نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

في القصة القصيرة جدا عند عبد الرحيم التدلاوي









إن القصة القصيرة جدا وما راكمت من مجاميع قصصية تشكل في الواقع رؤية..كما أنها تصبح نوعا من فهم للأمور،ونوعا من كيفية تقديم هذا الإبداع.وهي تدعونا إلى الاقتراب من نصوصها لممارسة فعل القراءة..
صحيح،أن هذه النصوص القصصية القصيرة جدا لا تخلو من الفعالية والإبداعية اللتين تدفعان إلى التفاعل معها،وممارسة عمليتي التفسير والتأويل.
والإلمام بهذه الرؤية وهذه التجربة يطرح علينا سؤالا إشكاليا،هو:
- كيف يمكن الإلمام بهذه الرؤية في شموليتها؟
وعندما نقول (كيف)،يطرح هنا مشكل المنهج،لأنه لا يمكن التعامل مع هذه النصوص بدون منهج،وبدون منهج تصبح كل المقاربات،أو محاولات الاقتراب باطلة.
صحيح أن القصة القصيرة جدا كنوع أدبي،استطاع أن يخلق له أسلوبا تعبيريا قهر به مبنى القصة القصيرة والأقصوصة..كما استطاعت أن تدمر مبناهما التقليدي..واستعاضت عنهما ببنيتها المتميزة ذات الخاصيات الكثيرة والتي استطاع كثير من نقادنا وأساتذتنا تحديدها وتسطيرها...ويجوز لنا أن نقول بأنها بنية جديدة مكنت من جعل هذا اللون الأدبي:القصة القصيرة جدا فنا أدبيا قائم الذات..وهي تمثل العصر،وتمثل شكلا من أشكال وعينا الفكري.كما تشكل منحى جديدا في الكتابة الإبداعية.
صحيح أنها أفق جديد انفتح للقصة القصيرة جدا- كما يقول الأستاذ عبد الله ابراهيم-[1]،ولو أن هذا الأفق الجديد أسقط وبسرعة هذا اللون الجديد في الاستسهالية والإسهالية،والتكرارية،والقولبة والنمطية.وهنا تعن مجموعة من الأسئلة الإشكالية:

- هل هذه القصص القصيرة جدا تحقق متعة القراءة؟

- هل قراءتها تريح القارئ/المتلقي؟

إن القصة القصيرة جدا نص سردي قائم بذاته.والقاسم المشترك بين كل هذه النصوص القصصية القصيرة جدا هو الحجم.ولا نريد أن نطرح مثالية حجم نص القصة القصيرة جدا.فالحجم إضافة إلى مقومات ومكونات جمالية،وإنشائية أخرى تعطينا نصا قصصيا قصيرا جدا متميزا..

وفي هذا المقام سنأخذ المجموعة القصصية القصيرة جدا(المشهد الأخير) للأستاذ المبدع عبد الرحيم التدلاوي، لتكون منطلق هذه الرؤية،وزاوية للإطلالة على فنيات القصة القصيرة جدا وجمالياتها..

ونبدأ محاورتنا لعمل سي عبد الرحيم بسؤال تقليدي : ما هي القواسم المشتركة بين كل الأعمال القصصية التي أبدعها عبد الرحيم التدلاوي؟

- ماذا يريد سي عبد الرحيم التدلاوي في مجاميعه القصصية أن يقوله للمتلقي؟

- ماذا نريد نحن كمتلقين من هذه المجاميع القصصية؟هل نريد أن نعرف ماذا تقول؟ أم نريد أن نعرف كيف يقول الكاتب عبد الرحيم التدلاوي؟

إن قوة النص تتجلى في قدرة الكاتب على التحكم والسيطرة على نصه القصصي.فهل استطاع أستاذنا سي عبد الرحيم التدلاوي التحكم في توجيه نصوصه القصصية القصيرة جدا لتكون وفق رؤيته لها؟.

هل استطاع أن يمد المتلقي بالمتعة ويمكنه من لذة القراءة؟

هل استطاع أن يوجه المتلقي إلى فهم خاص ومحدد للنص القصصي القصير جدا؟هل استطاع أن يغريه بالقراءة؟.


صحيح،أن هناك مجموعة من العوامل التي قد شكلت نوعا من المثبطات،والمعوقات.وقد تحول دون تمكن الكاتب بشكل كبير من كتابة نصه القصصي وفقا لما يسعى أن يصل إلى قارئه من معنى.وأول هذه العوامل يتمثل في الإيقاع الذي يخضع له النص القصصي،ويحد من حرية الكاتب وهو يصوغ قصته.في السرد[2]القصصي عامة يخضع النص لنظام إيقاعي معين،يسيطر عليه،وهو نظام الوصف والسرد،والحبكة،والعقدة والحل.

لكنْ ،هناك عنصر هام،وهو المتلقي الذي يشكل الدعامة في عملية التوصيل السردي(الكاتب- النص- المتلقي)،وتنبثق أهميته من كونه الذي يمنح النص وجوده الفعلي،إذ لا يتحقق هذا الوجود دون قارئ،ومن ثمة فإن" القراءة باعتبارها عملية تأويلية تسعى إلى مقاربة النص،وتخضع لطبيعة القارئ الذي يقوم بهذه القراءة،إذ تتحكم في تعامله مع النص مجموعة من العوامل التي يتحدد من خلالها فهمه له"
[3]..

واهتمام الأستاذ عبد الرحيم التدلاوي بهذه القضايا(المؤلف- النص- القارئ)،يجعل السؤال يبدو نوعا ما استفزازيا،يجعلنا نقول عن كل كتاب القصة القصيرة جدا:هل أكثرية هؤلاء الكاتبات والكتاب تسللوا إلى الإبداع السردي(القصة القصيرة جدا)،بدون تجربة في أنواع أدبية سردية أخرى غير القصة القصيرة جدا؟.


هذا لا يمكن أن نعممه على كل كتابنا.هناك كتاب جيدون، وكتابتهم في المستوى،واستطاعوا أن يطبعوا كتابتهم بجمالية لافتة،وفنية عالية. واستطاعوا أن يقدموا للقارئ نصوصا مفتوحة تحرض المتلقي على اكتشاف المضمر من المحكي القصصي.كما يحرض على بذل جهد تعاضدي بتعبير أمبرتو إيكو لبلوغ ذلك المضمر،أو لملء فراغات ما لم يقل وما قيل[4].

هذا يجعلنا نتساءل:

- هل هناك تأثير للسابق على اللاحق؟

- هل النص الحالي تقليد لسابقه(لما سبق)؟

صحيح، أن النص الأدبي المبدع حقا،هو الذي يبتكر تعريفه كما يبتكر قوانين مقاربته النقدية.بمعنى أنه لا ينصاع إلى قوانين سابقة عليه،ويعطيه حق المثول في تاريخ الأدب- كما يقول تودوروف-.من هنا يحق لنا التساؤل بشكل آخر:


- هل ما تراكم من إنتاج في فن القصة القصيرة جدا،هو محاكاة لنموذج أولي،أي لنص مركزي،شكله الرواد؟وعبد الرحيم التدلاوي من الرواد..والذي يمكن أن نسميه تجاوزا بنظرية المحاكاة،أي أن النصوص السابقة (نصوص الرواد) تصبح خارطة طريق،وتكون ما نسميه ب"النموذج المحاكاتي Le paradigme mimétique،أي نصا مركزيا أساسيا يمكن محاكاته وتقليده،والسير على منواله،ومن ثمة أصبح هذا النموذج نقطة الانطلاق على حد تعبير طوماس كوهن في كتابه (بنية الثورات العلمية)[5].

وهذه النصوص المحاكاتية تحاكي بثلاث أدوات:

1- الوسائل المختلفة،(الإيماض- السخرية- الواقعية- النكتة والطرفة- المفارقة...).

2- الموضوعات المتباينة.(نقد الواقع وتعريته- الرومانسية..).

3- الأسلوب المتمايز،(الحوار- الأسلوب البلاغي- الرسالة (الترسل)- الإخبار- الوصف والتوصيف- السرد- الحكاية).


وفي كثير من الأحيان،فإن كتاب القصة القصيرة جدا يحاكون الأفعال والحوادث الواقعة فعلا،أو المحتملة الوقوع.وهذا ما دفع بجاك دريدا إلى اعتبار أن المحاكاة لا تشتغل بدون الإدراك النظري للمشابهة والتشابه similitude،أي: ما يوضع دائما كشرط للاستعارة[6].

وتقليد الواقع أو محاكاته،في غالب الأحيان يقصي منه الطارئ le fortuit والعبث،والصدفة.الشيء الذي يجعل المتوالية من الأحداث، أو مجموعة مبعثرة قبليا من الوقائع المجتمعة بالصدفة، تعتبر مجتمعة بواسطة روابط سببية بكيفية أو بأخرى.

وهذا الواقع المعاد،أو الممثل في القصة القصيرة جدا،والذي يراه المتلقي كنص قصصي قصير جدا،تشكله ثلاثة أمور أساسية تمثل هيكله العظمي،وهي:


1- اللزوم:ويتجلى ذلك في لغة النص القصصي،حيث نجدها تفارق الاستعمال اليومي للكلام،وتخرج عنه- كما يقول نوفاليس- بحيث تصير للفعل اللغوي قيمة تتجاوز الأغراض التواصلية المعتادة.لأن غايته كشف المعاني الخفية،والوصول إلى الجميل كقيمة عليا تتحقق في ذاتها.ومن ثمة يتأسس مفهوم الغائية الذاتية[7].

2- الانسجام:النص المتنافرة جمله وأفكاره لا يؤدي إلى فائدة.لذا يهم البناء توافق العناصر وتفاعلها الخلافي فيما بينها.فالانسجام شرط من شروط الخطاب.وهناك انسجام أفقي،يهم موقف كل مقطع،وملاءمته وضرورته والتحامه بالأجزاء الأخرى.ومن هنا يمكن القول بأن النص نموه تتحكمه العلائق والسيرورات.

3- الكلية:إن النظرة الرومانسية للعالم والفن تتأسس كذلك على مبدأ الكلية والشمول.أي: أنه لا يمكن فهم عنصر ما في الكون بمعزل عن المجموع..مشكلة بذلك هرمونية خطابية،وتعطي للنص القصصي وحدة الموضوع.

I- المنظور الاستعاري والبلاغي:


إن القصة القصيرة جدا،عند عبد الرحيم التدلاوي رغم قصرها،تتضمن خطابا قصصيا يشتمل على تجليات استعارية، ووجودها فيه يعد من إفرازات المنظور البلاغي الجديد،الذي يرفض أصحابه اعتبار الاستعارة خاصية شعرية.إنهم يعدونها خاصية خطابية تحضر في سائر الخطابات[8].

ويبين " لايكوف"و"جونسون" أن الاستعارة تلعب الدور الأساسي في حياة الفرد إلى درجة أن يحيا بها.فالاستعارة حاضرة في كل مجالات حياتنا اليومية.إنها ليست مقتصرة على اللغة.بل توجد في تفكيرنا،وفي الأعمال التي نقوم بها.


ويضع أمبرتو إيكو الاستعارة على قائمة الصور البيانية،لأنها تغطي النشاط البلاغي بكل تشعباته.ويتجلى ذلك في قوله:"إن الحديث عن الاستعارة يعني الحديث عن النشاط البلاغي بكل ما فيه من تعقيد"[9].

والخطاب القصصي في القصة القصيرة جدا ،تتجلى فيه الاستعارة بشكل مكثف ومثير للانتباه،حيث يتعدى توظيفها مستوى الكلمة والجملة،إلى مستوى أوسع،هو مستوى النص والخطاب ككل.هذا يدفعنا إلى طرح سؤال إشكالي:

- هل القصة القصيرة جدا عند عبد الرحيم التدلاوي ،نص أو خطاب استعاري un discours métaphoriques؟.

إن الذي يقضي بوجود استعارة كلية في القصة القصيرة جدا ،والتي تعرف باستعارة النص،أو استعارة السياق عند أمبرتو إيكو،هي مجموعة الاستعارات الجزئية المنتشرة داخل النص القصصي،والتي تترابط فيما بينها مشكلة الاستعارة الأم.


ففي هذا النص" هناك استعارة أُمّاً،واستعارات عنها تتوالد عنها استعارات أخرى إلى نهاية النص"[10]...وقد سماها ميشال ريفاتير بالاستعارة المرشحة أو المحبوكة،وهي سلسلة من الاستعارات المتعالقة بواسطة التركيب،والمنتمية إلى الجملة نفسها،أو إلى البنية نفسها،وبواسطة المعنى،حيث يعبر كل منهما عن مظهر خاص لكل أو لشيء،أو لمفهوم تعرضه الاستعارة الأولى من السلسلة[11].مما يضمن انسجام بنية النص،ونحو الخطاب.

ويجب أن لا ننسى شيئا هاما، وهو أن توظيف الاستعارة في الخطاب القصصي،هو مظهر من مظاهر الحداثة في القصة القصيرة جدا.

وعبد الرحيم التدلاوي كواحد من الفرسان الذين برعوا في فن القصة القصيرة جدا،اهتم بالغ الاهتمام باللغة القصصية، واعتبرها فضاء للإبداع،تكرر في جل كتاباته القصصية.وهذا يدفع بالمتلقي إلى تخيل أن لغة الخطاب عند عبد الرحيم التدلاوي هي موضوع النص ذاته..وتتجلى استعارة النص القصصي في القصة القصيرة جدا في:

1- استعارة العنوان:

نعرف مسبقا أن العنوان من الفواتح النصية..ونص مواز يهيئ المتلقي إلى دخول عالم النص.

ويرى أندري دال لنقو أن هذه الفواتح النصية نقطة تبدأ من العتبة المفضية إلى التخييل،وتنتهي بحدوث أولى قطيعة مهمة في مستوى النص.فهي موضع استراتيجي في النص لأنها البوابة التي تمكن المتلقي/القارئ- كما أسلفنا- من ولوج عالم النص الداخلي.

فالعنوان يمثل أول لقاء مادي محسوس،ومباشر،يتم بين القارئ والنص..ينتقل عبره القارئ من العالم الواقعي" خارج النص / زمن الاتصال بالكتاب"،إلى العالم التخييلي" داخل النص/زمن القراءة".أي،ينقله من فعل القراءة الخطي،ليضعه مباشرة في فعل السرد التخييلي.

والعنوان نص مصغر على صفحة الغلاف،يلعب أدوارا كبيرة في إغراء المتلقي/القارئ وتحريضه على فعل القراءة.لكن هناك مجموعة من العناوين التي تشوش على فكر القارئ،وتحدث نوعا من الصدمة لديه.فهو يجد نفسه في ارتباك وقلق أمام بعض العناوين،لماذا؟ما السبب؟.

بكل بساطة،أن هذه العناوين المشوشة les titres nuisibles،تجمع بين المتناقض والمتنافر دلاليا..وهنا يطرح القارئ/المتلقي سؤالا إشكاليا:

- كيف يمكن لهذا العنوان أن يكون مشوشا،ومقلقا؟

إما يفجر نوعا من الفضول المعرفي،حيث يدفع بالقارئ إلى البحث داخل النص(المجموعة القصصية) عن جواب لهذا التشويش،ومعرفة دلالته،أو يدفع به إلى هجر النص كليا.لكن،ما يتيقن منه هذا المتلقي/القارئ هو أنه أمام خرق دلالي،يتجلى كبداية في عبارة العنوان،وما يحمله من تناقص رابط بين كلمات العنوان المتنافرة دلاليا.

عندما نعود إلى (المشهد الأخير)،ومن خلال عناوينها الداخلية،نجد خمسة عناوين مشوشة،وهي(مشاهد عرجاء- سواحل بيضاء- التمثال الأعظم- ورطة الورطات- الخيط الرفيع)..كما نجد ثلاثة عناوين وهي:(الطائر الأسود- بلاغة الكلام- أنيس الدمى- )،تتضمن استعارة بلاغية،وتحمل خرقا دلاليا،يتجلى في التناقض الذي يربط كلماتها.الشيء الذي يجعل هذه العناوين مغرية،تجذب القارئ إلى أغوار النص،قصد الكشف عن دلالاته العميقة...

كما أن العنوان الرئيسي والمحوري والذي يمثل المجموعة القصصية، هو نفسه عبارة عن استعارة،شبه فيها عبد الرحيم التدلاوي القصص القصيرة جدا التي تتضمنها مجموعته بمشهد أخير استحضره من ذاكراته...فقد حضر فيها الاستذكار والارتداد إلى أزمنة مختلفة،ومرجعيات متعددة..فذكر المشبه وحذف المشبه به،وأبقى على لازم من لوازمه..والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي،وهي إثبات لوازم الشبه وليس المشبه به...

من هنا نستنتج أن الدلالة الاستعارية تعمل على جعل العنوان استفزازا بدرجة كبيرة،ومدعاة للفضول لمعرفة محتوى النص القصصي،واكتشاف مضامينه الفكرية والأدبية التي تؤهله لتلق إيجابي،وجمالي لدلالة هذا العنوان.

2- استعارة الكلمة:

تتجلى الاستعارة على مستوى الكلمة في الخطاب القصصي القصير جدا،من خلال توظيف عبد الرحيم التدلاوي لبعض الكلمات توظيفا استعاريا،من مثل(الجثة غارقة في قتلها- المجرم حر طليق كالهواء- لا يفل حديد المرأة إلا المرأة- كسر أنيابه- استوطنت الحيرة نفسه- عطرها الفادح على مطلق الكون- انفتحت عيناه كما الفم- تجرع كؤوس وحدته- نفسه القاحلة- أنثى حسناء تخصب أرضي وتعيد إلى روحي حقول الاخضرار- مشلول الإرادة...).

إذ نلاحظ انزياح هذه الألفاظ عن دلالتها الحرفية إلى مجموعة من الدلالات الاستعارية،تختلف حسب السياقات التي ترد فيها.

ففي جملة(تدفق صخب الحياة) مثلا،نجد أن كلمة(الحياة) قد خرجت عن سياقها المألوف.فالحياة حيز زماني ومكاني غير مرئي،هو معنوي.يمكن أن نحس به،ونعيشه،وهو تدرج العمر....وقد خرجت هذه الكلمات عن مدلولها اللغوي،لتأخذ دلالة جديدة،عندما دخلت في سياق جديد،واتخذت دلالة استعارية.إذ تحولت إلى أصوات وحركات وأفعال واستطاعت أن تتحول هذه الأصوات المنبعثة من الخارج والداخلة إلى الغرفة عبر النافذة دبدبات تلتقطها الأذن(الأصوات المحسوس والمسموعة ) ووصولها بنفاذ جعلها تشبه التدفق..والتدفق لا يكون إلا للسوائل......أي أن المشبه هو (صخب الحياة)، والمشبه به الأصوات،ووجه الشبه :التدفق والسيلان.ومن هنا نحصل على استعارة مكنية..

3- الاستعارة الجملية:تتجلى من خلال توظيف الجمل الاستعارية،كما نجد في النص القصصي التالي (تلاص):" لن أقول الحقيقة العارية للملك.

فقد سبقني إلى ذلك من امتطى صهوة أسرع لسان"(ص:82).

هذا النص يتضمن مجموعة من الاستعارات،نحددها كالتالي:

- الاستعارة1= لن أقول الحقيقة.

- الاستعارة2= الحقيقة العارية للملك.

- الاستعارة3= فقد سبقني إلى ذلك من امتطى صهوة.

- الاستعارة4= امتطى صهوة أسرع لسان.

- الاستعارة5=أسرع لسان.

وتمثل هذه الاستعارات في مجملها،استعارات مكنية،ذكر فيها المشبه،وحذف المشبه به، مع إبقاء لازمة من لوازمه.


4- التشبيهات:جاءت في هذه المجاميع القصصية توظيف التشبيهات والاستعارات، والتي تميزت بالغرابة والخرق.فقد خرق الكتاب منطقية اللغة والتركيب،كما كسروا حدود العلاقة الدلالية للتركيبات والكلمات. وعبد الرحيم التدلاوي يعتمد على " تبادل وظائف دلالات المفردات عن طريق العلاقات الرمزية والبيانية والانزياح في الدلالة.ولا بد من الإشارة إلى كون الكاتب يبالغ أحيانا في هذا الجانب.فتخرج العبارة من الشكل الفني الجميل إلى الشكل الفني الغريب"[12].

وأكثرية التراكيب التي وظفت في المجموعة القصصية(المشهد الأخير) ،تجمع بين التشبيه والاستعارة في نفس الوقت.الشيء الذي يربك المتلقي..ونتساءل: أنريد الاستعارة أم نريد التشبيه؟.


وهذا يعطي غرائبية النمط،و" إن غرابة هذا النمط من التركيب وضعنا أمام تأليف يزاوج بين التشبيه والاستعارة،بحيث تختل الفوارق وتتداخل الوظائف وترتبك،والمستفيد الصورة البيانية للنص"[13].ففي قصة (ألبوم)(ص:17)،نجد للوحدة كؤوسا يتجرعها الإنسان الحزين..وخلوده إلى نفسه يجعله كمن قبع في الركن المظلم،وجراء حزنه الشديد تتحول نفسه إلى أرض قاحلة لا نبات فيها...وهو في حاجة إلى فتاة حسناء تخصب أرضه،وتعيد الروح غلى حقوله التي كانت خضراء واصابها الذبال...فقد استطاع عبد الرحيم التدلاوي في هذه القصة،أن يشبه الوحشة وغربة النفس وآلامها بكؤوس يتجرعها الحزين..كما شبه النفس الحزينة بالمكان المظلم ..وشبه النفس الخالية من كل ما يسر بالأرض القاحلة...كما أن الأنس والمؤانسة يجعلهما او يشبههما بالتخصيب وإعادة الروح والحياة .. وأصبحت العلاقة علاقة مشابهة.ومن هنا جميع البنيات الاستعارية التي تتضمنها هذه المجوعة القصصية تقوم على المشابهة،مما يجعلها منفتحة على التأويل،والتصوير،والتجاوز للمألوف.

II- إيقاعية النص القصصي القصير جدا


بعض القصص القصيرة جدا لا تخلو من إيقاع،خاصة الإيقاع الداخلي بكل مكوناته.واستطاعت القصة القصيرة جدا أن توظف هذا الإيقاع في بنيتها ودلالاتها الفنية، والجمالية، والصوتية[14]..

ولا ننكر أن القصة القصيرة جدا بعض نصوصها يحضر فيها الملمح الشعري أحيانا،شكلا وبناء..وهذا الملمح يكاد يدخل هذه النصوص السردية منطقة الشعر..لما تتوفر عليه هذه النصوص من إيقاعية تعوض غياب الوزن والقافية منها..

وفي بعض قصص عبد الرحيم التدلاوي القصيرة جدا،نجد حضور الإيقاع الشكلي، المبني على تفضية النص القصصي/ السردي، بشكل لافت.

صحيح،أن كتابة القصة القصيرة جدا كتابة نوعية وصعبة،وذات أسس فنية ونفسية تخلق عملية التواصل بين المبدع والمتلقي. وهذا هو ما يعطي للقصة القصيرة جدا فنيتها وجماليتها،وقيمتها.

وبناء على القياس الشعري لابن رشيق القيرواني،نقول بأن قواعد القصة القصيرة جدا أربع،هي: الرغبة،والرهبة، والدقة، والجمالية.

فالرغبة:الميل إلى الكتابة لأجل الكتابة،وإعطاء الكتابة حقها.فلا يكون هناك استسهال ولا إسهال لهذا اللون الأدبي.

والرهبة :أن يكون في النفس نوع من الرهبة والخوف من هذا اللون الأدبي،لأن ذلك يخلق نوعا من القلق يكون حافزا على الكتابة الجيدة،وتجعل المبدع يعي ماذا يكتب؟ومتى يكتب؟وكيف يكتب؟ ولمن يكتب؟.

أما الدقة:فهي تخير الألفاظ والكلمات،ونسج الصور القصصية المؤدية لهدفها المحدد والمراد.كما تبعده عن الحشوية،والكلام الزائد،والتشتت والتسطيحية.

والجمالية:هي التي تعطي للنص القصصي،أو الكتابة القصصية فنيتها وجماليتها،وتجعل المتلقي يقبل عليها،وعلى قراءتها، والتفاعل معها تأويلا وتحليلا،وقراءة.وبالتالي تصبح هذه المقومات الأربع مشتركة بين المرسل/ الكاتب،والمتلقي.يجمعهما هذا النص الإبداعي الذي هو القصة القصيرة جدا.وليس من الضروري أن يكون هذا المتلقي حقيقيا،أو مضمرا،لكن يكفي أن له حضورا قويا في تشكيل دلالات النص.

ومن خلال هذا الضبط القيمي،والذي يعمل على تدقيق النوع الأدبي،والمستند إلى الخضوع لضوابط نفسية محددة، وخاصة.. بالإضافة إلى جعل المتلقي مساهما في بناء هذا النوع،وفاعلا فيه..يمكننا حصر دلالات القصة القصيرة جدا في: الجودة، والفنية، والجمالية والفاعلية،والإيقاعية.والقاص المتمكن هو الذي يستطيع أن يوفر في نصوصه القصصية هذه الأشياء، ويجعل قارئه قادرا على أن يحس هذه الأشياء،ويجليها من خلال قراءاته وتأويلاته،ويقف عليها شاهدا.

صحيح،أن خصوصية النوع تحددها الصورة السردية التي تشكل داخل نسيج النص،لكن ما يميزها عن أنواع سردية أخرى هو:تشكلها الإيقاعي،وبالتالي قوة القصة القصيرة جدا،وظهورها البارز.تستمدها من أدبيتها.وهذا من مقتضيات التلقي.

إن القصة القصيرة جدا،هي عند عبد الرحيم التدلاوي رؤيا. والرؤيا كما نعلم،قفزة خارج المفاهيم القائمة.هي تغيير في نظام الأشياء،وفي نظام النظر إليها..





[1] - د. ابراهيم،(عبد الله)،المتخيل السردي،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء/بيروت، ذ1، حزيران 1990، ص:19



[2] - المومني،(قاسم)،في قراءة النص،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1999،ص:28



[3] - العضيبي،(عبد الله)،النص وإشكالية المعنى،الدارالعربية للعلوم ناشرون،لبنان/ الاختلاف،الجزائر،ط1، 2009، ص:14



[4] - أيكو،(أمبيرتو)،القارئ والحكاية، التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية،ترجمة أنطون أبو زيد،المركز الثقافي العربي،بيروت/الدار البيضاء،ط1، 1996، ص:28



[5] - Kuhn,(Thomas) :la structure des révoltes scientifiques ,Ed, Flamarion,Paris,1983,p :29



[6] -Derida,(Jacques) :Marges ,Ed, Minuit ,Paris, 1972, p :283



[7] - الذهبي،(العربي)،شعريات المتخيل،شركة النشر والتوزيع المدارس، المغرب، ط1، 2000،ص:108



[8] - أوكان،(عمر)،اللغة والخطاب،أفريقيا الشرق،الدار البيضاء،ط1،2001،ص:123



[9] - إيكو،(أمبرتو)، السيميائية وفلسفة اللغة،ترجمة أحمد الصمعي،المنظمة العربية للترجمة،توزيع مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت، ط1،2005،ص:234



[10] - مفتاح،(محمد)، مجهول البيان،دار توبقال للنشر،الدار البيضاء،ط1، 1990، ص:85



[11] - الحنصالي،(سعيد)،الاستعارات والشعر الحديث،دار توبقال،الدار البيضاء،2005،ص:15



[12] - العسري،(عمر)،القصة والتجريب،الناشر:أثر،الدار البيضاء، ط1، 2013، ص:21



[13] - المرجع نفسه، ص:22



[14] - داني،(محمد)،الإيقاع والإيقاعية في القصة القصيرة جدا،كلمات للنشر والطباعة والتوزيع،تمارة،المغرب،2015، ص:11


 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى