نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

خطابات المسرح النقيض

يتمظهر الإخراج عند (قاسم محمد) بتركيزه على عمل الممثل واللحظة التي يتعامل بها معه في التمارين المسرحية هي المقياس الحقيقي في الإخراج لديه ، حيث لا يعتمد على التخطيط المسبق للعملية الاخراجية ، بل يعتمد على تدريب الممثل و تطوير مهاراته قبل الدخول في التمرين المسرحي في أي مسرحية يريد إخراجها. كذلك يتميز (قاسم محمد) بملامح واقعية وشعبية ينطلق منها في إخراج مسرحياته من حيث النص المسرحي معتمداً في أغلب الأحيان على التراث والاشعار الحماسية والموروث الشعبي ، بل حتى على المفردات الشعبية التي تنمي الإحساس الوجداني عند المتلقي منطلقاً من التركيز" على واحدة من أبرز سمات (الدراما الشعبية) المتمثلة في المشاركة الوجدانية بين الصالة وخشبة المسرح ويتم فيها بحث المتلقي على الإحساس بأنه مشارك في العرض وبقوانين اللعبة ، ومن ثم بناء العرض ومفردات الأداء ووسائل التعبير"(1).

في عرض مسرحية (قضية الشهيد الرقم 1000) يبني (قاسم محمد) العرض المسرحي من عشرة مشاهد مسرحية يتناول فيها أوضاع الشهداء المصريين الذين قتلوا في حرب سيناء من أجل الوطن وليس الرئيس (أنور السادات) الذي خطط للحرب قادها لتحرير (سيناء) من (الصهاينة)، وقدمت مصر فيها عدداً من الشهداء ، لكن بعد ذلك عبر(السادات) على أجساد الشهداء ليصافح (الصهاينة) من أجل السلام ، ومن هذه المفارقة تبدأ عملية ترتيب المشاهد في المسرحية. فالمشهد الأول يبدأ بصدمة زيارة (السادات) للقدس المحتلة لعقد معاهدة السلام هذا الخبر يسربه للجمهور باعة الصحف الثلاث وتصدر صرخة ومن ثم تساؤل عن سبب الصرخة من ثلاثة أشخاص يؤيدون اتفاقية السلام على المسرح ويجيبونهم كورس الشهداء من أعلى المسرح الذي يقسمه (قاسم) إلى نصفين أعلى وأسفل ، بأن السلام يتم على حساب تضحياتهم. ثم يبدأ المشهد الثاني بنداء يشق الصمت صوت (الشهيد الرقم 1000) وهو ينادي بالقتال ،ويسأل المؤيدون عن أسباب سرقة دماء الشهداء حتى يتحول المشهدان الثالث والرابع عن إعلان باعة الصحف عن الشهداء وخروجهم من القبور ليهرع أهالي الشهداء للبحث عنهم وتظهر ثلاث نساء ، هن عائلة الشهيد (الأم ، الأخت ، الزوجة) حيث يعلن عن فخرهن بالشهيد الذي ينادي بالقتال ، ويبدأ بعد ذلك صراع بين السلطات الداعية إلى السلام والشهيد (رقم 1000) ،الذي يحاول عبور الحدود من أجل القتال ورفض الاستسلام للعدو ، وهذا يتم من خلال أربعة مشاهد ، أما المشهدين التاسع والعاشر فيتم القبض على الشهيد ويصدر أمر الإعدام بحقه ، وبالتالي يتحول دمه إلى رفض للسلام مع العدو (2).

يستخدم (قاسم محمد) مجموعة من العناصر المسرحية في كشف الخطاب الكولونيالي والمتمثل في إخضاع الشعوب العربية إلى سلام غير عادل مع (الصهاينة) والمتمثل بمعاهدة السلام التي وقعها الرئيس المصري (محمد أنور السادات) ورفضتها الشعوب العربية ، هذه المعاهدة التي أنهت الحرب بين (مصر والصهاينة) على حساب باقي الجبهات الأخرى وأبرزها الجبهة الفلسطينية. فالمخرج يكشف عن فاعلية الخطاب النقيض ،من خلال ما يأتي:-

يقسم (قاسم محمد) خشبة المسرح إلى قسمين علوي وسفلي ويقسمهما من خلال قطعة قماش سوداء اللون وهو الحد الفاصل أو البرزخ بين عالمين ، حيث أعطى لكل واحد منهم عدداً من الصور المتحولة من مشهد إلى مشهد آخر ، في الأعلى يرمز للعالم العلوي عالم القيم والمثل والمحبة والشهادة وكذلك يرمز إلى سلطة الشعب التي تخيم على كل ما في البلاد، والأسفل يرمز إلى عالم الدنيا العالم الأسفل الذي يتصارع فيه البشر والذي يخضع للمقاسات الدنيوية الضعيفة، فالشهيد ينزل جسده الى العالم السفلي لكن روحه تنتقل إلى العالم الآخر لتشاهد ما يفعل البشر في الأرض.

لا يستخدم (قاسم محمد) قطعاً ديكورية بقدر اعتماده على الأجساد في تشكيل صور العرض ،إذ يتم تشكيل المشاهد على هذه الشاكلة ابتداءاً من المشهد الأول وظهور باعة الصحف وانتهاء بإعدام الشهيد مروراً بأحداث تشكلها الأجساد وهذه الأجساد (الممثلين) تتحول من صراع داخلي بين الأرض والشهداء ومن ثم بين الشهداء وأصحاب معاهدة السلام ، وبين الشهداء (الأجساد) وأصحاب النفوذ في الضفة الأخرى ، بالإضافة إلى أن المسرحية تحمل الصفة العددية للشهداء والمتمثلة (بالرقم 1000) ، وهذا ما يدل على إن الأجساد الألف (الشهداء) يلخصون بالشهيد الأخير الذي يحمل (الرقم 1000) كلهم يحملون القضية نفسها.

يستخدم (قاسم محمد) العملية التوثيقية من خلال الصحف وفي عمليتين متناقضتين الأولى: توثيق لدور السلطة التي توقع معاهدة السلام ومن يقف وراءها ويدعمها بالمال والإعلام وحتى السلاح الذي توجهه بعد ذلك إلى الشعب ممثلاً بالشهيد (رقم 1000). أما التوثيق الثاني فهو للرفض والرافضين لسياسات الإملاء والخضوع وبيع الأوطان ، رفض الأهداف الكولونيالية التي تريد أن تجعل الآخر الشرقي (العربي) خاضعاً وهو يرى أرضه تتجزأ أمام عينيه ، ففصل (مصر) من الصراع هو إبعاد قوة مؤثرة في الصراع وبالتالي ستكون فلسطين (لقمة سائغة) بالإمكان ابتلاعها وكأن (قاسم محمد) يحذر في مسرحيته من الأيام الحاضرة التي أصبحت فيها فلسطين مجرد ضفتين متصارعتين (الضفة الغربية وغزة) ، وأصبحت اغلب الأراضي تسمى اليوم دولياً (إسرائيل) فجاء التوثيق الثاني لإعلان حالة الرفض الشعبية وليست الحكومة الميالة إلى المصالح الشخصية.

الأزياء كانت (واقعية) فكل زي يشير إلى الشخصية ودورها وبخاصة ملابس الشهداء العسكرية الممزقة ، حيث أراد (قاسم) من خلالها إلى توثيق واقع الهزيمة أولاً ومن ثم إن الملابس الممزقة لا تصلح للاستخدام مرة أخرى، وبذلك أراد (قاسم محمد) إظهار حقيقة مؤلمة وهي تجريد القضية من حقيقتها والمرتكزة على الجهاد والقتال من أجل تحرير الأرض العربية ، لكن الملابس العسكرية البالية هي عنوان الانهزامية (3).وكذلك استخدام السواد هو للدلالة على الحزن على الأبطال الذين ذهبت دمائهم سدى دون أن تكرم هذه الدماء ، حيث افقدنها معاهدة السلام عزتها ، إذا لماذا قتلوا لو إن الأمر سينتهي بالاستسلام؟.

التشكيل الجسدي للممثلين يدخل في عدة أشكال ويعطي عدداً من الدلالات ففي مشهد" خروج الشهداء من قبورهم ، وفي مشهدية (هيئة المحكمة) نجد أنها تخلو من منصة الحاكم أو قفص الاتهام أو مقاعد الجمهور ، فالتمثيل يجري وقوفاً (...) فأجساد الممثلين لا تتوقف عن خلق صور المناظر المسرحية على عدد دقائق العرض ، فهي قبور ، وهي شهيد وهي سلاح ، وهي صرخات ، وهي رقصات متوحشة وكثير من الصور الأخرى ، يساعد في ذلك إيقاظ مخيلة المشاهد ليتوغل مع هذه الصور في تأليف المكان والزمان"(4).إن (قاسم محمد) الذي يبحث في المسرح عن تفكيك التأثير الذي يفرض على الزمان والمكان في مخيلة المتلقي العربي التي تشكلت بفعل الأحداث التي أدارها الأقوى، ليشكل الذاكرة حسب ما يريد فيما بعد وحسب مفهوم الهدم والبناء أو ما يسمى بنظرية (الفوضى الخلاقة)، التي تقوم على هدم وبعثرة أشياء المكان الأصلية ثم إعادة صياغتها مرة أخرى ، فـ(قاسم محمد) يعود بالأحداث قبل البعثرة والهدم ليتزامن بناء الزمان والمكان وإعادة تشكيل الذاكرة وفق مفهومه الخاص وليس وفق ما يرسم في عالم السياسة والمصالح الخاصة ، بل وفق الوعي الجماهيري الشعبي المتماسك بصورة (الوطن الأصل) وليس صورة (الوطن المعاد) ، لهذا بادر (قاسم محمد) إلى تفتيت (الصورة الملقنة) وكشف (الأصل المغطى) ، لهذا ساعدت التشكيلات الجسدية للمثلين في رسم ملامح الزمان والمكان الأصليين وكشف زيف المكان والزمان المزيفين (معاهدة الاستسلام وبيع القضية الفلسطينية للمحتل).

النهاية في مسرحية (قضية الشهيد الرقم 1000) نهاية مفتوحة تبقى فيها الاحداث مستمرة ، والقضية متابعة ومراقبة من أبناء الشعب الذين يعبرون عن حزنهم بصمت وكبرياء ، فالشهداء قد يصبحوا (2000) أو (3000) ما دامت القضية غير منتهية ، وما إعدام (الشهيد الرقم 1000) إلا إعادة بعث روح القضية إزاء خطاب يريد لها أن تنتهي.

الهوامش

  • عباس ، علي مزاحم : عباس ، علي مزاحم : لا تسدلوا الستار ، بغداد ، دار الشؤون الثقافية العامة ، 2005: ص126.
  • ينظر : عطية ، احمد سلمان : الاتجاهات الإخراجية الحديثة وعلاقتها بالمنظر المسرحي ، بغداد ، مؤسسة دار الصادق الثقافية ، عمان ، دار صفاء للطباعة والنشر والتوزيع ، 2012 ،ص214،211.
  • ينظر : نفسه ، ص216.
  • نفسه: ص214.
 

جبران الشداني

المؤسس
طاقم الإدارة
كل الشكر للدكتور الساعدي على هذا التقديم التحليلي.
درايتي بتقنيات الإخراج المسرحي متواضعة، لكن أظنني اقتربت من ملاحظات الكاتب، بفضل وضوح فكرته و بساطة تقديمها للملتقي.
و مرحبا بك في مطر.
 
شكرا لكم استاذ جبران الشداني على متابعاتكم الرائعة للموضوع .. نعم صديقي فأن المخرج الراحل قاسم محمد كان يمتلك خطأ مميزا في قراءة الواقع العربي الثقافي لذلك وظف أدواته الإخراجية في تقديم هذا العرض بشكل جيد .. شكرا لك مرة اخرى
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى