نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

هل نعي بالشيء لأنّه موجود أم هو موجود لأنّنا نعي به؟

هل نعي بالشيء لأنّه موجود أم هو موجود لأنّنا نعي به؟
الصّراع بين الواقعية والمثالية حادّ وله عدّة أوجه والوجه البارز أو الحادّ هو في إقرار الواقعية أن الواقع مستقلّ عن أذهاننا وفي إقرار المثالية بأن هذه الموجودات ليس لها وجود خارج أذهاننا. وقبل مناقشة هاتين الأطروحتين نفصّل القول فيهما:
أطروحة الواقعية: تعتبر الواقعية أن ما نراه من أشياء هو موجود وجودا فعليا ولا تقلّ واقعية الأشياء المفكّــر فيها عن واقعية الشخص الذي يفكّر فيها. فمثلما أن أي فرد يعتبر أن وجوده أمر بديهيّ لا يشكّ فيه كذلك يعتبر الواقعي أن الأشياء من قبيل القلم الذي يمسك به والورقة التي يكتب عليها أشياء موجودة وجودا فعليا ووجودها ليس محض خيال. وقد يعلّق البعض ساخرا: وهل يحتاج هذا الأمر لبرهان أو تأكيد؟. هل هناك باب للشكّ في وجود الشمس والسماء والأرض التي نسير عليها والثياب التي نلبسها؟ فالمسألة بديهية فلماذا كلّ هذا اللغو؟ كم يحلو للفلاسفة تحويل الحبّة إلى قبّة!! تتلاشى المزحة ونكون تجاه وضع جدّي عندما يعترض المثاليون.
أطروحة المثاليين: يقول المثاليون صحيح أنّنا نرى أشياء نقول عنها أنّها واقعية، ولكن نتغافل عن أمور أخرى لو وعينا بها لتغيّر حكمنا. فنحن ما قلنا عن هذه الأشياء أنّها موجودة إلاّ لأنّنا نعي بها. فوجودها مستمدّ من وعينا وليس من حضورها في الكون. والدليل على ذلك أنّها ليست موجودة بالنسبة للحيوان. وقد يعترض معترض بالقول: "ولكن هي بعد كلّ شيء موجودة في الكون سواء وعيْنا بها أم لم نع بها. بل أكثر من ذلك لو لم تكن موجودة وجودا فعليا لما أمكننا أن نحكم عليها بأنّها موجودة. فكيف يردّ المثاليون على هذا المعترض؟ يقولون له "ولكن هل كان يمكن أن تطرح هذا السؤال بالذات لو لم تكن واعيا بهذه الأشياء؟ كلّ شيء يخرج من هذا الوعي. حتّى واقعية الواقع محتاجة للوعي لإثباتها.
من معه الحق؟ إلى أيّ تيّار يجب أن نميل في قضية تشبه قضية البيضة والدجاجة؟ هل نعي بالشيء لأنّه موجود (الواقعية) أم هو موجود لأنّنا نعي به (المثالية)؟ تيّاران معقولان ومتعارضان في نفس الوقت. هل يعقل هذا؟
لو نلتجئ إلى الحسّ السليم، لقلنا إن الأشياء مستقلّة عن الوعي بها ومع ذلك يتطاول علينا المثاليون ونحتار في الردّ عليهم. فأين تكمن حيلتهم في تعجيزنا؟ حجّة المثاليين التي يتباهون بها والتي تبدو صلبة ويصعب الردّ عليها هي قولهم: وهل كان يمكن أن نتحدّث عن وجود لو لا الوعي بالموجودات؟ وأكثر من ذلك هل يمكن أن نتحدّث عن موجودات دون الوعي بها؟ أليس في الحديث عنها هناك وعي مسبّق بها؟ بماذا نردّ على هذه الأسئلة الاستنكارية الدامغة؟ فبمجرّد أن يفتح الواحد منّا فمه ليتحدّث عن وجود الأشياء خارج أذهاننا حتّى يقول له المثالي "وكيف يكون هناك وجود خارج أذهاننا والحال أن في وعينا به تأسيس له. وهل هناك برهان عن هذا التأسيس أكثر من الحديث عنه (أي الوجود) فنصمت لأنّنا تحدّثنا عنه". المصيبة أن في كلّ مرّة تسعى الواقعية لتأكيد استقلال وجود الشيء عن الوعي حتّى تخون نفسها، لأنّها تجد نفسها قد أقحمته في الوعي. ولكن كيف تجرى الأمور في الحقيقة؟
الشيء الثابت هو أن الوعي ما كان ليعي بشيء ما لو لم يكن موجودا بالفعل في الواقع. ولكن عندما يعي الوعي بالشيء يتصوّر أن وجود الشيء ليس مسألة واقعية أو وجودية بل هي حكم وموقف. ويعتقد أن الوجود هو تأسيس نظري أي أن الموجود هو الذي أحكم عليه بأنّه موجود. من غرور الوعي أنّه عندما يعي بشيء ما –والوعي بصيرة- يعتبر نفسه مؤسسا لوجود الشيء الذي يعي به والحال أنّه ما كان ليعي به لو لم يكن موجودا. والشك الديكارتي نموذح لغرور الوعي. اكتسب ديكارت معارف ثمّ شكّ فيها جميعا شكّا راديكاليا بما في ذلك وجوده. فماذا بقى؟ لم يبق إلاّ الوعي الذي يشكّ. تفطّن ديكارت إلى أن فعل الشكّ أو التفكير هو نشاط يدلّ على وجود الأنا. من هنا قولته المشهورة "أنا أفكّر إذا أنا موجود". في الكوجيتو يتقدّم التفكير أو الشكّ عن الوجود بل إن الوجود يصبح مبرهنا عليه. فلو لم أفكّر لما كنت موجودا. ففي عملية الشكّ (التي هي عملية ذهنية) يقع إلغاء الوجود ليتبوّأ الفكر الزعامة ويصبح المشرّع للوجود. هذه هي المثالية بعينها. هذا هو غرور الوعي. فالشكّ هو الذي قاد ديكارت نحو المثالية. ولكن نحن نعرف جميعا أن هذا الفكر ما كان ليشكّ لو لم يكن موجودا أوّلا.
هذا التحليل يقود إلى هذه النتيجة الهامّة وهي أن هناك فرقا بين وجود الشيء والحكم عليه بأنّه موجود. الوعي ليس سيّد نفسه لأنّ الحقيقة أرفع منه ويجب أن يخضع لها. وليس لأنّ الموجود يصبح موضوع وعي أو موضوعا مستوعبا في الوعي حتّى يفعل هذا الوعي ما يحلو.
 

جبران الشداني

المؤسس
طاقم الإدارة
شكرا للأستاذ حسن الولهازي على هذا العرض الجميل للفوارق بين التيارين الأساسين داخل الفلسفة، و هو عرض مفيد للدارس و القارئ بوجه عام.
الخلاف بين التيارين الفلسفين لا يكمن دائما في رفض طرف لوجود العالم الواقعي أو عالم الأفكار.. بل بشكل العلاقة بين هذين العالمين، و أولوية أحدهما على الآخر كما وضحت، فالمثاليون قد يرون العالم الواقعي مجرد انعكاس للوعي أو الروح، أو تحققا لهما. في المقابل، يرى الواقعيون الوعي جزءا لا يتجزأ من العالم المادي، أو شكلا من أشكال تطوره. أو انعكاسا لطبيعته و دينامياته.
الجميل، أن تاريخ الفلسفة يتغذى بشكل مستمر من تعارض هذين التيارين، فإفلاطون المثالي، مهد فكريا لصرح أرسطو الواقعي، و هيجل المثالي، منح أفكار الديالكتيك و التطور و فكرة الاستلاب لفيلسوف مادي راديكالي هو ماركس .
كل الشكر أخي حسن على هذا الإمتاع و هذه الإفادة.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
سلام أخي جبران
أتفق معك في ما ذهبت إليه. فمهما حاولت المثالية التقليل من قيمة الواقع وتقديم الوعي عليه ومهما حاولت الواقعية التقليل من قيمة الوعي وتقديم الواقع عليه، فإن الفلسفتين تتحدّثان عن التلازم بينهما، وتقرّان بأن لكلّ منهما دورا في بناء المعرفة.
كما أتفق معك في أن المثالية والواقعية خدمتا بعضهما البعض وتطوّرتا من خلال نقد بعضهما البعض.
هذا الصراع الفكري الإيجابي بين المثالية والواقعية وتاريخ الفلسفة عموما يكشف عن القيمة الكبيرة للاختلاف. فالاختلاف هو كالماء بالنسبة للنبتة يمكّنها من النمو والازدهار. على نقيض ذلك فإن منع الاختلاف وتقديس اللون الواحد والاتجاه الواحد يولّد الجمود والدكتاتورية والتخلّف وبالتالي الموت.
تحيّاتي الخالصة.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى