نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

نصوص منفلتة ومسافات: اصبع صغير لمحمد آيت علو.

اصبع صغير يضغطُ بقوة على جرس البابِ ...ويسْتَمرُّ الرَّنينُ بشكلٍ مُتَقطِّعٍ يحبِسُ الأنفاسَ...كأن الطفل يَقْفِزُ قفزاتٍ ليصلَ إلى جرسِ هاتفِ المنزلِ أعلى البابِ ثُمَّ يتَخَلَّى قليلا ...

تَفاجأَ، اعتلاهُ الذُّهولُ، تجمعت في عينيه آثارُ الاندهاشِ الجامحةِ وتكوَّرَتْ على جبهتهِ حبَّاتُ العرقِ والمرايا تشَقَّقَتْ على وجهه، صوت الجرسِ يهُزُّ أحشاءَه، يمزِّقُ صدره، فهو لاينتظرُ أحداً، وليس ثمَّةَ وقتٌ...ومرَّةً أخرى الجرسُ يرِنُّ ويرن ..بتقطُّعٍ كاد أن يصيح لستُ هُنا..ثم قال بهمس: من سيأتي في هذه الساعة...كتَم غيظَهُ وقال لا أعرف من سيأتي...؟ نَطَّ سريعاً من على السريرِ، وصاغَ تقاسيم وَجْهٍ وأبدع لهُ ملامِحَ ليصلَ إلى قناعٍ آخرَ، وسار متسلِّلاً على أطرافِ أصابعِهِ نحو الباب..دقاتُ القلبِ تتلاحقُ، الباب يغدو الآن وحشاً يلتهِمُ..تلصَّصَ من خصاصِ البابِ، لَا أَحَد...!!

سبع دقائق..عشر دقائق..انتهى القلق..! ثم عاد أدراجَهُ، قادَتْهُ خُطاهُ المتثاقلةُ إلى غرفتهِ من جديدٍ، ماذا يربطه بهذه الغرفة سوى النوم العميق والوحدة القاتلة والوحشة التي لا تطاق...؟! تهاوى على جانب السرير المهْمَلِ والمحاطِ بفوضى عارمة..الملابس والأغطية والجرائد المتناثرة هنا وهناك، والتي لا يقرأها إلا من بابِ الفُضُولِ والتَّسليَةِ ..! يسترد بعض أنفاسه المتقطعة، تبعْثَرَ ليدفن ألمه، ثم غاب قليلا، تقلَّبَ في فراشه، ثم متمدِّداً بينما كان تفكيره يتسلل إلى نفسه ويغشاه من الداخل، وكأنه يريد من نفسه أن يشفى منه...كمن عاش وحيداً وسيموتُ وحيداً!! لا أَحَدَ من أولادهِ الثلاثة...تفاجؤه صورة أولاده حين كانوا صغاراً على الجدار المقابل للدولاب ذو المرايا قبالة السرير، عيناهُ تحدقان فيها، طفت فوق ركام أفكاره صورٌ عديدةٌ، زوجته المتوفاة ووجوه أطفاله وابنساماتهِم ووَداعَتهِم..وقد كانُوا طيِّبِين، تنهَّدَ عميقاً ثم أخذَ يحملِقُ في سَقْفِ الحُجْرَةِ، ينظرُ للاشيء، الصمتُ ولا شيء غير الصمت، تراه من سيكون..؟؟

ثم يصيرُ السَّقفُ شريطاً عميقاً سحيقاً لبحرٍ متلاطمِ الأمواجِ بين مد وجزر...لم يعهد نفسه من الَّذينَ ينتظرونَ، فهو على الدَّوامِ لم ينتظرْ أحداً، ولا من الَّذينَ يُرتِّبونَ لقاءً، ولا من الَّذينَ يقولون وداعا، فهو دوما رافعا شراعَهُ متأهِّباً ودوْماً على سفر، وهو دوما يطهر بالحبِّ ساعة اللقاءِ وساعةَ الوداعِ...يدرك بأنه مجرد عابر سبيل..كل شيء يعجبه، ولا شيء يعجِبُه، وهو إذا ما ولَّى أَدْبَرَ ولم ولن يعقِّب، مثل نفحة نسيم عليل، أو ومضة بَرْقٍ خاطفٍ في غُدُوِّهِ ورواحِه، يطيرُ ويذهبُ مع الريح...!!

وحين كان يغيب ككل مرة، لايترك غير كلماتٍ متعثِّرَةٍ مُبعثرةٍ ضائعةٍ وهاربةٍ من الوقتِ مثلَه تماما، لا أفهمُ منها غير آهاتٍ متناثرةٍ مُنكَسرةٍ...عن احتياج القلب إلى طفل صغيرٍ كي ينسى أنه يَعيش، وعن العقُوق ونُكْرانِ الجَميلِ في هذا الزَّمان المتعهر، حتى أولاده انسلُّوا من تحتِه في رمشةِ عين، الواحدُ تِلوَ الآخرِ، وهو الَّذي منَحَهُم كلَّ شيء جميلٍ بعد وفاةِ أمهم، ولم يكن أنانيا، كمن زرع الريحَ، وهاهو يحصد العاصفة، لقد ضحى وأخلص في تربيتهم ولم يتزوج، ثم هم يرحلون عنه الآن اتباعا، ذهب الولد البكر إلى كندا وتزوج هناك، ثم لحقه الآخران إلى بلاد الغربة، رحلُوا منذ سنوات خلت، واتَّسَعَ الشَّرخُ، تزوجا ومكثا هناك أيضا، وتركوه وحيداً يشيخ بهذا البيت على شفا جرف هار، يسافر داخله مرات عديدة، ويتأمَّلُ أصابعَ رِجليهِ الَّتي لم تبرحْ مَكانها منذُ نُعومةِ أظافرها، وكأنَّ الطريقَ لم تكنْ إلاَّ العناء والهباء والعبث طول هذه الرحلة، صوت الساعة على الحائطِ يؤرِّقُهُ، ويبعثُ في نفسه الضَّجَرَ والكآبة، جُدران بيتهِ باردة كالصَّقيع، أركانه تنهشُ صدرَهُ كمخالبِ العُقابِ، يحملقُ في سَقْفِ الحُجرةِ بكثيرٍ من العنادِ والمكابرَةِ، مُنتهى الخذلانِ أن يكسركَ مَنْ قَضَيْتَ عُمْركَ كلَّه في تفانيهِم ومن أجلهِم، محاولاً ترميمَهُم....

فجأة، يلتصقُ أصبع على الجرسِ، لكن الرَّنينَ هذه المرة يستمر دُون هَوادَة، تهلَّلَتْ أساريرُ وجهِهِ، خفَقَ قلْبُهُ، ينظرٌ ويبتَسِم....
 

محمد فري

المدير العام
طاقم الإدارة
دقات الجرس على الباب تتحول إلى قوة فاعلة تملك تأثيرا حاسما على حياة الشخص الوحيد بالبيت؛ تجعله يسترجع أحداثا مضت؛ ومشاعر تختلط بالحنين والشوق والأمل …
تكتنفه الوحدة القاتلة؛ فيحن إلى أبنائه الذين حملتهم الهجرة إلى مناطق أخرى … وتركوا ذكريات يغلفها الشوق
تلك خلاصة متن النص؛ وذاك رهانه الذي اعتمد حبكة دائرية تبدأ من دق الجرس وتنتهي به
وينتهي النص باستشراف لحظة هاربة يتخيلها الشخص وتتهلل لها أسارير وجهه وهو ينصت إلى الأصبع الملتصق على الجرس … ويبقى الأمل مستمرا
وصف دقيق لحالة نفسية تعتبر ظاهرة تعاني منها كثير من الأسر؛ عندما يشيخ الأب والأم وتكتنفهما عزلة أو وحدة بسبب فراغ الدار من الأبناء الذين كبروا وتزوجوا وأنشأوا عائلات تفرغت لشؤونها الخاصة
والمودة مسترسلة السي محمد آيت علو
 
نفاذ يبرز كالعادة - أخي السي محمد - كفاءة ومقدرة ومقاربة توصف عن ذات متصلة بالكتابة، ذات ملمة من جهة المعرفة، وتظهر شخصية ممارسة، وتنبه إلى ما لم ينتبه إليه، وفي الآن نفسه تقبض على ما قد ينفلت، أو ما يمكن أن يظل محجوبا من خلال مقاربة وإن كانت مقتضبة ومختزلة إلا أنها براقة ونافذة، عبر هذا التنقل الواعي من خلال سبر أغوار النص، والكشف عن أسراره، وفك التباساته الممكنة، أكيد أن كل كتابة لا بد لها من وعي بها، أو رؤية في صددها، وإلا صارت نوعا من العبث الذي لا طائل منه. وأن يكون المبدع له وعي تام بما يريد التعبير عنه، وبالأهداف والمقصديات التي يسعى إلى تحقيقها بوساطة فعل الكتابة. وتظل القراءات الواعية هي التي من شأنها أن تقرب العمل الإبداعي وبها ومن خلالها يمكن أن تسد كل البياضات الممكنة...
وبالرجوع إلى النص فهو يدخل في علاقة وسيجة بين نصوص أخرى مركزية تؤتث مؤلف:"كأن لا أحد" من مثل: "وجوه وأفواه" و"أخيرا وحدك" كوة في الغياب"و"كذلك بعد اليوم"وإلى حين تمطر"...و"اصبع صغير"...
واسمح لي إذا كان بالإمكان أن أبث مقطعا هنا على هامش استحسان هذا النص، وعلى سبيل الاستئناس، والذي استرسل فيه النقاش سابقا وأثير ت عبره قضايا أخرى يمكن أن يستفيد منها المتلقي المتردد على هذا المنتدى العربي للإبداع:
وهنا أنا مضطر للمتابعة على شكل رؤوس أقلام:
...كما أننا نحييهم ونشد على أيديهم...
الآن، أنتقل إلى الأسئلة الأخرى، وإجابة على بعض الأسئلة دفعة واحدة، طالما أن هناك ما يجمعُ بينها، فأقول:...إذا كان مما ترسَّبَ في ذهن المتشائمين هو أن الحياة لاتستحق أن تعاش، فإن د،ه،لورنس يكافح هذا اليأس بقوله:" الداعي الوحيد للعيش هو أن يعيش الإنسان ممتلئا بالحياة". لكن الامتلاء بالحياة كثيرا يؤدي إلى التخمة والملل"، لذلك نرى من يعيشون حياتهم بالتقسيط يحتملون الحياة أكثر من الذين يعيشونها دفعة واحدة، إنه كلما تعمق الوعي في فهم العالم زاد تناقضه وغرابته. قال لي شكري يوما" إن أفضل طريقة لفهم الحياة هي أن تكون متميزا جدا عن الآخرين في شيء، هو يعرف إذا أن كل الناس متميزون في شيء، وهذه هبة من الله، فقط وجب أن نبحث عن هذا الشيء الذي يتميز به كل واحد عن الآخر، وهي في نهاية المطاف أرزاق...لذلك فالنصوص التي جاءت في هذا المؤلف – وكما رأى أغلبُ الأحبة والإخوة – تشي بمسحة حزينة جدا أحيانا، فهذا ما يوجد في الحياة التي نحياها والتي خبرتها بشكل كبير، لكنني دوما كنت على يقين تام بأن هناك كوة للفرح، كما هو الشأن في نهاية"اصبع صغير" و"أخيرا وحدك" طإلى حين تمطر"...مثلا. ويقيني بالله سبحانه أكبر، فلا يأس مع الحياة، هناك الفرجُ دوما...
في جانب آخر يبدو أن الإنسان متطور مع نفسه أكثر مما هو مع الغير، يسهل عليه أن يغفر لنفسه أقبح سلوك وأبشع الجرائم، لكنه يستصعب أن يغفر لغيره ما قد يبيحه لنفسه، فهو من طبيعته أنه يعرف نفسه جيدا، لذلك يحافظ على أعمق علاقته معها، لأن الإنسان في آخر المطاف، خسر نفسهُ أو ربح العالم أو هما معا، ليس له سوى نفسه ليعانقها على علاتها...
إلى هنا أقدم للأحبة جميعا هذا الإهداء من الديوان القادم:
لم تسعفنا العبارات
في غيم الفصول انتظرنا
تسمرنا حيث نحن
لم تسعفنا
وبقينا مشدوهين واقفين
كنا دوما ننتظر
آه من حر الانتظار...
خانتنا الوجوه التي تقنا فيها حياة
ولم تكن الحياة حياهْ...
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى