نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

الأسبوع الأول في حياة متقاعد

وأخيرا حصل (رحال) على تقاعده، لقد أكدوا له أنه بداية الحياة الحقيقية، مرحى يا حياة الهوايات وتدارك الفرص الضائعة! صعد أدراج السلالم للصعود لسطح بيته، وجد كرسيا خشبيا قديما بجوار مزهريات الورد والنباتات، لابد أن يؤنبهم على ترك الكرسي تحت الشمس الحارقة تلتهمه فيصبح هشيما.. إن هذه النباتات أصبحت ذابلة، تحتاج مثله للتعهد والرعاية، تربتها أصبحت صلبة قاسية، رشها (رحال) بقليل من الماء، ثم بدأ بإفراغ المحتويات التي التصقت جذورها بقاع القوالب البلاستيكية والطينية.. عليه إذن أن يخصص يومه الأول لاستصلاح هذه المزهريات وإعادة الحياة إليها، جلس (رحال) يدندن وهو يغرس فسائل وبذورا، ثم شرع يجمع النباتات الطفيلية والجذور اليابسة، قبل أن ينظف المكان ويسقي الأغراس في حلتها الجديدة.. كان أثناء ذلك يتذكر مشاهد تكريمه في حفل الوداع. لا، لن يكون ذلك يوم وداع لحياته، بل سيكون وداعا للهموم والشكوى والأنين. صعدت أم الأولاد إلى السطح لنشر بعض الأفرشة، رأته وهو يسقي بخرطوم الماء النباتات التي كان في السابق يكتفي بإلقاء نظرة عابرة عليها إذا صعد هنا في مرات نادرة جدا، لكنها لم تصدر أي تعليق على صنيعه..

ها هو يوم ثانٍ في أسبوع التقاعد، ربّاه! إن الجو منعش يغري بالقيام بنشاط ما. قام (رحال) وصلى، ثم فتح ألبوم صوره القديمة، إنها صور من أزمنة متعددة: صور لرحلات مدرسية وأخرى مع تلاميذه القدامى بمدن مختلفة. تُرى أين انتهى مسار الحياة بكل واحد منهم؟ سيجرب لعبة تذكر الأسماء إن أمكن، يكفيه تذكر اسم واحد في كل صورة من هذه الصور ...!

هو اليوم الثالث إذن من أيام أسبوعه الجديد، لقد مضى وقت طويل ولم يشاهد برامج التلفاز. تُرى، ما القنوات الجديدة وتلك التي لم يعد لها وجود؟ التقط جهاز التحكم، وبدأ بتصفح صفحات أسماء الفضائيات، كانت أم أبنائه تعد وجبة الغداء، ورائحة الزيت والتوابل تقتحم عليه الغرفة، فشعر بأن البيت لا يناسب تواجده في هذا الوقت، وخاصة وأن مضمون هذه القنوات التلفزيونية ليس فيه إلا ثرثرة أو صور فارغة المحتوى. لَمْلَمَ نفسه ثم خرج نحو فضاء المدينة لعله يحظى بمتعة أرقى في الخارج..

استيقظ (رحال) متأخرا مقارنة بالأيام السابقة، لقد سهر البارحة لوقت طويل مستغرقا في قراءة رواية أرهقت عينيه المتعبتين، ولكنه مُصرّ اليوم على إتمامها، إنها قصة: (العجوز والبحر)، لقد أعجب بقصة بطلها، هل تراه تعاطف مع تلك الشخصية لأنه هو نفسه يوشك أن يكون عجوزا، أم تراه فعلا كذلك؟ من يجرؤ أن يقول كلاما مثل هذا؟! ولكن أين أمّ الأولاد؟ أحدهم يقرع الباب ولا أحد يرد عليه، تعالى صوته مشتكيا من الفوضى السائدة هنا، مما يشوش عليه متعة القراءة، أطلت الزوجة التي كانت ترتب البيت، وأبدت تبرما محتشما من ردود فعل زوجها المنزعجة كثيرا في الآونة الأخيرة، وهو من كان نادر الشكوى قبل أن يصبح كتلة من التذمر والأسئلة التي لا تنتهي..

حل يوم الجمعة، حمل (رحال) سجادته وتوجه نحو المسجد كالمعتاد في مثل هذا اليوم، صلى وعاد ليجد وجبة الكسكس في انتظاره، تجمع أبناؤه وبناته ووجوه أخرى كان وكأنه يبصرها لأول مرّة، تردد أن يسأل عنها مخافة أن يتّهم بأنه كثير الأسئلة، ضعيف الذاكرة، سريع التذمر والشكوى، ولكنه متأكد أنه سبق له رؤية تلك الوجوه، لكن أين ومتى؟ هو غير متأكد تماما..

إنه يوم السبت الذي سيخرج فيه (رحال) إلى الحديقة العمومية، اشترى جريدة أسبوعية، وحمل قنينة ماء في كيس بلاستيكي، ثم توجه نحو أكبر حديقة في المدينة، استلقى على العشب الأخضر، وبدأ يقرأ آخر المستجدات في عوالم السياسة والفن والرياضة، إن هي إلا أخبار تافهة مكررة، تواردت إلى مسامعه زقزقة الطيور كأنما يسمعها لأول مرة، هل كانت حواسه معطلة؟ لقد كان فقط يسمع أصداء تلاميذه في الفصل التعليمي، ويستنشق رائحة الطبشورة، فجأة تعالت ضوضاء حواليه، التفت فلم يبصر سوى شبان وشابات يقهقهون ويعبثون، متبادلين كلمات خادشة لحياء أمثاله، استغفر ربه ولعن ما آل إليه أوضاع الأجيال الصاعدة، كاد أن يعلق على كلامهم وسلوكهم، لولا أن خاف أن يتهم بالفضول أو ينعت بأنه عجوز هرم لا يليق به التواجد في مثل هذه الأمكنة، وأن مكانه هو دار العجزة..

يوم الأحد هو يوم الهوايات، اشترى (رحال) بضعة أزواج من الحمام، وقرر أن يقص اجنحتها، ويضعها في صناديق وقوالب من طين، لعلها تؤنس وحدته حين تكبر وتألف المكان بعد أن تطير وتعود لتفرخ فراخا، لكن الزوجة علقت على صنيعه وهي تنشر الأفرشة تحت أشعة الشمس بأن الحمام يفسد بمخلفاته الغسيل ويلوثه..

أحس (رحال) وهو على مشارف إنهاء أسبوعه الأول من حياة التقاعد أنه سيتعب كثيرا في جوار هؤلاء المفلسين في عوالم الابتكار والهواية، وأن مكانه هو البادية حيث الانطلاق والحرية، سيرحل إلى هناك ليجرب حياة حقيقية بعيدا عن الأعين التي ترصد كل حركة وفعل..

 

نقوس المهدي

مشرف
طاقم الإدارة
تحية طيبة وتقدير اخي العزيز السي المصطفى سالمي
نصط حول مجريات الاسبوع الاول في حياة متقاعد ، تعكس هواجس المحال على التقاعد في مستهل عمره الثالث المفعم بالخوف من الاتي والعجز والمرض ومصير الابناء .. وحال الحديقة والاشياء المبعثرة والملابس بدون ازرار ، والغبار على حاشية التلفاز والاريكة ، اشياء لم يولها طول حياته السابقة ادنى اهتام ، ويفكر في ايجاد وسيلة لتزجية الوقت .. قد تزعج اهل البيت .. هذه اليوميات توفقت في بسطها بمرونة ولغة متينة واسلوب شفيف وقوي
أتذكر قصيدة محمود درويش

( ( يوم الأحد
في البيت أَجلس، لا حزيناً لا سعيداً
لا أَنا، أَو لا أَحَدْ

صُحُفٌ مُبَعْثَرَةٌ. ووردُ المزهريَّةِ لا يذكِّرني
بمن قطفته لي. فاليوم عطلتنا عن الذكرى،
وعُطْلَةُ كُلِّ شيء... إنه يوم الأحدْ

يوم نرتِّبُ فيه مطبخنا وغُرْفَةَ نومنا،
كُلِّ على حِدَةٍ. ونسمع نشرةَ الأخبار
هادئةً، فلا حَرْبٌ تُشَنُّ على بَلَدْ))




حياك الله اخي السي المصطفى
 
التعديل الأخير:
شكرا أخي المهدي على كلماتك الجميلة وعبارات التشجيع منك التي تدفعني لأكون في مستوى تطلعاتكم، لقد كتبت هذا النص من مدة ليست باليسيرة، لكنني وجدت نفسي مدفوعا لإعادة نشره ونحن نعيش أجواء الحجر الصحي بسبب وباء (كورونا)، فكان الأمر أشبه بأجواء التقاعد حيث المرء يقوم بملء وقت فراغه بهوايات وأمور تبدو بسيطة، ولكن فيها أحيانا إزعاج للمحيطين بالمرء وتدخل في أمور لم يكن المجال يسمح بمثلها سابقا، ولعل الكثيرين يظنون أن راحة ما بعد التقاعد ممتعة دائما، ولا يكون لديهم استعداد مسبق أو تصور قبلي لطريقة عيشها (أسفار، قراءة كتب، مشاريع صغيرة...) فيقع الصدام فجأة مع من هم في محيطهم وتبدأ المشكلات، ولعل جائحة (كورونا) تقدم بعض المؤشرات الشبيهة بما بعد التقاعد، وقد أجد نفسي أعود لها والكتابة عنها حين تختمر الأفكار في ذهني. شكرا مرة أخرى وتقبل تحياتي ومودتي.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى