد شجاعته من المغامرة، ولا يتردد في استعمال أي سلاح وأي رد فعل متهور لإرعاب الخصوم وإخضاعهم، لكنه لم يحتج كثير حيلة معهم، فقد دجنهم كما دجن حيوانهم وشجرهم وحجرهم، وما زال يمارس فيهم سطوته وجبروته بعدله المستبد إلى اليوم، يحكمهم بقوة الحديد والنار إن اقتضى الأمر، وبعد أن كان الهلع فيهم مجرد غريزة، أصبح الآن عادة عزيزة، فيه الملاذ، وإليه المنقاد، وهم الآن يحمدون ربهم أن سيدهم نيابة عنهم يفكر، ويشقى في عُرفهم وللأمور يُقدّر..!
 

جبران الشداني

المؤسس
طاقم الإدارة
راقتني الحكاية التي تحمل في طياتها عبرة للماجن في حريته و المسرف في رهبته و انقياده.
شخوص النص تمثل قيما و حالات أخلاقية واقعية، و إن أتى السرد ساخرا ، خفيفا، يستخدم الإيحاء الجميل بدل النقل المباشر للأحداث.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى