نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

جميل حمداوي - مقومات القصة القصيرة جدا عند يوســـف حطينـــي

جبران الشداني

المؤسس
طاقم الإدارة
بقلم الدكتور جميل الحمداوي

60278_100211486709414_100001616880478_840_3619536_n.jpg

توطئـــــة: يعد كتاب: "القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق" من أهم الكتب النقدية العربية المعاصرة التي حاولت أن ترسم إطارا نظريا وتطبيقيا للقصة القصيرة جدا،
وذلك بعد كتاب الدكتور أحمد جاسم الحسين:" القصة القصيرة جدا" . ويعني هذا أن كتاب الدكتور يوسف حطيني هو الكتاب العربي الثاني الذي يقارب القصة القصيرة جدا، وذلك في ضوء معايير نظرية، ومقاييس نقدية تطبيقية. والكتاب في الحقيقة تقويم لمجموعة من ملتقيات القصة القصيرة جدا بسورية، تلك الملتقيات العربية التي شارك فيها الدارس باعتباره مشرفا، وناقدا، وباحثا، ومنظرا، وموجها.
هذا، وينقسم الكتاب إلى قسمين: قسم نظري وقسم تطبيقي. وإذا كان أحمد جاسم الحسين يرى أن جنس القصة القصيرة جدا جنس أدبي عربي حديث، فإن يوسف حطيني يرى أن هذا الجنس الأدبي المستقل له جذور عربية تراثية ساهمت في بلورة هذا الفن في أدبنا الحديث والمعاصر. وفي هذا السياق، يقول يوسف حطيني في مقدمة الكتاب:"جاء هذا الكتاب الذي يهدف بكل وضوح إلى إثبات أن القصة القصيرة جدا نوع أدبي مستقل، له أركان تميزه من الأنواع التي تنضوي تحت جنس النثر الحكائي كالقصة القصيرة والرواية وغيرها.
وعلى الرغم من أن هذا النوع الأدبي قديم جدا، فإنه بدأ بالتلامح، بوصفه نوعا أدبيا قادرا على الامتناع والإقناع، ويتوافر على عناصر وتقنيات تجعله يختلف على الشكل الحكائي القديم، ويعد تطويرا له، وبناء عليه.
وبهذا المعنى، فإن تأكيدنا على قدم هذا النوع لايعني أننا نجتر ما أنجزه القدماء، بل نقر بما أنجزه، مع الإشارة إلى أننا نحاول استثمار جميع طاقات التطور السردي من أجل تحويل الحكاية والخبر والنادرة...إلى قصة تمتلك جدارة الانتماء إلى السرد الحديث."
وعلى الرغم مما يقال عن القصة القصيرة جدا من قبل الرافضين لها، والمنكرين لأصالتها ووجودها، فإن يوسف حطيني يرى أن هذا الجنس الأدبي قد فرض وجوده، وأصبح ظاهرة فنية وجمالية لا يمكن نفيها، أو المرور عليها مر الكرام. ومن ثم، فإن :" هذا الكتاب ينطلق من مقولة أساسية مفادها أن القصة القصيرة جدا موجودة بالفعل، على الرغم من الأطياف المختلفة التي تحكم النظرة إليها، وعلى الرغم من أن عناصرها وتقنياتها ماتزال بين أخذ ورد. لذلك، فهو لن يناقش قضية وجودها، بل سينطلق إلى مناقشتها ومحاكمتها بوصفها ظاهرة موجودة، مؤكدا أن إنكارها يذكر بطريقة النعامة في التعامل مع الموجودات الحسية."
إذاً، ماهي القضايا الفكرية والفنية والجمالية التي يطرحها كتاب:" القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق" ليوسف حطيني؟ وهل استطاع الدارس أن يرسم منهجية خاصة لمقاربة هذا الجنس الأدبي الجديد /القديم، دون الاعتماد على مقاربات الأجناس الأدبية الأخرى؟ تلكم هي الإشكاليات المطروحة التي سوف نحاول الإجابة عنها في هذه الورقة التالية.

1- نظريـــــة القصـــة القصيرة جـــــدا:
ينطلق يوسف حطيني من أن القصة القصيرة جدا لها جذور في تراثنا السردي العربي القديم، ولها علاقة وطيدة بالأخبار، والحكايات، والطرائف، والشذرات، والأكاذيب، والمنامات، والمقامات، وغير ذلك مما يبلغ حدا لافتا من القصر. ومن ثم، فهو ينكر تأثر كتاب هذا الفن في حقلنا الثقافي العربي بالآداب العالمية بشكل مباشر، مادام هذا الفن موجودا في تراثنا السردي. وينحو في هذا الاتجاه منحى صديقه أحمد جاسم الحسين:" ولابد من التأكيد هنا- يقول يوسف حطيني- أن الإفادة من الثقافة العالمية محمودة دائما بشرط واحد ووحيد هو ألا تمارس هذه الثقافة استلابا من أي نوع على ثقافتنا القديمة والمعاصرة.
ومن هنا، فإن القصة القصيرة جدا، بوصفها نوعا أدبيا له أركانه وتقنياته، لا يعيبها أن تكون متأثرة بأي أدب عالمي، ولكن واقع الحال يبعد هذا الاحتمال من وجهين:
الأول وجودها فعلا في تراثنا العربي الغني بأشكال مختلفة.
الثاني وجود سرد عربي متميز حديث صالح لأن يتطور وينتج أشكالا سردية جديدة. ولاسيما أن الرواية العربية التي تم استيراد تقنياتها الحديثة من الغرب في بدايات القرن الماضي لم تقف عند حدود تلك التقنيات، بل عملت على تطويرها بكفاءة ممتازة."
لكن السؤال الذي يبدر إلى أذهاننا هو أن مصطلح القصة القصيرة جدا كان موجودا في الثقافة الغربية بهذا الاسم، وخاصة في آداب أمريكا اللاتينية، فمصطلح(MICRORRELATOS) يعني القصة القصيرة جدا، وقد استعمله إرنست همنغواي سنة 1925م. وهذا دليل على أن فن القصة القصيرة جدا فن وافد علينا، وذلك على الرغم من جذوره التراثية. بمعنى أن نشأة القصة القصيرة، وذلك على مستوى الوعي والمقصدية والنية، غربي النشأة والاصطلاح. كما أن ترجمة كتاب " انفعالات" لنتالي ساروت من الفرنسية إلى اللغة العربية، وذلك من قبل المترجم المصري فتحي العشري سنة 1971م، كان يحمل فوق ظهر الغلاف مصطلح القصة القصيرة جدا. ومن المعلوم أن نصوص نتالي ساروت القصيرة جدا قد تم نشرها عام 1932م.
وإذا أخذنا - مثلا- هذه القصة القصيرة جدا التي كتبها أنطوان تشيخوف، فقد يتبين لنا بأن الكتاب الروس كانوا على علم بتقنيات القصة القصيرة جدا بشكل واع، كما في مثل هذه القصة المعنونة بــ" ثروة"، والتي يقول فيها تشيخوف:" منذ أربعين عاما، وعندما كنت في الخامسة عشرة، عثرت في الطريق على ورقة من فئة جنيه، ومنذ ذلك اليوم لم أرفع وجهي عن الأرض...
واستطيع الآن أن أحصي ممتلكاتي كما يفعل أصحاب الثروات في نهاية حياتهم- فأنا أملك 2917زرا، و34172دبوسا، و12 سن ريشة، و13قلما، ومنديلا واحدا، وظهرا منحنيا، ونظرا ضعيفا، وحياة بائسة."
هذا، ويرى يوسف حطيني أن القصة القصيرة جدا تختلف كل الاختلاف عن الحكاية التراثية بجمعها بين الجانبين: الإخباري والجمالي، في حين تقتصر الحكاية التراثية على الإخبار فقط:"فالحكاية التراثية كانت تكتفي في معظم الأحيان بالجانبين الحكائي والوعظي، أما القصة الحديثة فقد تخلصت في نماذجها الجيدة من الوعظية، واهتمت باستثمار إنجازات التطور السردي، بمعنى أن السرد القديم كان مهتما بالجانب الإخباري، بينما اهتم السرد الحديث بالجانبين: الإخباري والجمالي في الآونة نفسها."
ومن هنا، فقد أورد يوسف حطيني كثيرا من النصوص التراثية التي تنتمي إلى السرد القصصي القصير، وذكر منها الحكايات، والأكاذيب، والأخبار، وقصص الحيوانات، وقصص الطفيليين كأشعب وجحا. وكل هذه الحكايات والنصوص القصيرة جدا تحمل في طياتها قضايا اجتماعية وسياسية، ولاسيما قصص جحا ونوادره الساخرة.
مما تقدم، " نرى أن السرد القصير جدا ليس جديدا، ولكنه قديم جدا، غير أن الذي يميز السرد الحديث عنه أنه – أي القديم- احتفل بالمقولة على حساب الفن، وأن انتماء النص إلى نوع سردي بعينه لم يكن واضحا، إذ اختلط الخبر بالنادرة، واختلط المنام بالأكذوبة، في كثير من النماذج."
وبعد ذلك، يذهب يوسف حطيني إلى أن القصة القصيرة جدا فن أدبي مستقل على الرغم من استفادته من الفنون والأجناس الأدبية الأخرى. والآتي، أن كثيرا من المبدعين مازالوا يخلطون بين القصة القصيرة جدا والخاطرة والنكتة والنادرة . وأن هذا الفن صعب المراس، ولا يمكن أن يتقنه سوى مبدع تمرس على كتابة القصة القصيرة. ومن ثم، يطرح التنظير مشكلا عويصا، فلا يجوز بحال من الأحوال تقييد المبدعين بوصفة فنية جاهزة، قوامها: اكتب ولا تكتب... وفي الوقت نفسه، لاينبغي أن نترك باب هذا الفن على مصراعيه لكل من هب ودب، فلابد من وضع مجموعة من الأركان والشروط لتوجيه هذا الإبداع توجيها صحيحا. وفي هذا النطاق، يقول يوسف حطيني:" وعلى الرغم من أن القصة القصيرة جدا بحاجة إلى معايير تميزها من فنون النثر الحكائي الأخرى، فأنا أعتقد أن الحديث مازال مبكرا عن ضبطها بتلك المعايير من خلال مقياس نقدي صارم، صحيح أنني أطرح تصورا نظريا لأركانها، ولكنني لا استطيع أن أفرض هذا التصور على المبدعين والنقاد على حد سواء.فثمة خلاف مع الناقد حول هذه العناصر، وثمة خلاف أيضا مع المبدع الذي يمكن أن يطورها.
غير أن هذا لايعني أن الأمور ستبقى عائمة إلى الأبد، لأن السنوات القادمة، فيما أعتقد، ستفرز كثيرا من النصوص التي ستحاور النقد بجدارة، وعندها سيكون النقد مطمئنا أكثر للمقاييس التي تفرضها النصوص الأكثر تطورا ونضجا.
ولابد هنا من التأكيد أن وجود إطار نظري يحدد عناصرها لا يمكن أن يكون نهائيا، والمبدع الحقيقي هو الذي يلم بقواعد الفن من أجل أن يتجاوزها لا من أجل أن يتقيد بها تقيدا صارما."
وأرى شخصيا أن التنظير لهذا الفن الجديد ضروري في هذه المرحلة، وذلك من أجل توجيه المبدعين توجيها سليما، ولاسيما الذين يخلطون هذا الفن بفنون وأجناس أدبية أخرى. ولابد أيضا من وضع مجموعة من القواعد الثابتة والثانوية لتطويق هذا الفن الجديد، وإرساء معالمه فنيا وجماليا في الحقل الثقافي العربي. وباحترام تلك القواعد، تتحدد موهبة المبدع، وتتفتق عبقريته على العطاء والإنتاج. وبتكسير تلك القواعد، يتطور هذا الجنس فنيا، ويتقدم إلى الأمام. أما أن نترك الأمور على عواهنها، فسنحكم – بلا محالة- على هذا الفن بالموت والانهيار والانقراض، كما هو حال القصيدة النثرية التي أصبحت مستباحة بشكل خطير.
وتأسيسا على ماسبق، فقد حدد يوسف حطيني مجموعة من العناصر الجوهرية للقصة القصيرة جدا، فقد حصرها في المقومات التالية:
1- الحكائية أو القصصية: كما في قصة: " فجر" للقاصة ابتسام شاكوش:" اتفقت الكلاب على طرد الليل، اجتمعت بأعداد غفيرة في أعلى التل الكبير، ظلت تنبح مستعجلة الفجر ساعات وساعات، وحين جاء الفجر بموكبه المهيب من الشرق وجدها نائمة."
وبغياب الحكائية،تضيع القصة القصيرة جدا، وتتحول إلى خاطرة كما في نص:" رسالة" لعماد النداف:
" حبيبتي
اشتريت لك ثوبا كحليا..
سأقدمه لك عندما أعود...أنا الآن أمضي الليلة وحيدا أرقب النجوم...
اسمعي...هذه النجوم استطيع أن أقطفها لك، وأرميها فوق ثوبك الكحلي، لكي تعرف النجوم أنك القمر."
وهناك نصوص بعيدة عن فن القصة القصيرة جدا، حيث تسقط في الشاعرية، وتقترب من الشعر أكثر من اقترابها من القصة القصيرة جدا كما عند حياة أبو فاضل:" صداقتنا مذ خلع ألوان الخريف عن شجرة المشمش في حديقتنا.وقفت تحتها صغيرة، مأخوذة، شعري يصافح الورق الراقص والهواء البارد، وصوت أمي طائر من داخل البيت:" ادخلي، أو ضعي قبعتك على رأسك!" سمعتها وما سمعتها. كنت أعتقد عهد صداقة مع الشمالي الساحر القاسي.فكيف أخفي عنه شعري الطويل داخل جدران قبعتي؟"
ونفس الحكم، ينطبق أيضا على بعض قصص عبير كامل إسماعيل كما في نص:" حضور" الذي تغيب فيه الحكائية أو القصصية:" تقول الحاضرة للغائب: ما أشد وقع حضورك في الغياب" .
كما يسقط القاص الفلسطيني محمود علي السعيد في النزعة الشعرية؛ مما يفقد قصصه الخاصية الحكائية أو القصصية كما في هذا النص:" الورقة":" في فسحة من فضاء الحلم الأزرق، راق في عينيه الطقس، فاستيقظ قبل زقزقة العصافير يحمل محفظته الشقراء كجدائل غيمات فصل الخريف، يمتطي قطار الريح، يعبق برائحة الفل المتطايرة كشرارات موقد الحطب من شرفات حارات حلب القديمة ذات الإيقاعات الجمالية الخاصة جدا بفن الهندسة والزخرف، يستقبل صفحات جريدة الجماهير العربية بعشق، يطالع إشكالات الثقافة العصرية عبر حوار طاقة من الشباب الطيب فكرا وثقافة وقشعريرة الشوق على فلسطين تخفق بجناحيها بمسافة طويلة تضم الوطن دفعة واحدة حتى يصحو من دوامة التساؤلات، وقد انفرطت من عقد القصة على صوت فاطمة يرشح من زجاج المقهى.صباح الخير ياحبيبتي."
2- الوحدة: والمقصود بها وحدة الحبكة والعقدة بشكل خاص؛ " لأن تعدد الحبكات والعقد والحوافز المحركة للأحداث، وتكرر النماذج المتشابهة، يمكن أن يقود إلى نوع من الترهل الذي يفقد القصة القصيرة جدا تمركزها." ومن الأمثلة على ذلك قصة" قاراقوش" لعدنان كنفاني:" فارمان سلطان شديد اللهجة يقول:
كل حمار (مهما كان تصنيفه) ينهق في الأماكن العامة يتعرض لعقوبة الخوزقة.
ساد الهرج والمرج وتزاحمت وحوش الغابة وطيورها وحشراتها تغادر مواطنها هربا..
قال حمار يخاطب أرنبا هاربا:
لماذا تهرب والفرمان يخصنا دون سوانا؟
ضحك الأرنب ساخرا، وأجاب :
في غابة مثل هذه، كلنا حمير.
وانطلق يركض على غير هدى."
ومن الأمثلة الدالة على هذه الوحدة القصصية قصة:" تقمص" لعبير كامل إسماعيل:" عندما أحرقوا جسده انتقاما..أخذت رماده، مزجته بتراب حديقة منزلها.. بعد شهور نبتت ياسمينة بيضاء، امتدت.. وامتدت حتى سورت قصور المدينة كلها."
3- التكثيف: يرى يوسف حطيني أن التكثيف من :" أهم عناصر القصة القصيرة جدا، ويشترط فيه ألا يكون مخلا بالرؤى أو الشخصيات، وهو الذي يحدد مهارة القاص، وقد يخفق كثير من القاصين أو الروائيين في كتابة هذا النوع الأدبي، بسبب عدم قدرتهم على التركيز أو عدم ميلهم إليه."
ومن أهم الأمثلة القصصية على خاصية التكثيف قصة:" تمساح" لمحمود شقير:" تمساح باهت الجلد، مسترخ تحت شمس الظهيرة، مرتاح لبلادته التي لا توصف، يرقب بسكينة ودعة، المرأة وهي تتعرى ببطء لذيذ، يرقب بالسكينة وبالدعة نفسها، الرجل وهو يتمسح بالمرأة التي تبدو مثل فريسة سهلة المنال، التمساح وهو مسترخ تحت شمس الظهيرة، يذرف الدموع، شفقة على المرأة التي ركضت، ضاحكة، مستثارة نحو حافة الماء، وهي لاتدري أنها تغوي تمساحين اثنين في وقت واحد"
لا أعتقد أن هذه القصة في منظوري الشخصي مثالا لقصة مكثفة، بل هي زاخرة بتفاصيل وجزئيات وصفية كان بالإمكان تجنبها، والاقتصاد فيها تكثيفا وتركيزا وتبئيرا. لكن أهم قصة تصلح للتكثيف قصة طلعت سقيرق تحت عنوان:" الفاعل":"اصطف الطلاب.. دخلوا بنظام، جلسوا على مقاعدهم بهدوء، قال المعلم: درسنا اليوم عن الفاعل.. من منكم يعرف الفاعل؟؟
رفع أحد الطلاب إصبعه.. وقف..تثاءب..قال : الفاعل هو ذلك الذي لم يعد موجودا بيننا..ضحك الطلاب، وبكى المعلم.."
ومن النماذج المسيئة إلى فكرة التكثيف قصة " بيتان" لمحاسن الجندي، وذلك بسبب التكرار والتطويل والإسهاب" اختلفا فيما بينهما، ولم يطيقا العيش معا، ثم أعلنا الطلاق وبكى الأطفال..
أراد كل منهما أن يعمر بيتا مريحا للأولاد:
اشترت أرضا قريبة من القلب واشترى مساحة قريبة من العقل المتسلط.
شيدت غرفة صغيرة من الصدق والعفوية، وبنى غرفة شاسعة من الكذب والادعاء..
بنت غرفة من الحرية، وبنى غرفة من التربية الصارمة.
ملأت مطبخها بفواكه الحنان والتضحية، وملأ مطبخه بفواكه الحب المطعمة بفاليوم الخوف والأنانية.
سيجت بيتها المنمنم بورود الجرأة والتفاؤل والفرح، وسيج بيته بسياج الكآبة والتسلط...حينها طار الأولاد صوب البيت الصغير على جناحي فرح إنساني لاتشوبه شائبة."
4- المفارقة: تعد المفارقة من أهم عناصر القصة القصيرة جدا، ولايمكن الاستغناء عنها، وتعتمد على :" تفريغ الذروة، وخرق المتوقع، ولكنها في الوقت ذاته ليست طرفة، وإذا كانت هذه القصة تضحك المتلقي، في بعض الأحيان، فإنها تسعى إلى تعميق إحساسه بالناس والأشياء، ولعل إيجاد المفارقة أن يكون أكثر جدوى في التعبير عن الموضوعات الكبيرة، كالعولمة والانتماء ومواجهة الذات."
وإذا كان أحمد جاسم الحسين يعتبر المفارقة من التقنيات الثانوية التي تحضر وتغيب، فإنني – شخصيا- أتفق مع يوسف حطيني الذي عدها ركنا ضروريا للقصة القصيرة جدا، فشعرية القصة القصيرة جدا تتمثل في هذه المفارقة المكثفة القائمة على التضاد، والتنافر، والتقابل، والسخرية، والباروديا، والتهجين. وفي هذا الصدد، يقول يوسف حطيني:" ولابد من الإشارة هنا إلى أن ضرورة وجود المفارقة فيها هي إحدى نقاط الخلاف مع الدكتور أحمد جاسم الحسين، فأنا أراها عنصرا لازما، أما هو فيراها تقنية ممكنة الاستخدام.وقد درست من أجل حسم رأيي حول هذه المسألة مئات النصوص المتوفرة، منطلقا من أن النص القصصي هو الذي يفرز أدواته التي تناسبه، وثبت لدي أن ما قرأته من القصص الناجحة حتى الآن يعتمد اعتمادا كبيرا على المفارقة. ولاشك أن الحل لا يكون بالإقحام القسري لها، بل بالبحث عن صيغ سردية مناسبة؛ لأن المفارقة هي الأقدر على رفع إحساس المتلقي بالقصة القصيرة جدا التي لا يمكن أن تكون ناجحة أبدا بدونها."
ومن الأمثلة على خاصية المفارقة قصة:" مفاجأة" لجمانة طه:" ملأت كفها بحفنة من تراب الوطن.حدقت فيه، وجدته مملوءا دبابات وأسلاكا شائكة."
ومن القصص المفارقة الأخرى قصة محاسن الجندي:" رن الهاتف... قال بضع كلمات وهم بمغادرة مكان عمله.
سأله منذر عن السبب، فأجاب باختصار المستعجل:
- تلك التي كانت تحدثني على الهاتف مدة شهر كامل، ولم أعرف اسمها أو شكلها، أعطتني موعدا في الشارع المجاور..
قال منذر:
- وكيف ستتعرف عليها...؟
- قالت إنها ستلبس ثوبا أزرق، وغطاء أبيض، وستحمل في يدها اليمنى، وردة حمراء.
وعندما دخل غرفة النوم ليغير ملابسه رأى منذر على السرير ثوبا أزرق وغطاء رأس أبيض..أما الوردة..."
وغالبا ما تعتمد المفارقة على النكتة والطرفة والإدهاش والمفاجأة، ولكن المفارقة لا تعني النكتة الساخرة بأي شكل من الأشكال.
5- فعلية الجملة: تعتمد القصة القصيرة جدا على عنصر الفعلية في تحريك الأفعال، وتسريع الحبكة السردية سواء أكانت تلك الجمل جملا فعلية أم جملا تفيد الفعلية، مثل: الجمل الاسمية التي خبرها فعل. كما في قصة:" انفتاح" للكاتبة الكويتية ليلى العثمان:" سألت الزهرة رفيقتها:
- لماذا تفتحت قبلي؟
قالت الرفيقة بانتشاء:
- فتحت قلبي للنور والمطر قبلك."
وإليكم قصة :" الجامعة" للكاتب السعودي ناصر سالم الجاسم تعتمد على الجمل الاسمية كثيرا ؛ مما أثر سلبا على حبكتها السردية، وإيقاعها الفني والجمالي:" السور رفيع، الباب موصد، النوافذ علوية زجاجية عاكسة، موظفو الأمن عند بوابة الخروج ببذلاتهم الأنيقة يطابقون الأسماء في البطاقات المحددة، ويطلون برؤوسهم داخل السيارات من خلال نوافذ السائقين، وينظرون إلى الأجساد الجالسة والحلي الفارة من سواد العباءات السوداء والحقائب الجلدية الموضوعة فوق كل حجر، والرجال في المواقف المكشوفة للشمس ينتظرون ويدخنون ويقرؤون الصحف اليومية بدون شهوة، كنت منتظرا معهم، وأسأل نفسي: كم جميلة بداخل هذا المبنى؟ كم عاشقة خلف هذا السور؟ كم خائنة في قاعة المحاضرات تناقش بارتياح؟ كم حبلى واقفة في طابور الكافيتيريا تمد يديها أمام بطنها تخشى الإجهاض؟ وكم...؟ وكم...؟"
وعليه، فالدكتور يوسف حطيني يحدد خمسة أركان للقصة القصيرة جدا، ولكن ثمة أركان أخرى، وإن كنت لا أرى أن الوحدة ركنا، لأنه يوجد في جميع الأجناس الأدبية، فليس هناك فن أو جنس أدبي لا يتوفر على وحدة موضوعية أو عضوية أو اتساق أو انسجام سواء على مستوى الحبكة أو على مستوى الخطاب أو الدلالة. وأتفق مع الدارس في تأكيد باقي العناصر الأخرى. بيد أن ثمة أركان أخرى تعتمد عليها القصة القصيرة جدا، مثل: التسريع، وقصر الحجم، والإدهاش، والإرباك، والمفاجأة.
هذا، وقد حاول بعض المبدعين السوريين، ألا وهو الأستاذ نبيل المجلي، جمع بعض أركان القصة القصيرة في منظومة على غرار أراجيز النحو والفقه والعلوم :

سرد قصير متناه في القصر
كالسهم، بل كالشهب تطلق الشرر
كتبهـــــا الأوائــــل الكبـــار
وليس يدرى من هو المغـــــــــوار
قد ميزتها خمســــة الأركان
حكايـــــــة غنــــــية المعــــــــاني
وبعدها يلزمــــــنا التكثيـف
ووحدة يحفظـــــــــــــها حصيــف
واشترط الناس لها المفارقـة
وأن تكـــــــــــــون للحدود فارقــة
وجملــــة فعليـــــة بها كمــل
بنــــــاؤهـــا.. وحقـه أن يكتمــــــل
وثمة مجموعة من التقنيات التي تحضر وتغيب، وتشترك فيها مع الفنون والأجناس الأدبية الأخرى، مثل: التناص (أسماء الأعلام والأمكنة...، والتلوين الأسلوبي (النفي، والإثبات، والاستدراك...)، والتشخيص (قصص على ألسنة الحيوانات والجمادات)، ووضع العنوان في خدمة النص، وتشغيل الحوار المشهدي، وتوظيف الإيقاع النحوي والتركيبي والموضوعي، واستخدام الألوان في أكثر من قصة، كما في قصة: " ألوان" لهيمي المفتي:" لا تزال، ومنذ أن أبدى إعجابه الخجول بفمها البكر الممتلئ، تطلي شفتيها كل يوم بلون جديد...
لونتهما بالأحمر القاني يوما، وبالأرجواني يوما، ثم رسمت خطوطا قاتمة على حدود الشفاه لتبدو أكثر اكتنازا، وطلتها بلون الرماد الشهي...
جربت اللون الناري، المرجاني، الخمري، التوتي، البرتقالي، الزهري، الفوشيا...وحين انتهت التشكيلة المتوافرة في السوق، أخذت تمزج بين أصابع الشفاه المختلفة فتأتي بألوان جديدة لا اسم لها ولا تشبه غيرها...
الألوان الصارخة في الشفتين تبهره بجديدها كل يوم، وتغتصب إعجابه الجريء السافر...أما كل ما تأتي به الشفتان من ابتسامات، وكل مايصدر عنهما من كلمات أو قبلات، بل كل ما يحيط بهما من ملامح، فقد فقد لونه.."
ويبرز سليم عباسي في لوحة الغلاف الأخير من مجموعته القصصية : (البيت بيتك) مجموعة من الأركان، فيحصرها في: الحكائية، والمفارقة، والسخرية، والتكثيف الذي يشمل اللغة والحدث والوصف والشخصيات،. كما يتطرق إلى التقنيات، فيستحضر منها: الأنسنة، والرمز، والإيماء، والتلميح، والإيهام، والخاتمة المتوهجة الواخزة المحيرة، وطرافة اللقطة، واختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدمتها. إن سليم عباسي حسب يوسف حطيني:" يخلط بين الأركان والتقنيات.ويبدو أن الخلط بين الأركان والتقنيات ليس مشكلة عباسي وحده، بل هي مشكلة كتاب القصة القصيرة جدا ونقادها على حد سواء."
وعلى الرغم من قصر القصة القصيرة جدا، فإنها تطرح أسئلة كبيرة، فلقد:" أثبت كثير من القصص القصيرة جدا أن هذا النوع الأدبي قادر، بكفاءة، على حمل الهموم الكبيرة: الاجتماعية، والوطنية والقومية والإنسانية، إذ إن المتابع لها يدرك مدى حضور قضية فلسطين، والصراع العربي الإسرائيلي، والموقف من سعي النظام العالمي الجديد إلى فرض هيمنته على العالم، وغير ذلك من القضايا، مما يثبت أن قصر القصة لا يعني بالضرورة قصر الرؤيا كما حاول بعض الكتاب أن يستنتج."
ويعني هذا أن القصة القصيرة جدا قصة ملتزمة ذات مواقف متنوعة تجاه الذات والموضوع، وتجاه نفسها فيما يسمى بالميتاسردي. بيد أن ثمة قصصا قصيرة جدا فارغة من حيث المعنى والمضمون والرسالة، حيث:" تحولت القصة القصيرة جدا إلى ملحة أو طرفة لاهدف لها إلا الإضحاك، وقد تجلى ذلك في بعض قصص أحمد جميل الحسن، من مثل قصة:" مانع" التي يقول فيها: " خطت له رسالة طويلة جدا، ملأتها بالأشواق والقبل، والرموز والتصريحات، وختمتها:
حبيبي:
من شدة حبي لك لم استعمل حبوب منع الحمل معك، مثلما كنت استعملها مع غيرك.""
وبعد ذلك، قدم يوسف حطيني نظرة عامة حول مجموعة من ملتقيات القصة القصيرة جدا، وهي تنعقد بدمشق منذ عام 2000م. وهكذا، فقد أشاد الملتقى الأول بتجارب كل من ناتالي ساروت، وكالفينو، ووليد إخلاصي، وزكريا تامر. وقد شارك في الملتقي الأول للقصة القصيرة جدا عدد كبير من المبدعين والنقاد، ونستحضر منهم: عبد الله أبو هيف، وقاسم المقداد، ونبيل اللو، ولبانة مشوح، وجمانة طه، وأحمد جاسم الحسين، ويوسف حطيني، ومحمد جمال الطحان، ومية الرحبي، وسليمان حسين، ووليد معماري، ودلال حاتم، وسعاد مكارم، وعماد نداف، وعدنان كنفاني، وسلوى الرفاعي، وابتسام شاكوش، وآخرين...
وقد شارك في الملتقي الثاني للقصة القصيرة جدا، الذي استضافه المركز الثقافي الروسي بدمشق ما بين 5و13 غشت 2001م، ما يزيد عن خمسين مبدعا وناقدا، منهم: رياض عصمت، وعبد الله أبو هيف، وعادل فريجات، ولبانة مشوح، والشاعر عبد القادر الحصني، وعبد الكريم عبد الصمد، وهيمى المفتي، ووفاء خرما، وابتسام شاكوش...وآخرون.
أما الملتقى الثالث:" فقد شهد تطورا لافتا، حين أدخل في برنامجه، إضافة إلى المشاركات القصصية والتعليقات النقدية، قراءات من الأدب العالمي، اختارها مجموعة من المترجمين عن الروسية والتركية والبلغارية."
أما الملتقي الرابع فقد كان مابين10و14 غشت من عام 2003م في المركز الثقافي الروسي بدمشق، كما انعقد كذلك مابين 17و20 من غشت 2003م بصالة المركز الثقافي العربي بمدينة حلب:" فقد تم إلغاء التعليقات النقدية التي تعارفت عليها المتقيات السابقة، بعد أن وجهت ملاحظات للقائمين على الملتقى، مفادها أن النقاد ليسوا أوصياء على هذه التجربة الجديدة، غير أن عتبا تم توجيهه للقائمين عليه أيضا، بسبب غياب التعليقات عنه. غير أن الجديد في الملتقى الرابع والأخير هو امتداده إلى حلب، حيث لاقى ترحيبا واسعا ومشاركة فعالة، بفضل مساعدة الدكتور محمد جمال الطحان وإشرافه."
وما يهمنا في هذه الملتقيات الدراسات النقدية التي أدلى بها النقاد كدراسة الدكتورة لبانة المشوح التي حصرت أركان القصة القصيرة جدا في:الحكائية، والتكثيف، والإدهاش.
وبناء على ماسبق، يقدم يوسف حطيني نظرة متفائلة إلى مستقبل القصة القصيرة جدا بأنها ستحظى بمكانة كبيرة في الأيام المقبلة. وفعلا، لقد تحقق لهذا الفن الجديد ماكان يصبو إليه كل من أحمد جاسم الحسين، ويوسف حطيني من انتشار وتوسع وازدهار:" إن مستقبل القصة القصيرة جدا يبدو لي مرهونا- يقول يوسف حطيني- قبل كل شيء بالحاجة إلى إقناع القارئ بجدوى هذا النوع الأدبي عبر إعطائه مزيدا من الدور للقارئ وتحريضه ورفع مستوى وعيه الفكري والجمالي.
ونحن- بالتأكيد- بحاجة إلى مزيد من المجموعات المتميزة، لأن النصوص الرديئة لا ترسخ نوعا أدبيا، ولأن النقاد، ولو اجتمعوا، لا يستطيعون كتابة قصة أو قصيدة، ولا يستطيعون أن يفرضوا نوعا أدبيا لا تدعمه نصوص مميزة قابلة للحذو.
إن ملتقيات القصة القصيرة جدا لا تزعم أنها تقدم إجابات نهائية للمتسائلين، لأن المشاركين فيها جميعا يزعمون أنهم في طور التجريب، وربما كان من المبكر الحكم على هذه التجربة، ونحن هنا لا نطلب من المشككين بجدوى هذه التجربة أن يهللوا لها، ولكننا نطمح على أن يعطوها فرصة لتقول ما لديها، وفي ظني أن المستقبل سيكون للتجديد؛ لأن الجديد من ضرورات الحياة ومتطلباتها."
وفي يومنا هذا، فقد شرقت القصة القصيرة جدا وغربت بشكل لافت للانتباه، فأضحت ظاهرة أدبية تثير المبدعين والنقاد والقراء على حد سواء، وذلك بين مدافع، ومتردد، ورافض.

2- تطبيقـــات نقدية حول القصة القصيرة جدا:
خصص يوسف حطيني القاص السوري زكريا تامر بدراسة نقدية تتناول عوالمه الفنية والتخييلية في ماكتبه من قصص قصيرة جدا. ومن ثم، تمتاز القصص القصيرة جدا عند زكريا تامر بمجموعة من الخصائص والسمات، كالنزعة الإنسانية، والميل إلى الأصالة والتفرد والتجديد، واستعمال لغة سردية متميزة، وتشغيل التكثيف، واستعمال الجملة الفعلية، وتعقيد الواقع البسيط، والمزج بين الحلم والواقع، واستخدام الأسطورة، والانطلاق من هموم مختلفة اجتماعية، ووطنية، وقومية، وإنسانية.
وعليه، " يؤمن زكريا تامر ودون مواربة بأن الحكائية شرط كل نثر قصصي، وعلى الرغم من استخدام مجموعة من التقنيات القصصية التي يتيحها التلاعب بالنظام اللغوي، فإن القاص لا يركن لهذه التقنيات، مستسلما لغوايتها،بل يضعها جميعا في خدمة الحكاية، وعلى الرغم مما يشار على أن زكريا تامر هو شاعر القصة العربية القصيرة، فإنه بقي قاصا لأنه عرف كيف يفيد من شعرية الحكاية، ويخيل إلي أن أهم الفروق بين الشعرية الحكائية، والحكائية الشعرية، إضافة إلى الإيقاع، أن الأولى تضع إمكانات الحكاية في خدمة الشعر، أما الثانية فلأنها تضع الصورة واللغة والمجاز والأسطورة والحلم والكابوس والتوتر اللغوي...في خدمة الحكاية."
ومن هنا، يتميز زكريا تامر، وذلك في قصصه القصيرة جدا، بقدرته على التكثيف، والانتخاب اللغوي، والتركيز، والتضمين، وتحقيق الوحدة الموضوعية، واستعمال الجزئيات الموحية، والابتعاد عن الشرح الطويل، والاهتمام بالمفارقة، حيث:" يدرك القاص جيدا أن القصة القصيرة جدا لا تستغني عن المفارقة، إذ هي عنده أساس من الأسس التي لا غنى عنها أبدا، وتعتمد على مبدإ تفريغ الذروة، وخرق المتوقع، ولكنها في الوقت ذاته ليست طرفة، وإذا كانت هذه القصة تضحك المتلقين في بعض الأحيان، فإن هذا الضحك يكون في كثير من الأحيان مؤلما إلى حد البكاء، ويسعى إلى تعميق إحساسه بالناس والأشياء، ولعل إيجاد المفارقة أن يكون أكثر جدوى في طرح الأسئلة الكبيرة حول العولمة والهوية وحقيقة الشرف، ونسبية المفاهيم، والقدرة الخارقة التي يتمتع بها المهزومون الذين يجعلون العهر شرفا."
وإذا كان كثير من كتاب القصة القصيرة جدا يميلون إلى التنكير في تقديم الشخصيات، فإن زكريا تامر يميل إلى التعريف بشخوصه السردية، واستخدام الأسماء العلمية في قصصه القصيرة جدا، كأن يستخدم مثلا: دياب الأحمد، وعبد الحليم المر، وزهير صبري، وخالد الخلاب، وموفق النمس، وليلى المجهولة الكنية، ونور الدين الطحان...
وتنماز قصصه القصيرة جدا كذلك بسحر العنوان، واللغة البديعة، والاعتناء بالتجديد والتجاوز والاختيار. وقد اكتفى بعد أكثر من أربعين عاما من الكتابة بتسع مجموعات قصصية، وهي: صهيل الجواد الأبيض(1960م)، وربيع في الرماد(1963م)، والرعد(1970م)، ودمشق الحرائق(1973م)، والنمور في اليوم العاشر(الطبعة الرابعة 2000م)، ونداء نوح(1994م)، وسنضحك(1998م)، والحصرم(2000م)، وتكسير ركب(2002م).
هذا، وقد قدم الدارس قراءات نقدية في مجموعة من المترجمات العالمية لكتاب متميزين في باب القصة القصيرة جدا. ومن الكتاب الذين ترجمت نصوصهم، نذكر: أنطوان تشيخوف في قصة:" متنكرون"، وإيفان تورغنيف في قصتي:" الكلب" و:" شحاذ"، وف. كريفين في قصة:" اختيار مهنة"، ول. غرونتس في قصة:" الطريق"، وإيلين بيلين في قصة:" أمل"، وناظم حكمت في قصة:" بواري المدافىء"، وعزيز نسين في قصة" عندما تستشرس الفئران"...
كما قدم يوسف حطيني دراسة في مجموعة " همهمات ذاكرة" لأحمد جاسم الحسين، واستخلص الدارس مجموعة من الاستنتاجات والملاحظات الهامة، حيث توصل الباحث إلى أن هذه المجموعة القصصية تتمتع بوجود الحكائية أو القصصية، وذلك من خلال التتابع السردي سببا ومنطقا،واستعمال التكثيف،والميل إلى التركيز، واستخدام التشخيص والأنسنة، وذلك عبر استعمال الحوار والوصف والمناجاة، والاستفادة من تنويع البدايات والنهايات، واستغلال الطاقة الفعلية في الجمل، والارتكان إلى خصب الدلالة وغنى المواضيع والمضامين، والانطلاق من الرؤية الإنسانية، والإكثار من اسمية العناوين، والتركيز على الرؤية السياسية والاجتماعية، وتشغيل لغة موحية رمزية بعيدة عن المباشرة والحرفية التقريرية، والإكثار من لغة الإدهاش والطرافة. ويستعمل أيضا مجموعة من التقنيات كالترميز، والتناص، والاقتباس، والمفارقة، والإكثار من الثنائيات. و" مثلما تفيد القصة القصيرة والرواية من أنسنة الحيوانات والأشياء، فإن القصة القصيرة جدا على يد أحمد جاسم الحسين تفيد أيضا من هذه الإمكانات الدلالية، ولكنها حين تحضر لا تكون جزءا من نسيج السرد، كما يغلب أن يحدث في الأنواع الأدبية الأخرى للنثر الحكائي، بل تشكل منطق السرد برمته، اعتمادا على التكثيف الذي لا يتيح التعامل مع الأجزاء الصغيرة إلا بوصفها وحدات تامة مستقلة."
أما مجموعة عماد نداف القصصية:" جرائم شتوية" التي تندرج ضمن القصة القصيرة جدا، فتمتاز بعدة خصائص فكرية وفنية، ومن أهمها: الحس الإنساني المتدفق، والكثافة اللغوية والشعورية، والوحدة الموضوعية، وتبئير الحوافز، والميل إلى السرد الفعلي الحكائي السريع،واختيار تقنية الحذف، وتوظيف اللغة الشاعرية، وتشغيل الشعرية الحكائية، والاستفادة من مجموعة من الثنائيات الضدية، والارتكان إلى المفارقة، والتشديد على الجرأة. وتوجد تقنيات أخرى كالأنسنة والتشخيص، والاستفادة من تقنيات التلوين (الإكثار من الألوان)، والانفتاح على الفنون الأخرى كاللوحة التشكيلية والتصوير الفوتوغرافي.
وبعد ذلك، ينتقل يوسف حطيني إلى مقاربة المجموعة القصصية للكاتب الفلسطيني محمد توفيق السهلي:" من يسرق الأحلام؟"، حيث استخدم فيها المبدع شكل القصة القصيرة جدا، كما طعمها بالتكثيف، والمفارقة، واستخدام الجمل الفعلية، واستغلال التناص، واللعب في اللغة، وتشغيل الضمائر وتنويعها، والانطلاق من التراث الشعبي. وباختصار، " فإن محمد توفيق السهلي يقدم لنا في قصصه القصيرة جدا عالما زاخرا بالرؤى النبيلة من خلال لغة حكائية كثيفة تحمل على أجنحتها أرق الانتماء، وحلم العودة الذي لن ينجح الغاصبون في سرقته من الصدور."
وقد عرج الدارس أيضا على كتاب زميله الدكتور أحمد جاسم الحسين:" القصة القصيرة جدا"، وذلك بالتعريف، والتحليل، والنقد، والتقويم، والتوجيه. كما دخل الدارس في سجالات نقدية انطباعية وانفعالية، وذلك مع مجموعة من الكتاب والنقاد والدارسين، مثل: حسن حميد الذي كتب مقالا في جريدة الأسبوع الأدبي بعنوان:"النصوص القصيرة جدا...والرؤية القصيرة جدا"، حيث استعمل هذا الكاتب الصحفي في نقده لغة القدح والردح، معتبرا المهرجان الأول للقصة القصيرة جدا من المهرجانات التي أصابها الإخفاق الذريع. كما دخل يوسف حطيني في سجال آخر مع الدكتور وليد السباعي الذي هاجم القصة القصيرة جدا انتقاصا وازدراء وتحطيما. ورد الدارس كذلك على الأستاذ غسان شمة الذي استعمل بدوره نقدا يقوم على الشتم والتجريح والسخرية.
وبناء على ما سبق، يرى يوسف حطيني أن:" القصة القصيرة جدا لن يفيدها حماس يوسف حطيني أو أحمد جاسم الحسين ولن يضرها هجوم هذا الناقد أو غيره، لأنها مرهونة فقط بالنصوص الجيدة التي تستطيع أن ترفع من شأنها.
ولسنا في عجلة من أمرنا لأن الزمن كفيل بغربلة كل ماهو تافه وسطحي، كما أنه كفيل باصطفاء كل ماهو نقي وإنساني وفني، حتى وإن كان قصة قصيرة جدا.هذا إذا نجت القصة القصيرة جدا من كتاب مثل صاحبنا الذي يستطيع أن يكتب خمس قصص في " التوسة " الواحدة."
وفعلا، فقد تحققت نبوءة يوسف حطيني، فقد تعاظم اليوم شأن القصة القصيرة جدا عربيا، وأصبحت لها مكانة كبيرة بين المبدعين والنقاد والباحثين والدارسين، وتكاثر عدد كتابها إلى أن ازدحمت بهم المواقع الرقمية والصحف الورقية بشكل لافت للانتباه، وذلك يوما بعد يوم، إلى أن أصبح عصرنا هذا عصر القصة القصيرة جدا بامتياز.

تركيب واستنتاج:
وهكذا، نخلص إلى أن الباحث الفلسطيني الدكتور يوسف حطيني يعتبر من المنظرين الأوائل للقصة القصيرة جدا في عالمنا العربي إلى جانب السوري أحمد جاسم الحسين، والعراقي جاسم خلف إلياس، والمغربي جميل حمداوي، ويعد كذلك من المدافعين الغيورين على هذا الفن النبيل تنظيرا وتطبيقا. وقد استطاع في كتابه هذا أن يحدد مجموعة من الأركان والشروط والتقنيات التي تنبني عليها القصة القصيرة جدا، مثل: الحكائية، والمفارقة، والوحدة، والتكثيف، وفعلية الجملة، وذلك باعتبارها عناصر ضرورية. وفي الوقت ذاته، تحدث عن عناصر مكملة لهذه الأركان كالتناص، والتشخيص،والإيقاع،والتلوين، والتحكم في العنوان...
بيد أن ما يلاحظ على الدكتور يوسف حطيني أنه لم يطرح في هذا الكتاب القيم منهجية جديدة أو تقنية ثقافية نقدية لمقاربة القصة القصيرة جدا، مادامت جنسا أدبيا حديثا له قواعده الثابتة والعرضية. فقد قارب هذه القصة الجديدة في ضوء منهج فني تاريخي وانطباعي، ولم يتبن منهجا مستقلا يتلاءم مع هذا الجنس الأدبي.لذلك، اقترح أن تكون المقاربة الميكروسردية في المستقبل القريب نموذجا نقديا بديلا، وتقنية ثقافية منهجية في مقاربة القصة القصيرة جدا: بنية ودلالة ووظيفة .

...........................
الهوامش:
1- د.يوسف حطيني: القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق، مطبعة اليازجي، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2004.
2- د.أحمد جاسم الحسين: القصة القصيرة جدا، دارالفكر، دمشق،سورية، الطبعة الأولى سنة 1997م.
3- د.يوسف حطيني: القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق، ص:7-8.4
4- د.يوسف حطيني: نفس المرجع،ص:9.
5- د.يوسف حطيني: المرجع نفسه، ص:12.
6- د.يوسف حطيني: المرجع نفسه، ص:5.
7- د.يوسف حطيني: المرجع نفسه، ص:12.
8- د.يوسف حطيني: المرجع نفسه، ص:23.
9- د.يوسف حطيني: المرجع نفسه، ص:26-27.
10- ابتسام شاكوش: بعض من تخيلنا، بسمة للدعاية والكومبيوتر، اللاذقية، الحفة، 1998م، ص:39.
11- عماد النداف: جرائم شتوية، قصص قصيرة جدا، دار الكنوز الأدبية، الطبعة الأولى سنة 2000م، ص:16.
12- حياة أبو فضل: حياة، قصص قصيرة وقصص قصيرة جدا، شركة رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، لبنان.
13- عبير كامل إسماعيل: للثلج لون آخر، قصص، دار الشموس، دمشق، الطبعة الأولى سنة 2001م، ص:8.
14- محمود علي السعيد: القصبة. قصص قصيرة جدا، النادي الثقافي الفلسطيني، طبعة 1982م، د.ص.
15- د. يوسف حطيني: نفسه، ص:31.
16- عدنان كنفاني: على هامش المزامير، مطبعة اليازجي، دمشق، طبعة 2001م، ص:29.
17- عبير كامل إسماعيل: للثلج لون آخر،ص:81.
18- د. يوسف حطيني: نفسه، ص:33.
19- د. يوسف حطيني: نفسه، ص:33.
20- طلعت سقيرق: الخيمة، دمشق، سورية، طبعة 1978م، ص:58.
21- د. يوسف حطيني: نفسه، ص:3334-35.
22- د. يوسف حطيني: نفسه، ص:35.
23- د. يوسف حطيني: نفسه، ص:35-36.
24- جمانة طه: عندما تتكلم الأبواب، قصص، اتحاد كتاب العرب، دمشق، سورية، طبعة 1998م، ص:79.
25- محاسن الجندي: تساؤل، دار الباحث، سلمية، الطبعة الأولى سنة 1997م.
26- ليلى العثمان: (قصص قصيرة جدا)، جريدة الأسبوع الأدبي، دمشق، العدد: 788، تاريخ 15-12-2001م.
27- د. وسف حطيني: نفسه، ص:40.
28- د.يوسف حطيني: نفسه، ص:33.
29- هيمي المفتي: (قصة ألوان)، جريدة الأسبوع الأدبي، دمشق، العدد:787، تاريخ08/12/2002م.
30- سليم عباسي: البيت بيتك، مطبعة اليازجي، دمشق، سورية، طبعة 2001م.
31- د.يوسف حطيني: نفسه، ص:49.
32- د.يوسف حطيني: نفسه، ص:49.
33- د.يوسف حطيني: نفسه، ص:51-52.
34- د.يوسف حطيني: نفسه، ص:58-59.
35- د.يوسف حطيني: نفسه، ص:64-
36- د.يوسف حطيني: نفسه، ص:66.
37- د.يوسف حطيني: نفسه، 72.
38-د.يوسف حطيني: نفسه، ص:76.
39- د.يوسف حطيني: نفسه، ص:81
40- د. يوسف حطيني: نفسه، ص:110.
41- محمد توفيق السهلي: الحلم المسروق، قصص قصيرة جدا، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2001م.
42- د.يوسف حطيني: نفسه، ص:126.
43- حسن حميد: (النصوص القصيرة جدا... والرؤية القصيرة جدا)، مجلة تشرين الأسبوعي، سورية، العدد:175، بتاريخ:21-08-2001م.
44- د.يوسف حطيني: نفسه، ص:150.
45- د.جاسم خلف إلياس: شعرية القصة القصيرة جدا، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2010م.
46- د.جميل حمداوي: القصة القصيرة جدا بالمغرب، منشورات مقاربات، آسفي، الطبعة الأولى سنة 2009م؛ وخصائص القصة القصيرة جدا عند الكاتب السعودي حسن علي بطران (دراسات نقدية)، دار السمطي للنشر والإعلام، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى 2009م.
47- د.جميل حمداوي: (من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا (المقاربة الميكروسردية))، موقع دروبDoroob، موقع رقمي،
www.Doroob.com/p=36535.16/08/09.11.35
............................
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى