نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

إيموزار

كيف يكتب المدينة التي بداخله؟
وهل يكفي عرض شخوص وأحداث لتبوح إيموزار بكل أسرارها ؟
إنه يؤمن بأن لكل مدينة جرحها وأحلامها التي بالكاد يمسك أديب بطيفها الهارب في الأزقة وبين جذوع الشجر، ثم يُدنيه كل مساء من لهيب الحروف. ومتى سطعت الفكرة أو أشرق المعنى، فهو إذعان طيفها لجنون الكتابة.
نقر ميمون بسبابته على طاولة المقهى وهو يرنو إلى الأفق الملبد بالغيوم. لعل زخة رعدية تهز الآن ما تبقى من ثمار في شجيراته المعدودة. صب من براد الشاي رشفة ثم تابع المشهد المألوف صبيحة كل أحد: شباب الرحلات القادمة من فاس يجوبون شوارع البلدة بصفاقتهم المعهودة.
- الله يستر.. مسخ وتقليعات غريبة، وألفاظ نابية تجرح صمت المدينة. ما إن تمطر حتى ينحشروا كالبط المذعور في حافلاتهم، لتتولى إيموزار كنس شوارعها من فوضى الغرباء !
خط سيره المألوف جزء من ذاكرة المكان، الضاية المحاذية للفندق الملكي، انحناءات الصفصاف تحت وطأة الريح و الزمن، روث شياه بلَّله المطر، رائحة التفاح تنبعث من كهف مجاور. للأمكنة عطرها الذي يُبقي خِلان الأمس في وله مستمر.
لا يُخفي ميمون تذمره من أشغال البلدية حين تنتهك ميراثه، لوحته السرمدية بألوان الحنين و الوجع. مر شهران على حادث تعنيفه لمراقب البلدية أمام الملأ:
- تفتكون بإيموزار كسرب جراد. وحده ابن الحرام لا يشفق على أمه! لن تسلم وأمثالك من لعنة آيت سغروشن .. دفناهم ليرووا بدمائهم جداولها المترعة.. هي الريح وأنتم خشاش أرضها !
لكن إيموزار لا تبالي. تنهض كل شتاء من نومها المثقل بالصقيع لتمنح إكسيرها. يستشعر ميمون وحشة فراق دام عشر سنين. كانوا خمسة لا يفترقون كأصابع اليد حين هبت حملة التجنيد. لا جدوى من انتظارك المبرح، فإيموزار تأخذ لا لتعطي بل لتمتص رحيق العمر!
لمح سربا من البط يهم بالنزول إلى وادي عين السلطان. توقف لحظات ليعيد ترتيب المكان. مذاق الطفولة يلامس شفتيه فيرسل آهة اشتياق، رغوة اللبن، ونُدف الثلج التي ما إن تتراءى حتى يسارع هو ورابحة لاعتراضها بطرف اللسان. يذكر كيف غطى الثلج ليلتها كل شيء. سارع أبوه لإنقاذ الخراف من انهيار سقف الحظيرة.
ليس لك في إيموزار أعداء. نعم، بعض الوجوه مُشربة قليلا بالضجر. شيئا فشيئا ستألف المرور على أحدهم دون إلقاء التحية.
- الإيمان في القلب. يردد رفيق صباه ممتعضا من شباب الحي المتنكرين بزي الأفغان. جيل بلا هوية أو طعم. حتى الفقيه سي امحمد يشتكي من تطفلهم على شؤون المسجد. للمرء متسع من الحياة ليعود إلى رشده، فلِم يستعجلون القيامة ؟
قَبل ميمون أطراف أصابعه بعد أن قرأ الفاتحة على قبر أمه. لغط الفلاحين القادمين من كل صوب إلى السوق الأسبوعي يهز سكون المقبرة. هنا يرقد بعض جيرانه ورفاق الصبا، ممن حفروا أسماءهم كالوشم في ظاهر اليد !
طفرت دمعتان من عينيه وهو يذكر ألفة الماضي، والأيدي الحانية التي فركت أذنيه أو ربتت على كتفيه:
- سيكون ميمون طبيبا بحال ولد فلانة، ونقيم عرسه بالدفوف وعلى صهوات الجياد. ولدي سيرث شموخ جده موحا، وأنفة آيت سغروشن**.
انتصبت اللوحات الإشهارية في مدخل المدينة وشوارعها، لتقدم عروض سكن مُغرية. عما قريب ستشرع ملحمة الهدم في تحطيم الأبنية، ومحو ذاكرة المدينة. يجوب السماسرة أحياءها بحثا عن "الهمزة"، بناية مهجورة أو أرض يتنازعها الورثة. توجس ميمون شرا لأن إيموزار لن تحتمل كل هذا الصخب.
ركل بغيظ كيس إسمنت فارغ وصوت جده موحا يجلجل في أعماقه : ستندمون !
لكن إيموزار لا تبالي ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مصطاف جبلي بالأطلس المتوسط - المغرب
** قبيلة أمازيغية تستوطن البلدة
 
كيف يكتب المدينة التي بداخله؟
وهل يكفي عرض شخوص وأحداث لتبوح إيموزار بكل أسرارها ؟
إنه يؤمن بأن لكل مدينة جرحها وأحلامها التي بالكاد يمسك أديب بطيفها الهارب في الأزقة وبين جذوع الشجر، ثم يُدنيه كل مساء من لهيب الحروف. ومتى سطعت الفكرة أو أشرق المعنى، فهو إذعان طيفها لجنون الكتابة.
نقر ميمون بسبابته على طاولة المقهى وهو يرنو إلى الأفق الملبد بالغيوم. لعل زخة رعدية تهز الآن ما تبقى من ثمار في شجيراته المعدودة. صب من براد الشاي رشفة ثم تابع المشهد المألوف صبيحة كل أحد: شباب الرحلات القادمة من فاس يجوبون شوارع البلدة بصفاقتهم المعهودة.
- الله يستر.. مسخ وتقليعات غريبة، وألفاظ نابية تجرح صمت المدينة. ما إن تمطر حتى ينحشروا كالبط المذعور في حافلاتهم، لتتولى إيموزار كنس شوارعها من فوضى الغرباء !
خط سيره المألوف جزء من ذاكرة المكان، الضاية المحاذية للفندق الملكي، انحناءات الصفصاف تحت وطأة الريح و الزمن، روث شياه بلَّله المطر، رائحة التفاح تنبعث من كهف مجاور. للأمكنة عطرها الذي يُبقي خِلان الأمس في وله مستمر.
لا يُخفي ميمون تذمره من أشغال البلدية حين تنتهك ميراثه، لوحته السرمدية بألوان الحنين و الوجع. مر شهران على حادث تعنيفه لمراقب البلدية أمام الملأ:
- تفتكون بإيموزار كسرب جراد. وحده ابن الحرام لا يشفق على أمه! لن تسلم وأمثالك من لعنة آيت سغروشن .. دفناهم ليرووا بدمائهم جداولها المترعة.. هي الريح وأنتم خشاش أرضها !
لكن إيموزار لا تبالي. تنهض كل شتاء من نومها المثقل بالصقيع لتمنح إكسيرها. يستشعر ميمون وحشة فراق دام عشر سنين. كانوا خمسة لا يفترقون كأصابع اليد حين هبت حملة التجنيد. لا جدوى من انتظارك المبرح، فإيموزار تأخذ لا لتعطي بل لتمتص رحيق العمر!
لمح سربا من البط يهم بالنزول إلى وادي عين السلطان. توقف لحظات ليعيد ترتيب المكان. مذاق الطفولة يلامس شفتيه فيرسل آهة اشتياق، رغوة اللبن، ونُدف الثلج التي ما إن تتراءى حتى يسارع هو ورابحة لاعتراضها بطرف اللسان. يذكر كيف غطى الثلج ليلتها كل شيء. سارع أبوه لإنقاذ الخراف من انهيار سقف الحظيرة.
ليس لك في إيموزار أعداء. نعم، بعض الوجوه مُشربة قليلا بالضجر. شيئا فشيئا ستألف المرور على أحدهم دون إلقاء التحية.
- الإيمان في القلب. يردد رفيق صباه ممتعضا من شباب الحي المتنكرين بزي الأفغان. جيل بلا هوية أو طعم. حتى الفقيه سي امحمد يشتكي من تطفلهم على شؤون المسجد. للمرء متسع من الحياة ليعود إلى رشده، فلِم يستعجلون القيامة ؟
قَبل ميمون أطراف أصابعه بعد أن قرأ الفاتحة على قبر أمه. لغط الفلاحين القادمين من كل صوب إلى السوق الأسبوعي يهز سكون المقبرة. هنا يرقد بعض جيرانه ورفاق الصبا، ممن حفروا أسماءهم كالوشم في ظاهر اليد !
طفرت دمعتان من عينيه وهو يذكر ألفة الماضي، والأيدي الحانية التي فركت أذنيه أو ربتت على كتفيه:
- سيكون ميمون طبيبا بحال ولد فلانة، ونقيم عرسه بالدفوف وعلى صهوات الجياد. ولدي سيرث شموخ جده موحا، وأنفة آيت سغروشن**.
انتصبت اللوحات الإشهارية في مدخل المدينة وشوارعها، لتقدم عروض سكن مُغرية. عما قريب ستشرع ملحمة الهدم في تحطيم الأبنية، ومحو ذاكرة المدينة. يجوب السماسرة أحياءها بحثا عن "الهمزة"، بناية مهجورة أو أرض يتنازعها الورثة. توجس ميمون شرا لأن إيموزار لن تحتمل كل هذا الصخب.
ركل بغيظ كيس إسمنت فارغ وصوت جده موحا يجلجل في أعماقه : ستندمون !
لكن إيموزار لا تبالي ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مصطاف جبلي بالأطلس المتوسط - المغرب
** قبيلة أمازيغية تستوطن البلدة
سرد جميل وممتع اخي حميد، لكنه متقطع يجعلني أغادر أفكاره بسرعة.
أتذكر اني قرأت لك نصا من قبل يتحدث عن رحلة على متن سيارة أجرة.. كان جميلا وأعجبني جدا.. وقلت وقتها " هذا كاتب".
يقول بوزفور " لو لم أغادر تازة لما كتبت الرواية"
تحتاج القصة للصخب والدوران والموت والحياة، تحتاج مدينة كاملة بهرجها ومرجها ومتسكعيها.
أيموزار وأخواتها لا تنتج قصة إلا قيد الذاكرة لتحفظ الحياة.. وهذا ما آلم ميمون المسكين..
مودتي اخي حميد.
 
سرد جميل وممتع اخي حميد، لكنه متقطع يجعلني أغادر أفكاره بسرعة.
أتذكر اني قرأت لك نصا من قبل يتحدث عن رحلة على متن سيارة أجرة.. كان جميلا وأعجبني جدا.. وقلت وقتها " هذا كاتب".
يقول بوزفور " لو لم أغادر تازة لما كتبت الرواية"
تحتاج القصة للصخب والدوران والموت والحياة، تحتاج مدينة كاملة بهرجها ومرجها ومتسكعيها.
أيموزار وأخواتها لا تنتج قصة إلا قيد الذاكرة لتحفظ الحياة.. وهذا ما آلم ميمون المسكين..
مودتي اخي حميد.
شكرا لمتابعتك الطيبة..صحيح ما ذكرته اخي العزيز بشأن السرد المتقطع، ولا أخفيك أنه مقصود لكون المدينة لا تكشف أسرارها رغم كل مراودة.. وهو أمر يغيظ بالفعل! أنا ابن المدينة و أقف حائرا أمام هدوئها المريب. دمت قلما نابضا بالابداع.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى