نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

عامل خامل

مالت الشمس باتجاه الأفق، وما زال (عبد المولى) يحمل أكياس الإسمنت ويخلطها بالرمل والحصى الدقيق، في أشغال شاقة تكاد تقصم ظهره، لقد أمضى زهرة شبابه في هذا العمل الذي لم يجن منه سوى التعب والأسقام. كان (المعلم الكرومي) البناء المسؤول عن هذه الورشة لا تتوقف تعليماته باتجاه مساعده (عبد المولى)، إذ تارة يطالبه بألواح لتثبيتها على الأسس والدعامات، وتارة يوجهه لقطع قضبان الحديد التي تمّ تشكيلها وفق مقاسات وأشكال معينة..
لم يرتح السيدان منذ ساعات الصباح الأولى، وها هي الشمس أعياها التنقل من هذا الأفق الشرقي لتترنح باتجاه الأفق الغربي، وما زال الاثنان في محراب العمل الشاق، وإن كان (المعلم الكرومي) أقل تعبا باعتباره يوجه الأشغال ولا يحمل أثقالا، ولا يخلط محتويات بالمجرفة، ولا ينقل أكياسا أو رملا عبر أدراج السلم..
لاحظ (الكرومي) الضيق الشديد الذي كان باديا على مساعده، من خلال تباطؤ حركته وأحيانا عدم اكتراثه بنصائحه، كانت بقع العرق قد أصبحت أكثر وضوحا على ثوبه، وربما كانت أعماق المساعد أشد تآكلا واحتراقا وتذمرا وانصهارا، ولم يكن (عبد المولى) يدري أن تقاسيم وجهه تقول ما لا يمكن لأي كلام أن يعبر عنه. كان (المعلم الكرومي) كأنما يدفع مساعده إلى الانفجار، فأوامره لا تنتهي أبدا، بينما تزداد خطوات (عبد المولى) تثاقلا، وأنفاسه تتلاحق لاهثة متعبة تنتظر حلول الظلام وسطوته على المكان، حتى يتوقف هذا العبث الذي يعيشه، بينما كلمات الرجل ـ الخبير بالبناء وبنفسيات أجيال من المساعدين الذين مروا بين يديه ـ تزيد الجرح الغائر في نفسية (عبد المولى) تعفنا. كان الرجل يقرعه ويوبخه باستمرار بأنه لولا تبلد دماغه، وعدم تفتح النور داخل جمجمته، لكان منذ زمن بعيد بناء حقيقيا لا مجرد مساعد، فقد أمضى عقدين من الزمن في أشغال شاقة كالدابة دون فائدة، دائما مساعدا في حرف عديدة دون امتلاك أصول وقواعد أية مهنة أو حرفة. والحقيقة أن (المعلم الكرومي) أدرك أن مساعده يؤدي غالبا ما يُطلب منه بمجهود أكبر ومردودية أقل، فحين يطالبه بنقل بعض الأثقال كان عوض أن يحملها على نقالة، يحملها على كتفيه، فيتأخر في نقلها ويُتعب ذاته أكثر. وحين يطالبه بقطع قضبان الحديد وفق مقاس معين، كان عوض أن يقيس قضيبا قام بقطعه بآخر، فإنه يحمل المتر ويبدأ من جديد يأخذ نفس القياسات، فيقضي وقتا أطول، ويحصل في النهاية على قضبان غير متساوية الطول..
كان (عبد المولى) حين يشدد عليه معلمه الخناق، تصبح الدنيا غمامة ضبابية أمام ناظريه، ويوشك أن يحمل معطفه ويولي بغير رجعة، لكنه يتذكر أن أسبوعا من العمل قد مرّ عليه وهو ينتظر أجرته على أحر من الجمر، فيحني رأسه ويطأطئه، ويستمر كالدابة التي أصبحت دامية الرقبة بعصا سيدها، ولكنها تتحمل ولا تتمرد مخافة عقوبة أشد وهي الحرمان من علف يقدمه سيدها..
تمر الأيام متثاقلة على (عبد المولى)، يخفف من وطأتها يوم الراحة الذي يصادف السوق الأسبوعي، حينها يذهب الرجل للحمّام الشعبي الساخن بحثا عن الانتعاش واسترجاع بعض الطاقة المهدرة، ويتوجه للسوق حيث يشتري لوازم البيت، ويعود وقد استعاد قليلا من هيبته أمام زوجته وأولاده، حيث يحضر معه مشتريات تدخل البهجة على الجميع، وعندما يتخفف جيبه تماما من المبالغ الهزيلة التي ترادف أسبوع عمل طويل رهيب، حينها يجد (عبد المولى) نفسه مدفوعا نحو ورشة البناء بقوة قاهرة متناسيا كل الكلمات القاسية التي تلقاها من (المعلم الكرومي)، ولكن هذا الأخير يتلقفه في بداية الأسبوع بلين كبير، منتظرا أن تمر ثلاثة أو أربعة أيام من العمل قبل سيل التوجيهات القاسية والأوامر التي لا ترحم، فهو بحكم الخبير المجرب لا يريد أن يورط نفسه باحتمال هروب مساعده بعد يوم أو يومين من العمل، ثم البحث في الموقف عن عامل جديد، سيحتاج وقتا طويلا ليختبر نفسيته ويتآلف مع طباعه ويقوم بترويضه، وربما قد يسرق العامل الجديد بعضا من عُدّة البناء ويختفي عن الأنظار...
استطاع (عبد المولى) و(الكرومي) التآلف بعد طول عشرة، إذ أصبحت كلمات (المعلم) عديمة التأثير في المساعد الذي ألفها، وكأنما تحجرت أحاسيسه، وفقد أي شعور بامتهان الكرامة، إلى أن كان ذلك اليوم المشهود الذي وقعت فيه حادثة غريبة للسيد (عبد المولى)، لقد أراد أن يجعل من نفسه (معلما بناء)، وشرع في إصلاح جدار متهالك في قرية أصهاره، فوقع ما لم يكن في الحسبان، إذ سقط الجدار على إحدى قدمي الرجل، فتهشمت ورقد (عبد المولى) لأسابيع طويلة بالمستشفى، ثم غرز قضيب حديدي في رجله، قبل أن يستعيد بعضا من عافيته، وتطلب الأمر مساعدة كثير من المحسنين.
مرّت شهور قبل أن يرى الناس (عبد المولى) يجر قدميه جرا في الشوارع والأزقة، لم يعد الرجل يقوى على العمل، وزاد وزنه زيادة ملحوظة، وكأنما تآلف مع وضعه الجديد، فبدأ يمر على كل بيت اشتغل به في سنوات العافية طالبا العون والمساعدة المادية، ولم يكن الناس يبخلون عليه بذلك، لكنه ألف الركون للشكوى والأنين، فبدأت المساعدات تشح تدريجيا، ذلك أن (عبد المولى) استساغ الراحة والكسل والخمول، متعللا بأن لا أحد يستجيب لطلبه العمل مساعدا له، وحينها بدأ الكثيرون يصدقون اتهامات (المعلم الكرومي) القديمة أيام كان لا يتوقف عن تقريعه واتهامه بالتراخي والتثاقل والعجز والكسل، كان وقتها يعتقد هؤلاء أن (الكرومي) يبالغ في تشدده وفي تجريحه لمساعده، إلى أن بدأ البعض يصرح بأن (عبد المولى) من طينة الخاملين حقا، وأنه يحتاج لمن يقوده بلجام وأن يُعامل معاملة الحمار الحرون، ورغم إلحاح زوجته عليه، وأن يستجيب لطلب الناس بأن يعمل حارسا بالموقف، أو أن يبيع الحلوى للصغار أمام المدرسة، وأن يظل طوال اليوم جالسا على كرسي، إلا أنه بقي مصرا على المرور على كل بيت وورشة وعند كل بناء اشتغل معه طالبا مساعدة الجميع، كانت الزوجة ترفض ما تسميه تسولا مقنّعا يمارسه زوجها، وتؤكد له أن اليد العليا خير من اليد السفلى، لكنه لم يكن يريد أن يصدق أن ما يقوم به هو التسول عينه.
استعان السيد (الكرومي) بشاب صغير السن، يكفي أن يشير إليه (معلمه) بعينه حتى يهرول نحو المطلوب، ومع مرور الوقت ما عاد الرجل يشير إليه بالمبتغى، فالشاب دائما أسرع في إحضار خليط الإسمنت وألواح الدعامات والمسامير كأنما يقرأ أفكار (الكرومي)، ولم يكن الأخير يملك إلا أن يردد بزهو:
ـ نجاح البناء من مهارة مساعده!
ثم تعود بالرجل ذاكرته إلى أيام (عبد المولى)، فتردد أعماقه:

ـ لو أن هذا الشاب كان مساعدا لي في أيام شبابي ما فرحت به مقدار فرحي به اليوم، فهو كالصاروخ كان سينطلق ليصبح (معلما) ماهرا في هذه المهنة، وسينافسني فيها أشد المنافسة! ولكن يظهر لي أنني سأترك له عما قريب عدة البناء ليكمل المشوار بدلي، إن أمثال (عبد المولى) من الخاملين هم سرّ هيمنتي على حرفة البِناء في هذه البلدة، فلولا الأغبياء والبلداء ما برز النابغون والعباقرة!
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى