نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

أيام من حياة محجور

وجد (جلون) نفسه فجأة حبيس الجدران، كان بالأمس فقط يقضي أيامه كطالب في حجرة الدرس وإن كانت الآفاق تبدو ضبابية، وكان زملاؤه في مجتمعه المتخلف يسخرون من المدرسين ويعتبرون الحصص المدرسية فرصة للفرجة وإثارة أعصاب الكائن المسمى "مدرسا"، وفي لحظات العودة إلى بيوتهم يتداولون القصص الفكاهية لما يجري في فصول هي أشبه بـ "الحلقة الشعبية" في ساحة (جامع الفنا) حيث القردة والكلاب والأفاعي تؤدي كلها أدوارا عجائبية تثير سخرية الساخرين وهزل الهازلين، لقد كان (جلون) خلافا لباقي زملائه أو معظمهم مقبلا على الدرس بكل جوارحه، ويرى ما يجري من عبث في المدارس فعلا مقصودا يُراد به ضرب المدرسة العمومية وليس فقط جعل المدرس "بهلوانا" يُشار إليه بالسخرية والتنكيت وإثارة الضحك، إنهم يريدون فعلا ضرب هيبة المدرس لضرب العلم والمعرفة، وربما نجحوا في ذلك أيما نجاح، تُرى بعد هذا المصاب الجلل والوباء الفتاك كيف هي نظرة هؤلاء التلاميذ والطلبة للمدرس وهم في دوامة القلق والتيه والضياع الفكري والنفسي؟! ولكن هؤلاء مجرد صغار يا (جلون) ـ يخاطب الشاب نفسه ـ المشكلة في كبار القوم ممن يتحكمون بإدارة خبايا الأمور، هل تهميشهم العلم والمعرفة تخدم مصالحهم كما يزعمون في قرارتهم؟! لم يدر لِم تبادرت إلى ذهنه قصة قديمة عن حاكم قتل عقلاء البلد لأنه ضاق ذرعا بكثرة انتقاداتهم له مما كان يعتبره تدخلا في أمور الدولة فأمر بتجميعهم والتخلص منهم، وفجأة هاجم أعداء أشداء شرسون هذه البلاد، ولم يجد الحاكم من يقدم له المشورة في هذه المحنة، لقد أصبح محاطا بالجهلاء والأغبياء، فهل هو التاريخ يتكرر هنا وهناك؟!

ومهما يكن من أمر فإن الشاب وجد نفسه في أول الأمر محبوسا في منزله الصغير مع والديه اللذين يُعَوِّلان عليه لإحداث التغيير في حياتهما، لقد أصبح الحجر الصحي سيفا مسلطا على الفقراء أشباههم بالخصوص، فوالده يملك عربة يد صغيرة يدفعها أمامه جيئة وذهابا باتجاه محطة المسافرين مقابل دريهمات معدودات في اليوم، ولكن توقف الأسفار بفعل هذا الوباء الذي يشبه الطاعون جعل الحياة شبه مشلولة، وأصبح الوالد أشبه بميت مع إيقاف التنفيذ، لكن الشاب (جلون) لم يتوقف عن مراجعة دروسه، كان مثل أغلب أبناء البلدة الصغيرة من المهمشين والفقراء ممن لا قدرة لهم على الدراسة عن بعد عبر وسائل وتقنيات المعلومات العنكبوتية، فحتى لو تكلف والده ما لا يُطاق واشترى له هاتفا ذكيا فمن أين له بالأنترنيت وواجبها الشهري؟!

كان والد (جلون) فلاحا في الأصل، ورث المهنة عن والده الذي مات في البادية، ولكن سنوات الجفاف والرغبة في تعليم الولد دفعتا به لترك الأرض والتوجه نحو بلدة (العجيلات) الصغيرة حيث امتهن مهنة "حمّال"، وها هو الآن يحمل هموم الحاجة وضيق ذات اليد وظلام الأفق فوق كاهله، وزاد على ذلك مسؤولية الشاب ـ ابنه ـ الذي هو في مقتبل العمر، فلتتكفل المقادير بكل شيء، وليكتب الله السلامة للناس أجمعين، وبعدها لكل حادث حديث.

كان الناس في البلدة لا حديث لهم إلا عن وباء أشد خطورة وفتكا من الطاعون اسمه (كورونا)، وكانوا يتحدثون عن طرق انتقاله كأنهم أطباء مختصون ضليعون في العلم والمعرفة، لكن الشاب لم يكن يعير هذه الحوارات والجدل كثير اهتمام، لقد كان يفكر في مستقبله الذي يزداد غموضا، تُرى ماذا لو امتد هذا الحصار المطبق إلى أسابيع وشهور لا تنتهي؟! ماذا لو أصبحت أيامه يشابه بعضها بعضا؟

كان الوالد يختلس أوقاتا في الصباح ينقل فيها بعض صناديق الخضر أو علب السلع للباعة والتجار، ثم يعود حاملا بعض المقتنيات الصغيرة، ورغم أن الشاب ألح في العمل مع والده إلا أن الرجل الكهل رفض رفضا قاطعا مساعدة أي أحد، وحث ولده على الاهتمام فقط بدروسه وهو على أبواب شهادة الباكالوريا، كانت الآفاق لا تحمل للشاب أية بشرى أو حتى نذير شؤم، فلا هي تبدو سنة بيضاء كما يتداول البعض ولا هي كذلك بالسوداء، فهل تكون رمادية كهذه السحب التي أصبحت لا تفارق السماء تجود بغيث مدرار وتقسو ببرد قارس يزيد المخاوف من انتشار نزلات البرد بين الناس وبالتالي زيادة المخاوف والوساوس والأوهام. الناس البسطاء حائرون والمسؤولون أشد حيرة، والبرامج الإخبارية لا تتوقف عن سرد اخبار الموتى والمصابين وضرورة تشديد إجراءات الحجر الصحي، نشرات تزيد من الإحساس بالاكتئاب.

لم يجد الشاب إلا كتبا كان قد اشتراها في العطلة الصيفية السابقة حين كان يسمح له والده وقتها بالعمل على العربة وقت فراغه، لقد اشترى عشرات الكتب وقتها من السوق الأسبوعي بثمن زهيد، فالكتب في بلاده هي أرخص السلع، وربما البائع لم يكن يعرف قيمتها، إنها مجموعة من الكتب الدينية والروايات والدواوين الشعرية والمؤلفات المترجمة والقواميس، وها هو (جلون) يجد ضالته ومتعته في هذه العوالم التي تنتقل به من تفسير القرآن إلى الأدب العالمي، وحين يتعب من كثرة الجلوس يصعد إلى سطح البيت فيقفز بيديه إلى حديدة تُعلَّقُ عليها أضحية العيد ويشرع في التمارين الرياضية، أو يعيد ترتيب أصص بها مغروسات يسقيها ويتعهدها بالعناية، إنها متعة أخرى من هوايات (جلون)، لكن أمتع اللحظات بالنسبة للشاب هي تلك التي يجالس فيها والده ويستمع إلى حكايات قديمة لها علاقة بالأجداد وما عاشوه في أيام المجاعات حين طبخوا جذور النباتات وأكلوا الجراد وبللوا الخبز الجاف بالمرق، وقتها كان السُّكَّر شيئا ثمينا كما الذهب، وكانت الملابس التي تستر المرء لا يمتلكها إلا من أفاض الله عليهم محبته وكرمه، وحين وصل سرد الأب إلى هذه النقطة صمتت تماما أصوات الاحتجاج الداخلي في أعماق (جلون) الذي كان قنوعا راضيا مقارنة بمن هم في مثل سنه ومن جيله.

ـ وماذا عن الطاعون في أزمنتكم الغابرة يا والدي؟

ـ أنا لست كبيرا جدا في العمر، ولكن كان يحكي جدي أن الطاعون قتل الناس حتى فرغت قرى من ساكنتها وما عاد يسكنها إلا البوم والغربان يا ولدي، لقد تركوا الدقيق والعسل وجرار الزيت في مخازنهم. إن الله يرسل على رأس كل مائة عام من يجدد ويذكر الناس بأمور دينهم.

ـ وهل الطاعون يفعل هذا يا والدي؟!

ـ نعم، إنه يأتمر بأمر الله يا ولدي، كلما زاغ الناس وطغوا يأتي الابتلاء ليعيدهم لجادة الصواب.

ـ ولكن ما ذنب الصغار والصالحين في كل هذا يا والدي؟!

ـ (وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم) صدق الله العظيم.

ـ ونِعم بالله يا والدي.

وها هو الأسبوع يوشك على الانقضاء وما زال الشاب (جلون) مستغرقا في قراءاته وتأملاته التي أخرجته من عوالم الكتب المقررة إلى عوالم الثقافة العامة، قربته من أبويه أكثر، نقلته من جزئيات الحياة المادية مأكلها ومشربها وتنقلاتها اليومية لفصول الدراسة إلى رحابة التأملات الكونية التي ما كانت لتخطر على باله وبال الناس أجمعين، ولسان حاله يقول:

ـ لله الأمر من قبل ومن بعد.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى