كفاح الزهاوي
كاتب
كانت الأصوات المتداخلة وضحكات الرجال ترتفع بوتيرة عالية في جوٍ يسوده الانسجام والسرور، وقد ملأت اصواتهم غرفة الضيوف، هكذا تناهت الى سمعي عند دخولي المنزل. اختلست النظر من شق الباب لغرفة الضيوف، فانساب بريق رؤيتي على جمهرة من الرجال ببدلاتهم الرسمية، بدوا انيقين للغاية، بعضهم يرتدي نظارات طبية. بين تلك الجمهرة الواسعة لمحت أبي وأخي الكبير زاهر.
دلفت الى الغرفة المجاورة حيث كانت امي لوحدها جالسة على وشك انتهائها من حياكة الليفة التي وعدتني بها، سألتها:
من هم هؤلاء؟
قالت امي:
انهم هنا من اجل خطوبة أختك سهاد.
لأول مرة، ارى وميضاً من الرضا يشع من وجه اخي زاهر، الذي لطالما كان من أشد الرافضين لزواج سهاد، عندما يتقدم رجل ليطلب يدها.
وعندما خرجوا إلى فناء المنزل ألقيت التحية على الجميع، وإذا بحازم يتوجه نحوي ويمدّ يده للمصافحة وانا بدوري فعلت الشيء نفسه. شعرت بقبضته تشد راحتيَّ بكلتا يديه وابتسامة عريضة على شفتيه وقال:
انت نضال، أليس كذلك.
اكتفيت من الجواب عليه بإيماءة وابتسامة. كنت خجلا او أقدر اقول محرجاً. ولكن لاحظت من إمارات وجهه قطعة مبهجة طافحة بالحياة والانشراح.
كان قوي البنية ثقيل الجسم، متوسط القامة، باسم الثغر، شعره يميل الى اللون الذهبي، ذو وجه جاد وعينين واسعتين ذكيتين تشعان منهما انوار الصدق. كان في الخامسة والثلاثين من عمره. بالرغم من صفته المرحة الى حد الكوميديا، إلا انه كان عصبي المزاج نوعا ما.
كان من نوع الأشخاص الذين يحسنون ايجاد كلماتهم، كما انه كان يتمتع بسرعة البديهة، وسمح لنفسه بإطلاق نكات ساخرة في أوقات غير مناسبة، مما أوقعه أحيانا في مشاكل لا داعٍ لها.
قرروا عقد اجتماع حزبي في بيت رفيقة اسمها عالية. كانت الرفيقة على وشك تقديمه الى والدتها، التي كانت هائمة في المطبخ منغمسة في تنظيف السمك. دخلا معا على والدتها التي كانت تفوح من جسمها رائحة السمك، وبعد برهة. رفعت الوالدة رأسها حتى بادرت عالية بالقول:
ماما اقدملج حازم.
مدّ حازم يده مصافحا.
الوالدة سحبت يدها واعتذرت وقالت:
اسفة ايدي زفرة.
التفت حازم إلى الرفيقة وقال لها بسرعة:
لعد هاي انتِ طلعتِ بنت الزفرة؟ مع ضحكته المعتادة.
أغضبت مزاح حازم الأم بشدة. بينما حاولت الرفيقة ان توضح لوالدتها أن حازم يتمتع بروح الدعابة ولا يقصد الاساءة. وانتهى الأمر هذه المرة بسلام.
أصبح حازم نسيبي ونَمتْ علاقة متينة بيننا. لقد كان يحظى بشعبية كبيرة في عائلتنا بفضل قدرته الرائعة والمؤثرة على خلق البهجة والفرح لدى الجميع.
كان منزلهم في نفس منطقتنا يبعد عن منزلنا حوالي 300 متر مشياً على الأقدام. كنت دوما أزوره. وكنا نتبادل النكات والأحاديث الشيقة. احيانا كان يطلب مني ان اتركهم لوحدهم عندما تزوره بعض الضيوف طالبا مني ان اعود الى البيت. لم افهم في البداية ولكن علمت لاحقا بانها اجتماعات حزبية.
مع مرور الزمن عرفت عنه معلومات اخرى، بانه مناضل عنيد وكان من الضباط الأحرار. وخلال الانقلاب شباط الاسود، اقتيد حازم إلى سجن نكرة السلمان مع رفاقه الآخرين بما يسمى قطار الموت. هذا السجن كان عبارة عن منفى يقع في منطقة نائية صحراوية على الحدود العراقية السعودية في ناحية السلمان التابعة الى مدينة السماوة.
كان حازم المسؤول العسكري داخل الحزب وساهم بشكل فعلي في دعم وتطوير هذا القسم المهم من خلال نقل خبراته السابقة كضابط في الجيش. كما كان له مساهمات كبيرة في الحركة الطلابية.
بعد ان أفرغ النظام الجبهة من محتواها، لم يدرك حازم انه كان تحت المراقبة المشددة وأن عيون التربص تلاحق خطواته، بل ان ظله كان فعلا رهن الاعتقال.
وفي ذلك الصباح من عام 1978، كان الهواء بارد ليس كالمعتاد. بينما يسترخي سكان المنطقة من وطأة العمل الشاق، خرج حازم لشراء بعض ما تقتضي الحاجة لتناول فطور الصباح، لم يكن يعرف سبب ذلك الصمت الجنائزي في الطرقات وسكون تغاريد العصافير واختفاء حفيف الأوراق. وإذا بسور من رجال الأمن أحاطوا به من كل جهات، مطالبين منه عدم اثارة اية جلجلة وحثوه على ركوب السيارة، التي انطلقت به مسرعة باتجاه اقبية الامن العامة.
وبينما زوجته سهاد التي كانت حامل في الشهور الاولى تطعم ابنها ماجد الذي كان في عمر سنتين، اقتحمت رجال الأمن منزلهم بحثا عن ادلة اخرى. بعد التفتيش، وجدوا حقيبة سوداء متوسطة الحجم فيها بعض النقود وجواز السفر. تم مصادرتها، ثم غادروا المكان.
وفي اقبية الامن العامة جرت له حفلات التعذيب الوحشي بتعليقه بالمروحة السقفية من أرجله وبينما قفاه متدلى الى الأسفل. علاوة على استخدام الأساليب النفسية حينا والاغراء حينا آخر، بغية إخضاعه. وبعد فترة الانتهاء من طقوس التعذيب، اقتيد حازم الى ضابط التحقيق.
نظر المحقق الى حازم وقال بنبرة تصالح:
- اسمع يا ابو ماجد سأتحدث معك كأصدقاء. سوف اقترح عليك شيئاً مهماً سيفتح أبواب الجنة لك ولعائلتك.
ثم يتوقف للحظة عن الكلام وينظر إلى وجه حازم بابتسامة مصطنعة وكأنه ينوي الكشف عن ملامحه رداً على ما سيقوله، فيما نظر حازم اليه بعينين ثاقبتين وابتسامة عكست رفض هذه الإغراءات.
نحن على استعداد كامل لمنحك أي منصب تريده، باستثناء الوزير وما فوق بشرط ان تترك مجموعتك، ولا نطلب منك الانتماء إلينا.. وستتمتع بحياة أفضل من هذا الخراب، وخلاف ذلك سوف تعدم. لأن الحكم قد صدر فعلا بحقك ولم يبق إلا توقيع السيد الرئيس... ماذا تقول على هذا الاقتراح العظيم.
أجاب حازم دون تردد:
- اني ارفض العمل في أي وظيفة حكومية.
- هل تريد الموت...أم ماذا... ما الذي تتخيل سيحدث لك نتيجة رفضك؟ هل تتصور أننا نلعب معك؟
بعد تلك المحاولات العديدة معه، لم يرضخ حازم الى تلك الاغراءات، عندها شعر المحقق ان ضغوطاته لا تجدي نفعا. نادى على مساعديه:
- أعده الى زنزانته.
ظل حازم قيد الاعتقال لمدة ستة أشهر. لقد انجبت سهاد طفلهم الثاني الذي أطلق عليه اسم عمر وهو لا يزال في السجن.
تلقت سهاد رسالة خطية من حازم أثناء تواجده في السجن، رداً على رسالتها وهي تبشره بولادة طفلهما، حيث أشار حازم فيها على اتفاقهم على ان يكون اسمه عمر. وقد تم شطب العديد من عبارات الرسالة بالحبر الأسود.
وفي خارج البلاد خرجت مئات من أنصار الحزب في احتجاجات واسعة، مطالبين بالإفراج عن المعتقلين. كذلك الضغوطات من قبل الدول الاشتراكية.
وحال خروج حازم من السجن عام 1979، التقيت به، وأعربت عن سعادتي بخروجه حيا. سألته عن طرق الاستجواب والتعذيب. قال:
- الضابط كان شاب متحمس ويتحدث بحرفية. وأردف قائلا:
- اسمع يا حازم: سأقرأ كل المعلومات عنك. إذا قمت بإضافة شيء خاص بك. سأخبرك بانك كاذب.
واضاف:
- كانوا يعرفون عني كل ما ينبغي معرفته، بل كل تفاصيل حياتي، وحركاتي، ولقاءاتي، وحتى نوع وألوان الملابس التي ارتديها..
تلك الأحداث المتعاقبة التي تلت في تعرض قواعد الحزب الى مضايقات المستمرة اوشكت على ان تكون مصدر قلق دائم. فلا يشغله غير مصير الحزب الذي يمكن ان يتعرض لكارثة.
وفجأة تحولت عمليات الترهيب النفسي والمضايقات اليومية شيئا فشيئا الى رعب وذعر. وهذه الممارسات كانت إيذانا بانتهاء تلك الحقبة من العرس الوهمي الموشاة بوشاح ذهبي بإقامة هدف مشترك ينقل الوطن نحو مستقبل رغيد.
لقد باتت عمليات الاختفاء امراً محتوماً، وصار الفرار واقعا خياليا لا تراه إلا في الأحلام. تلك الهجمة الشرسة وضعت الانسان على الطريق للفرار الى المجهول.
في خضم الفوضى المفاجئة، أدى ذلك الى بعثرة التنظيمات وتفكك روابطها، مما أجبر الأعضاء على التحرك السريع وتحمل المسؤولية عن أنفسهم وإيجاد مخرج من قبضة النظام الدموي. بحيث انحصروا في زاوية التردد والشك، وانقسمت حياتهم بين القلق والثقة الضائعة.
لم يفكر الكثيرون في خطورة الموقف وأن البلايا قد تهبط عليهم بهذه السرعة دون اتخاذ الاحتياطات. لقد كان ذلك حلماً ثقيلاً وجلفاً، يزورهم في وضح النهار. الأمر كان في غاية الاهمية والخطورة ويتطلب اتخاذ القرار الصائب بكل عناية ومهارة. وكل يوم ينقضي، يدني من نهاية غير متوقعة.
بدت الأشياء وكأنها قد تم تخميرها بالفعل في غرف سرية بواسطة النظام. تم ذلك من خلال إحكام السيطرة على المؤسسات الأمنية والعسكرية. وكان ذلك اقراراً بفردية السلطة. شرع النظام بإعدام 32 انسان بتهمة العمل الحزبي داخل الجيش. وكان هذا عملاً خطيراً لم ينتبه إليه أصحاب القضية.
تفاقم الوضع الى حد التعقيد ترافق ذلك مع صعود متدفق ونمو متصاعد للحركة الجماهيرية، الأمر الذي أغضب النظام الذي سلك طريق الانفراد بالحكم بشكل علني. باشر في الاعتقالات والضغط باتجاه عزل الحزب عن محيطه الحقيقي بالتسبب في مشاكل بين حين والاخر والقيام بالاعتقالات بغية ترهيبهم. طفقت فترة اخرى أكثر صعوبة في الحياة السياسية والتي تحولت بمرور الزمن الى كابوس جاثم.
بعد ان تم الافراج عنه، ناقش حازم قضية العودة الى أحضان الحزب وتشكيلاته التنظيمية التي كانت بيئتها الحالية تشكل عقبة في طريق القيام بهذه المهمة. لم يكن أمامه من سبيل سوى مغادرة العراق، متوجها الى سوريا ليستجمع بقايا شتاته، بعد ان تحولت الحياة في هذا البلد الى سجن كبير، خُمدت فجأة تلك الحيوية الصارخة التي اوجدت نشاطاً وفيراً وزاخراً.
رغم صفاء الجو وهدوء الحياة العامة من خلال فتح الحانات المكتظة بالرواد وخدمتهم في تقديم المشروبات الكحولية، ودور السينما التي استمرت في عرض أفلامها كالعادة، والمقاهي التي قامت بدورها في أفضل حالة وحركة الناس في ممارسة حياتهم الطبيعية وضجيج السيارات في الشوارع الجميلة، لكنها أعطت شعورا مزيفاً لحازم. فقد كان يشق على أعضاء الحزب ومؤازَريهم فهم ما كان يحدث لهم. وهناك مَنْ أدرك حجم الصدمة منذ زمن بعيد. أما بالنسبة لحازم ما زالت الصدمة حية في الذاكرة وتطلب التخلص من آثارها العميقة.
لم تعلم سهاد بأن لقاءها مع حازم في سوريا سيكون الأخير لها. عادت الى الوطن مع ولديها ماجد وعمر. والغريب موقف الاطفال بحجب الاسرار عن زيارتهم بعد ان نصحهم أبوهم بعدم ذكر أي شيء عن لقائهم.
سألتُ عمر:
عمر.. هل التقيت ابيك؟
نظر إلى دون ان ينبس ببنت شفة. ثم هز رأسه مشيراً، انه لم يلتق بابيه وكررت المحاولة مع ماجد كذلك الذي أنكر انه التقى بابيه. ولكن بعد ذلك علمت من اختي سهاد.
انطفأ ضوء النهار بعد ان غرق في سواد الليل، ولم تعد سهاد الى البيت بعدُ، حيث كانت تعيش معنا مع أطفاله بعد اختفاء حازم. فجأة ظهرت امامنا، وملامحها تكسوها غلالة صفراء، وكأن تياراً كهربائياً قد تسرب الى جسدها وهي ترتعد من الخوف. كانت ترتجف في مفاصلها، حيث قامت مجموعة من رجال الأمن بإرغامها على الركوب في سيارتهم واقتيادها بعد انتهاء دوامها الى مديرية الامن العامة، طالباً منها الإدلاء بمعلومات عن زوجها المختفي. وبعد إخلاء سبيلها، أوهمها الامن بان قرص التنصت قد وضع فعلاً في حديقة الدار لسماع ما تنقله لنا. تكررت هذه العملية عشرات المرات، وفي كل مرة طالبوها بالتعاون معهم وهددوها بالاعتداء الجنسي. وفي ذات مرة قال لها الضابط:
اسمعي زين. إذا ما تتعاونين ويانا. هسه ماجد موجود عدنا في الغرفة الأخرى وره هذا الباب.. نجيبه ونذبحه گدامج.
وفي يوم صيفي لاهب خرجت سهاد من العمل وإذا بها تلتقي وجهاً لوجه أمام رجل الأمن منتصبا، طالبا منها الركوب في السيارة:
سهاد تسأل بصوت واثق:
ليش.
اريد اسالج بعض الاسئلة
مو قبل أيام سألتوني واني گتلكم ما اعرف شي.
وأردفت قائلة:
بعدين انا دكتورة بالمستشفى وزوجي غائب وانتو يوميا واگفين بباب المستشفى. اشراح يگولون عليّ واني گاعدة ويا رجال غريب بالسيارة.. اشمدريهم انت رجل أمن.
يرد رجل الامن باستهتار:
شنو يعني كلج مرت مجرم هارب.
وفي صيف عام 1982 عاد حازم الى الوطن وانضم الى قوات الأنصار في جبال كردستان. في نفس العام، ذهب الى بغداد لأداء مهامه الحزبية في سرية تامة، إلا ان اقامته لم تدم طويلا هناك، حيث وصلت المعلومات الخاصة بوصوله الى جهاز الامن عبر وكلائه. لذلك شرعوا في التحري والبحث عن حازم.
شعر حازم بخطورة الموقف. عاد أدراجه ثانية الى جبال كردستان وكانت محطته في وادي بشت آشان.
يقع وادي بشت آشان عند سفح جبل قنديل. اتخذه الحزب مقرا له، بالرغم من عدم صلاحيته العسكرية، حيث لم يكن موقعا عسكريا محكما لعدم وجود تحصينات الكافية لمواجهة عدوان عسكري محتمل.
كانت مدفعية النظام تقصف المناطق المحيطة بشت اشان لمدة ثلاثة أيام قبل واحد ايار 1983. ومع ذلك لم تساور القيادة هناك الشكوك حول وجود استعدادات من قبل الجيش في شن هجوم مُرجّح على المنطقة.
استعد الأنصار لإقامة حفل بمناسبة الاول من ايار، يوم العمال العالمي، والربيع يتنفس غلواءً عذباً. وامتلأت الأجواء داخل المقر بأضواء الابتهاج للاحتفال بهذه المناسبة. حدث هذا في يوم 30 نيسان 1983. وفي هذا الوقت كانت قوافل من المرتزقة تنتقل عبر الجبال باتجاه موقع بشت آشان. خرجوا من جحورهم المظلمة ليرشوا سموم الغدر والخديعة، فغطوا تلك الأرض الخضراء بالدماء، مدعومين بقصف مدفعي من جيش النظام الذي قصف المنطقة تمهيدا لهجوم المرتزقة.
هناك ثمة عالم مشترك يتقاسمه المجرمون بغض النظر عن أفكارهم وتطلعاتهم المختلفة، وأن عالم تتحد فيه اللذة السادية، يكون هذا العالم في الغالب عالم الرذيلة والدناءة، وتصبح الخيانة السمة المشتركة بينهما.
باغتت المرتزقة الأنصار في موقع بشت آشان، تسللت مجموعة مسلحة إلى موقع قريب من المقر الرئيسي تحت جنح الظلام. اشتبكت القوة المتمركزة هناك مع المهاجمين واجبرتهم على التراجع. بينما لقي أحد الانصار مصرعه برصاص قناص على الفور، عندها تحققت لدى القيادة بوجود هجوم على المقر. في نفس الليلة بدأت مجموعة من القيادة في التراجع مع أنصار المسنين. واتخذت بقية الفصيل والمفارز موقفاً دفاعياً، ولكن من دون خطط جاهزة لصد أي عدوان مستقبلي- ظلوا متحصنين ومنتظرين-. استؤنف القتال في الصباح من جديد بعد ان تمكنت القوات المهاجمة من احتلال مواقع استراتيجية تمكنت من خلالها من إحكام السيطرة على تحركات الأنصار.
وتراجع الأنصار على أثرها باتجاه الجبال ليلا. وهناك انقسمت القوة إلى مجموعتين دون اتفاق مسبق. ربما بسبب الفوضى المفاجئة.
توجهت مجموعة واحدة باتجاه الجبال المغطاة بالثلوج الواقعة على الحدود الإيرانية، ومجموعة أخرى، التي ينتمي إليها حازم، لم تكن على دراية بممرات الطرق، توجهت الى الأراضي العراقية. كانت المنطقة تحت سيطرة المجموعات المهاجمة.
كانت المفاجأة فظيعة، فهناك من يحتضن الكراهية في اعماقه، وفكرة الانتقام راسخة في اذهانه. مهما اختلفت الاسماء في جوهر ذلك الفعل المشين، يبقى الانسان نفسه هو الضحية في النهاية. الأنصار نالهم الإرهاق والتعب والرهبة في خوض المجهول وهم يعبرون طرقاً مفروشة بالثلوج باتجاه قمم مجهولة. كان يوما حزينا. وتحت وطأة الأقدام تسمع ثمة انين ينبثق من الجليد، ريح باردة تهب، مصحوبة بصفير مفاجئ، وكأنه نذير الشؤم. أو مرثاة لفقدان ما لم يكن في الحسبان. كانوا يضطرون الى قضم الثلج ليروي ظمأهم، ولكن ذلك لم يخمد نار العطش. ظلت المجموعة في انسحابها القهقري على هذا المنوال.
كانت السماء المغبرة، تحدق وتترقب في صمت قاتم تلك الكائنات الشوهاء، المتعطشة للدماء، مثل الوحوش البرية. رجال متمرسون على خنق الحياة، تصب جام حقدها على كوكبة لامعة تجمعت في هذه البقعة النائية، طامحا من أجل بناء غد مشرق للناس بمن فيهم القتلة المهاجمون.
المعركة ما زالت مستمرة، والأنصار ينسحبون من مقراتهم عبر الطرق الوعرة، أنهكهم التعب والجوع، وليس لديهم من المعدات والعتاد الكافي للصمود. عدد المجاميع المهاجمة تتفوق عليهم بعشرات المرات، مضافاً الى الاسناد المدفعي من قبل جيش النظام، الذي زودهم بالمعدات والعتاد بوسائل نقل حديثة، الى جانب نقل جرحاهم بالسيارات الى المستشفيات الحكومية للعلاج.
كانت الأفراد المهاجمة تتقاطر من جحورها المكشوفة وتمر بحرية تحت أنظار القوات العسكرية الحكومية، قد حشدت أفراد عصاباتها بعناية واتخذت مواقع لها بطريقة ملفتة للنظر.
تتوزع المجموعات على القمم دون ان يثير ذلك أدني شك لدى قوات الأنصار حول أسباب هذا التجمع. كانوا يمرون عبر مقر الحزب، الذي قدم لهم الطعام والماء، دون أن يدركوا غايات الجياع أنهم كانوا يحملون في أعماقهم مشاعر الانتقام. هذه العمليات قد تم التخطيط لها بعناية فائقة في غرف الاجهزة القمعية.
وفي يوم 2 أيار طفَّفت الشمسُ، عندما وصلت القوة المنسحبة قوامها 73 نصيرا الى احدى القرى التي رفض سكانها بقاء الأنصار هناك، وطلبوا منهم المغادرة على الفور. يحصلون على بعض الطعام مقابل مبلغ من المال ومن ثم يطلبون من رجلين غريبين القيام بوظيفة الدليل كمرشدين للطريق.
الغسق يلملم وشاحه ويدخل في ليلة دهماء. يبدأ الأنصار بمغادرة القرية بصحبة الإدلاء باتجاه المجهول، ويبقى عامل القلق والحذر يسيطر على هواجس الأنصار في هذا الفضاء المفتوح، والسواد يغطي الكون. بدؤوا مسيرتهم المجهولة، تاركين القرية وراءهم وصعدوا الى قمم الجبال في ممرات غامضة يقودها رجلان لا يعرف الأنصار شيئاً عنهما.
بعد خمسة عشر دقيقة سيراً عن الاقدام، وصلوا الى منحدر باتجاه الوادي على مد البصر. وفجأة اختفى الرجلان عن الأنظار وكأنهما أشباح، فألقى بالفصيل في وادي الحيرة لجهل عناصره بمسارات الطريق. تلك العتمة في ظلمات الطريق، كانت توقظ الخوف المتزايد من اللامرئي. المنطقة تحت سيطرة المهاجمين. كان الموت يحوم في الوديان وشعاب الجبال او ربما يكمن خلف الصخور المنتشرة في الأرجاء.
بعد المسيرة الشاقة نزلوا الى الوادِ المحاط بجبلين شاهقين، وكأنه قدر كبير بلا غطاء. كانت هناك قرية مهجورة غارقة في الظلام اسمها كيولة بيوتها مهدمة بسبب القصف، وألقى الصمت ظلاله على المكان كمقبرة جاهزة..
بعد استراحة قليلة والتي كان الأنصار في أمس الحاجة إليها للتخلص من غبار مصاعب الطريق، شرعوا بإشعال النار لتجفيف ملابسهم المبللة ومنحهم قليلا من الدفء، حتى يتمكنوا بعدها أن يخلدوا إلى الراحة في هذه الليلة الباردة. وهنا هتف أحد الانصار بالقول:
رفاق هذا ليس من الصواب القيام بإشعال النار، الأضواء تكشف مواقعنا.
يشعر الانصار ان الظلام يمنعهم من إيجاد الطريق الصحيح، اضافة إلى الإرهاق الجسدي، لذلك اتفقوا على البقاء في القرية حتى الفجر وطلوع النهار. يتوزع الأنصار على البيوت ويبلغ عددها نحو تسع بيوت خربة.
يبدو ان الخبرات العسكرية لدى الأنصار وتجاربهم لم تكن كافية في مواجهة الأخطار. لم يخامرهم شعور بقيمة الحياة في ذلك الظرف الصعب، وكأنهم كانوا مستعدين للموت فقط.
عمليات التنسيق والشعور بدرء الخطر كانت معدومة، بحيث كلف نصير واحد ليحرس 72 شخص يغطون في النوم في قرية مهجورة مداخلها معروفة لدى المهاجمين. فالتعب قد نال منهم والنعاس كان يغلبهم.
لم يمض وقت طويل، بينما كان الحرس ينظر الى السماء، يتأمل النجوم الساهرة، ويتطلع الى طلائع الضياء فوق الجبل كخطوط بيضاء تؤطر حافات القمم. وإذا بأزيز الرصاص تهشم زجاج الصمت وتقع المجموعة في كمين المرتزقة وتندلع معركة غير متكافئة. كانت العصابات المهاجمة تمتلك اسلحة متطورة، من ناظور ليلي تمكنهم من رؤية الهدف عن بُعد كيلومترين، كما ان القناص كان بإمكانه إصابة هدفه بدقة دون ان يتعرض نفسه الى إطلاقات نارية.
قاوم حازم مع رفاقه الانصار وسقط جريحاً، بعد نفاد العتاد، كما سقط قتلى بين صفوف الأنصار، فيما وقع حازم في الأسر مع بعض من رفاقه، بعد ان خانته الجروح. قامت المرتزقة بإعدام الاسرى امام النساء، وظلّ حازم يتلوى على الأرض سابحا في دمه.
هؤلاء القتلة أسسوا حياتهم على العبث، لذلك وَلدت لديهم حالة الاحباط والانهيار الداخلي تجاه القناعات. فكان رد فعل أفراد العصابات المسلحة هو قتل الأسرى بدم بارد. القضية تكمن في عدم إدراكهم، أن هؤلاء الناس لم يأتوا من مسافات بعيدة ليقتلوا بيد مَنْ يقدمون لهم الدعم. وهذا هو جوهر البَون بين وعي الانسان وعقلانيته في الدفاع عن الحقوق المسلوبة وعبثية المسلحين في تسخير طاقاتهم من أجل العدم.
راحت الجماعات المعتدية تنقض على الأنصار ومن أنفاسهم تفوح رائحة الدم ومن وجوههم المتجهمة تنبثق سهام الانتقام الاعمى.
وقع حازم على الأرض بجسد مُضْنٍ، أمضى أفراد العصابة في جريمتهم بسحل جسده المدى والالم يئن في كل خلية من خلاياه دون الأخذ بنظر الاعتبار اصابته البليغة من جراء رصاصات الغدر أثناء وقوعه بالكمين، بل تمادوا في غيهم، حين قامت المرتزقة بسرقة أموال الحزب التي كانت بحوزته اولا ومن ثم ربطه بإحدى الأشجار التي اخذت بعضاً من أوراقها تتساقط احتجاجا على تلك الجريمة. طفقت العصابة المسلحة تتسلى في مراهنات ماكرة مع تصاعد ضحكاتهم المهينة، بعد ان جعلوا من جسده دريئة كما كانت القراصنة تفعل، يتبارون فيما بينهم بإطلاق الرصاص على جسده الضخم في أماكن محددة دون قتله مباشرة. بينما حازم كان ثابت الجنان، ومحافظاً على رباطة الجأش، قويا شامخا مرفوع الرأس أمام حفنة من قطاع الطرق.
كان حازم على وشك ان يفقد وعيه بينما تناهى إلى سمعه أصوات ترتفع ووقع خطى لأقدام كثيرة، وكأنها صوت حوافر البغال. شعر بأنفاس النهار ممزوجة بالدم، تمتص بهدوء آلام الليل الجريح لرفاق لازالت حياتهم على المحك وهم يشقون الدروب المتعذرة في رحلة الموت. ما أقسى ان يبقى الانسان في دوامة الرجاء والتأمل.
يضحك أحدهم بصوت عالٍ ويقول:
- فالنرسله إلى الجحيم الآن ونمزقه ببنادقنا اربا اربا..
تلك اللحظات قصار من حياته، كأنه يحمل الدهر على عاتقه. كانت رائحة عفنة تنتشر في الجو تفوح من جسد القتلة المأجورين أشد كآبة من تنفيذ الإعدام. يرفع حازم رأسه، وفجأة انسكب شعاع من عينيه، سقط على شاشة الحياة، فارتسمت لوحة كبيرة تظهر عليها سهاد واولادهما ماجد وعمر امام ناظريه مبتسمين وعلى وجوههم علامات الانتظار تشدهم الشوق الى اللقاء معا ولَمْ الشمل، وإذا بإشراقة مفعمة بابتسامة عريضة تملأ وجهه.
فتحوا النار من بنادقهم، أطلقوا بدقة نحو جسده الثابت، كانت تلك الرغبة المجنونة في الانتقام، قد محت من ذاكرة الضمير الإحساس بالقيم الأخلاقية والإنسانية. تلك الرصاصات أحدثت عشرات الثقوب في جسده الهامد التي راح يتدفق منها الدم كالنافورات المزينة بأضواء حمراء.
لم يتوقع حازم يوما ذلك الأسلوب ألسادي في سلب حياة انسان جاء مدافعاً عن قضيتهم، اقل ما يقال انه احقر لون من ألوان القتل.
تكاثف فوق مدينة عانة ضباب من الرماد، فاكتست هيئتها سيماء الحزن. وإذا بريح دافئة تهب من مسقط رأسه، تمر على المدن واحدة تلو الأخرى وتتخلل شعاب الجبال ووديانها لتصل إلى تلك الشجرة الباسقة والشاهدة على تلك البشاعة- موقع إعدام حازم- في قرية كيوله وهو يلتقط انفاسه الاخيرة، عابقا بكلمات الوداع الاخيرة متضوعاً بعطر الوفاء لقضية شعبه وأن التاريخ سوف يخلده الى الابد وان جريمة بشت اشان تبقى وصمة عار على جبين الإنسانية. وفي هذه اللحظة سكنت الريح وغابت الشمس وتمازجت أنفاسه في نسيم الليل.
كانت الأصوات المتداخلة وضحكات الرجال ترتفع بوتيرة عالية في جوٍ يسوده الانسجام والسرور، وقد ملأت اصواتهم غرفة الضيوف، هكذا تناهت الى سمعي عند دخولي المنزل. اختلست النظر من شق الباب لغرفة الضيوف، فانساب بريق رؤيتي على جمهرة من الرجال ببدلاتهم الرسمية، بدوا انيقين للغاية، بعضهم يرتدي نظارات طبية. بين تلك الجمهرة الواسعة لمحت أبي وأخي الكبير زاهر.
دلفت الى الغرفة المجاورة حيث كانت امي لوحدها جالسة على وشك انتهائها من حياكة الليفة التي وعدتني بها، سألتها:
من هم هؤلاء؟
قالت امي:
انهم هنا من اجل خطوبة أختك سهاد.
لأول مرة، ارى وميضاً من الرضا يشع من وجه اخي زاهر، الذي لطالما كان من أشد الرافضين لزواج سهاد، عندما يتقدم رجل ليطلب يدها.
وعندما خرجوا إلى فناء المنزل ألقيت التحية على الجميع، وإذا بحازم يتوجه نحوي ويمدّ يده للمصافحة وانا بدوري فعلت الشيء نفسه. شعرت بقبضته تشد راحتيَّ بكلتا يديه وابتسامة عريضة على شفتيه وقال:
انت نضال، أليس كذلك.
اكتفيت من الجواب عليه بإيماءة وابتسامة. كنت خجلا او أقدر اقول محرجاً. ولكن لاحظت من إمارات وجهه قطعة مبهجة طافحة بالحياة والانشراح.
كان قوي البنية ثقيل الجسم، متوسط القامة، باسم الثغر، شعره يميل الى اللون الذهبي، ذو وجه جاد وعينين واسعتين ذكيتين تشعان منهما انوار الصدق. كان في الخامسة والثلاثين من عمره. بالرغم من صفته المرحة الى حد الكوميديا، إلا انه كان عصبي المزاج نوعا ما.
كان من نوع الأشخاص الذين يحسنون ايجاد كلماتهم، كما انه كان يتمتع بسرعة البديهة، وسمح لنفسه بإطلاق نكات ساخرة في أوقات غير مناسبة، مما أوقعه أحيانا في مشاكل لا داعٍ لها.
قرروا عقد اجتماع حزبي في بيت رفيقة اسمها عالية. كانت الرفيقة على وشك تقديمه الى والدتها، التي كانت هائمة في المطبخ منغمسة في تنظيف السمك. دخلا معا على والدتها التي كانت تفوح من جسمها رائحة السمك، وبعد برهة. رفعت الوالدة رأسها حتى بادرت عالية بالقول:
ماما اقدملج حازم.
مدّ حازم يده مصافحا.
الوالدة سحبت يدها واعتذرت وقالت:
اسفة ايدي زفرة.
التفت حازم إلى الرفيقة وقال لها بسرعة:
لعد هاي انتِ طلعتِ بنت الزفرة؟ مع ضحكته المعتادة.
أغضبت مزاح حازم الأم بشدة. بينما حاولت الرفيقة ان توضح لوالدتها أن حازم يتمتع بروح الدعابة ولا يقصد الاساءة. وانتهى الأمر هذه المرة بسلام.
أصبح حازم نسيبي ونَمتْ علاقة متينة بيننا. لقد كان يحظى بشعبية كبيرة في عائلتنا بفضل قدرته الرائعة والمؤثرة على خلق البهجة والفرح لدى الجميع.
كان منزلهم في نفس منطقتنا يبعد عن منزلنا حوالي 300 متر مشياً على الأقدام. كنت دوما أزوره. وكنا نتبادل النكات والأحاديث الشيقة. احيانا كان يطلب مني ان اتركهم لوحدهم عندما تزوره بعض الضيوف طالبا مني ان اعود الى البيت. لم افهم في البداية ولكن علمت لاحقا بانها اجتماعات حزبية.
مع مرور الزمن عرفت عنه معلومات اخرى، بانه مناضل عنيد وكان من الضباط الأحرار. وخلال الانقلاب شباط الاسود، اقتيد حازم إلى سجن نكرة السلمان مع رفاقه الآخرين بما يسمى قطار الموت. هذا السجن كان عبارة عن منفى يقع في منطقة نائية صحراوية على الحدود العراقية السعودية في ناحية السلمان التابعة الى مدينة السماوة.
كان حازم المسؤول العسكري داخل الحزب وساهم بشكل فعلي في دعم وتطوير هذا القسم المهم من خلال نقل خبراته السابقة كضابط في الجيش. كما كان له مساهمات كبيرة في الحركة الطلابية.
بعد ان أفرغ النظام الجبهة من محتواها، لم يدرك حازم انه كان تحت المراقبة المشددة وأن عيون التربص تلاحق خطواته، بل ان ظله كان فعلا رهن الاعتقال.
وفي ذلك الصباح من عام 1978، كان الهواء بارد ليس كالمعتاد. بينما يسترخي سكان المنطقة من وطأة العمل الشاق، خرج حازم لشراء بعض ما تقتضي الحاجة لتناول فطور الصباح، لم يكن يعرف سبب ذلك الصمت الجنائزي في الطرقات وسكون تغاريد العصافير واختفاء حفيف الأوراق. وإذا بسور من رجال الأمن أحاطوا به من كل جهات، مطالبين منه عدم اثارة اية جلجلة وحثوه على ركوب السيارة، التي انطلقت به مسرعة باتجاه اقبية الامن العامة.
وبينما زوجته سهاد التي كانت حامل في الشهور الاولى تطعم ابنها ماجد الذي كان في عمر سنتين، اقتحمت رجال الأمن منزلهم بحثا عن ادلة اخرى. بعد التفتيش، وجدوا حقيبة سوداء متوسطة الحجم فيها بعض النقود وجواز السفر. تم مصادرتها، ثم غادروا المكان.
وفي اقبية الامن العامة جرت له حفلات التعذيب الوحشي بتعليقه بالمروحة السقفية من أرجله وبينما قفاه متدلى الى الأسفل. علاوة على استخدام الأساليب النفسية حينا والاغراء حينا آخر، بغية إخضاعه. وبعد فترة الانتهاء من طقوس التعذيب، اقتيد حازم الى ضابط التحقيق.
نظر المحقق الى حازم وقال بنبرة تصالح:
- اسمع يا ابو ماجد سأتحدث معك كأصدقاء. سوف اقترح عليك شيئاً مهماً سيفتح أبواب الجنة لك ولعائلتك.
ثم يتوقف للحظة عن الكلام وينظر إلى وجه حازم بابتسامة مصطنعة وكأنه ينوي الكشف عن ملامحه رداً على ما سيقوله، فيما نظر حازم اليه بعينين ثاقبتين وابتسامة عكست رفض هذه الإغراءات.
نحن على استعداد كامل لمنحك أي منصب تريده، باستثناء الوزير وما فوق بشرط ان تترك مجموعتك، ولا نطلب منك الانتماء إلينا.. وستتمتع بحياة أفضل من هذا الخراب، وخلاف ذلك سوف تعدم. لأن الحكم قد صدر فعلا بحقك ولم يبق إلا توقيع السيد الرئيس... ماذا تقول على هذا الاقتراح العظيم.
أجاب حازم دون تردد:
- اني ارفض العمل في أي وظيفة حكومية.
- هل تريد الموت...أم ماذا... ما الذي تتخيل سيحدث لك نتيجة رفضك؟ هل تتصور أننا نلعب معك؟
بعد تلك المحاولات العديدة معه، لم يرضخ حازم الى تلك الاغراءات، عندها شعر المحقق ان ضغوطاته لا تجدي نفعا. نادى على مساعديه:
- أعده الى زنزانته.
ظل حازم قيد الاعتقال لمدة ستة أشهر. لقد انجبت سهاد طفلهم الثاني الذي أطلق عليه اسم عمر وهو لا يزال في السجن.
تلقت سهاد رسالة خطية من حازم أثناء تواجده في السجن، رداً على رسالتها وهي تبشره بولادة طفلهما، حيث أشار حازم فيها على اتفاقهم على ان يكون اسمه عمر. وقد تم شطب العديد من عبارات الرسالة بالحبر الأسود.
وفي خارج البلاد خرجت مئات من أنصار الحزب في احتجاجات واسعة، مطالبين بالإفراج عن المعتقلين. كذلك الضغوطات من قبل الدول الاشتراكية.
وحال خروج حازم من السجن عام 1979، التقيت به، وأعربت عن سعادتي بخروجه حيا. سألته عن طرق الاستجواب والتعذيب. قال:
- الضابط كان شاب متحمس ويتحدث بحرفية. وأردف قائلا:
- اسمع يا حازم: سأقرأ كل المعلومات عنك. إذا قمت بإضافة شيء خاص بك. سأخبرك بانك كاذب.
واضاف:
- كانوا يعرفون عني كل ما ينبغي معرفته، بل كل تفاصيل حياتي، وحركاتي، ولقاءاتي، وحتى نوع وألوان الملابس التي ارتديها..
تلك الأحداث المتعاقبة التي تلت في تعرض قواعد الحزب الى مضايقات المستمرة اوشكت على ان تكون مصدر قلق دائم. فلا يشغله غير مصير الحزب الذي يمكن ان يتعرض لكارثة.
وفجأة تحولت عمليات الترهيب النفسي والمضايقات اليومية شيئا فشيئا الى رعب وذعر. وهذه الممارسات كانت إيذانا بانتهاء تلك الحقبة من العرس الوهمي الموشاة بوشاح ذهبي بإقامة هدف مشترك ينقل الوطن نحو مستقبل رغيد.
لقد باتت عمليات الاختفاء امراً محتوماً، وصار الفرار واقعا خياليا لا تراه إلا في الأحلام. تلك الهجمة الشرسة وضعت الانسان على الطريق للفرار الى المجهول.
في خضم الفوضى المفاجئة، أدى ذلك الى بعثرة التنظيمات وتفكك روابطها، مما أجبر الأعضاء على التحرك السريع وتحمل المسؤولية عن أنفسهم وإيجاد مخرج من قبضة النظام الدموي. بحيث انحصروا في زاوية التردد والشك، وانقسمت حياتهم بين القلق والثقة الضائعة.
لم يفكر الكثيرون في خطورة الموقف وأن البلايا قد تهبط عليهم بهذه السرعة دون اتخاذ الاحتياطات. لقد كان ذلك حلماً ثقيلاً وجلفاً، يزورهم في وضح النهار. الأمر كان في غاية الاهمية والخطورة ويتطلب اتخاذ القرار الصائب بكل عناية ومهارة. وكل يوم ينقضي، يدني من نهاية غير متوقعة.
بدت الأشياء وكأنها قد تم تخميرها بالفعل في غرف سرية بواسطة النظام. تم ذلك من خلال إحكام السيطرة على المؤسسات الأمنية والعسكرية. وكان ذلك اقراراً بفردية السلطة. شرع النظام بإعدام 32 انسان بتهمة العمل الحزبي داخل الجيش. وكان هذا عملاً خطيراً لم ينتبه إليه أصحاب القضية.
تفاقم الوضع الى حد التعقيد ترافق ذلك مع صعود متدفق ونمو متصاعد للحركة الجماهيرية، الأمر الذي أغضب النظام الذي سلك طريق الانفراد بالحكم بشكل علني. باشر في الاعتقالات والضغط باتجاه عزل الحزب عن محيطه الحقيقي بالتسبب في مشاكل بين حين والاخر والقيام بالاعتقالات بغية ترهيبهم. طفقت فترة اخرى أكثر صعوبة في الحياة السياسية والتي تحولت بمرور الزمن الى كابوس جاثم.
بعد ان تم الافراج عنه، ناقش حازم قضية العودة الى أحضان الحزب وتشكيلاته التنظيمية التي كانت بيئتها الحالية تشكل عقبة في طريق القيام بهذه المهمة. لم يكن أمامه من سبيل سوى مغادرة العراق، متوجها الى سوريا ليستجمع بقايا شتاته، بعد ان تحولت الحياة في هذا البلد الى سجن كبير، خُمدت فجأة تلك الحيوية الصارخة التي اوجدت نشاطاً وفيراً وزاخراً.
رغم صفاء الجو وهدوء الحياة العامة من خلال فتح الحانات المكتظة بالرواد وخدمتهم في تقديم المشروبات الكحولية، ودور السينما التي استمرت في عرض أفلامها كالعادة، والمقاهي التي قامت بدورها في أفضل حالة وحركة الناس في ممارسة حياتهم الطبيعية وضجيج السيارات في الشوارع الجميلة، لكنها أعطت شعورا مزيفاً لحازم. فقد كان يشق على أعضاء الحزب ومؤازَريهم فهم ما كان يحدث لهم. وهناك مَنْ أدرك حجم الصدمة منذ زمن بعيد. أما بالنسبة لحازم ما زالت الصدمة حية في الذاكرة وتطلب التخلص من آثارها العميقة.
لم تعلم سهاد بأن لقاءها مع حازم في سوريا سيكون الأخير لها. عادت الى الوطن مع ولديها ماجد وعمر. والغريب موقف الاطفال بحجب الاسرار عن زيارتهم بعد ان نصحهم أبوهم بعدم ذكر أي شيء عن لقائهم.
سألتُ عمر:
عمر.. هل التقيت بابيك؟
نظر إلى دون ان ينبس ببنت شفة. ثم هز رأسه مشيراً، انه لم يلتق بابيه وكررت المحاولة مع ماجد كذلك الذي أنكر انه التقى بابيه. ولكن بعد ذلك علمت من اختي سهاد.
انطفأ ضوء النهار بعد ان غرق في سواد الليل، ولم تعد سهاد الى البيت بعدُ، حيث كانت تعيش معنا مع أطفاله بعد اختفاء حازم. فجأة ظهرت امامنا، وملامحها تكسوها غلالة صفراء، وكأن تياراً كهربائياً قد تسرب الى جسدها وهي ترتعد من الخوف. كانت ترتجف في مفاصلها، حيث قامت مجموعة من رجال الأمن بإرغامها على الركوب في سيارتهم واقتيادها بعد انتهاء دوامها الى مديرية الامن العامة، طالباً منها الإدلاء بمعلومات عن زوجها المختفي. وبعد إخلاء سبيلها، أوهمها الامن بان قرص التنصت قد وضع فعلاً في حديقة الدار لسماع ما تنقله لنا. تكررت هذه العملية عشرات المرات، وفي كل مرة طالبوها بالتعاون معهم وهددوها بالاعتداء الجنسي. وفي ذات مرة قال لها الضابط:
اسمعي زين. إذا ما تتعاونين ويانا. هسه ماجد موجود عدنا في الغرفة الأخرى وره هذا الباب.. نجيبه ونذبحه گدامج.
وفي يوم صيفي لاهب خرجت سهاد من العمل وإذا بها تلتقي وجهاً لوجه أمام رجل الأمن منتصبا، طالبا منها الركوب في السيارة:
سهاد تسأل بصوت واثق:
ليش.
اريد اسالج بعض الاسئلة
مو قبل أيام سألتوني واني گتلكم ما اعرف شي.
وأردفت قائلة:
بعدين انا دكتورة بالمستشفى وزوجي غائب وانتو يوميا واگفين بباب المستشفى. اشراح يگولون عليّ واني گاعدة ويا رجال غريب بالسيارة.. اشمدريهم انت رجل أمن.
يرد رجل الامن باستهتار:
شنو يعني كلج مرت مجرم هارب.
وفي صيف عام 1982 عاد حازم الى الوطن وانضم الى قوات الأنصار في جبال كردستان. في نفس العام، ذهب الى بغداد لأداء مهامه الحزبية في سرية تامة، إلا ان اقامته لم تدم طويلا هناك، حيث وصلت المعلومات الخاصة بوصوله الى جهاز الامن عبر وكلائه. لذلك شرعوا في التحري والبحث عن حازم.
شعر حازم بخطورة الموقف. عاد أدراجه ثانية الى جبال كردستان وكانت محطته في وادي بشت آشان.
يقع وادي بشت آشان عند سفح جبل قنديل. اتخذه الحزب مقرا له، بالرغم من عدم صلاحيته العسكرية، حيث لم يكن موقعا عسكريا محكما لعدم وجود تحصينات الكافية لمواجهة عدوان عسكري محتمل.
كانت مدفعية النظام تقصف المناطق المحيطة بشت اشان لمدة ثلاثة أيام قبل واحد ايار 1983. ومع ذلك لم تساور القيادة هناك الشكوك حول وجود استعدادات من قبل الجيش في شن هجوم مُرجّح على المنطقة.
استعد الأنصار لإقامة حفل بمناسبة الاول من ايار، يوم العمال العالمي، والربيع يتنفس غلواءً عذباً. وامتلأت الأجواء داخل المقر بأضواء الابتهاج للاحتفال بهذه المناسبة. حدث هذا في يوم 30 نيسان 1983. وفي هذا الوقت كانت قوافل من المرتزقة تنتقل عبر الجبال باتجاه موقع بشت آشان. خرجوا من جحورهم المظلمة ليرشوا سموم الغدر والخديعة، فغطوا تلك الأرض الخضراء بالدماء، مدعومين بقصف مدفعي من جيش النظام الذي قصف المنطقة تمهيدا لهجوم المرتزقة.
هناك ثمة عالم مشترك يتقاسمه المجرمون بغض النظر عن أفكارهم وتطلعاتهم المختلفة، وأن عالم تتحد فيه اللذة السادية، يكون هذا العالم في الغالب عالم الرذيلة والدناءة، وتصبح الخيانة السمة المشتركة بينهما.
باغتت المرتزقة الأنصار في موقع بشت آشان، تسللت مجموعة مسلحة إلى موقع قريب من المقر الرئيسي تحت جنح الظلام. اشتبكت القوة المتمركزة هناك مع المهاجمين واجبرتهم على التراجع. بينما لقي أحد الانصار مصرعه برصاص قناص على الفور، عندها تحققت لدى القيادة بوجود هجوم على المقر. في نفس الليلة بدأت مجموعة من القيادة في التراجع مع أنصار المسنين. واتخذت بقية الفصيل والمفارز موقفاً دفاعياً، ولكن من دون خطط جاهزة لصد أي عدوان مستقبلي- ظلوا متحصنين ومنتظرين-. استؤنف القتال في الصباح من جديد بعد ان تمكنت القوات المهاجمة من احتلال مواقع استراتيجية تمكنت من خلالها من إحكام السيطرة على تحركات الأنصار.
وتراجع الأنصار على أثرها باتجاه الجبال ليلا. وهناك انقسمت القوة إلى مجموعتين دون اتفاق مسبق. ربما بسبب الفوضى المفاجئة.
توجهت مجموعة واحدة باتجاه الجبال المغطاة بالثلوج الواقعة على الحدود الإيرانية، ومجموعة أخرى، التي ينتمي إليها حازم، لم تكن على دراية بممرات الطرق، توجهت الى الأراضي العراقية. كانت المنطقة تحت سيطرة المجموعات المهاجمة.
كانت المفاجأة فظيعة، فهناك من يحتضن الكراهية في اعماقه، وفكرة الانتقام راسخة في اذهانه. مهما اختلفت الاسماء في جوهر ذلك الفعل المشين، يبقى الانسان نفسه هو الضحية في النهاية. الأنصار نالهم الإرهاق والتعب والرهبة في خوض المجهول وهم يعبرون طرقاً مفروشة بالثلوج باتجاه قمم مجهولة. كان يوما حزينا. وتحت وطأة الأقدام تسمع ثمة انين ينبثق من الجليد، ريح باردة تهب، مصحوبة بصفير مفاجئ، وكأنه نذير الشؤم. أو مرثاة لفقدان ما لم يكن في الحسبان. كانوا يضطرون الى قضم الثلج ليروي ظمأهم، ولكن ذلك لم يخمد نار العطش. ظلت المجموعة في انسحابها القهقري على هذا المنوال.
كانت السماء المغبرة، تحدق وتترقب في صمت قاتم تلك الكائنات الشوهاء، المتعطشة للدماء، مثل الوحوش البرية. رجال متمرسون على خنق الحياة، تصب جام حقدها على كوكبة لامعة تجمعت في هذه البقعة النائية، طامحا من أجل بناء غد مشرق للناس بمن فيهم القتلة المهاجمون.
المعركة ما زالت مستمرة، والأنصار ينسحبون من مقراتهم عبر الطرق الوعرة، أنهكهم التعب والجوع، وليس لديهم من المعدات والعتاد الكافي للصمود. عدد المجاميع المهاجمة تتفوق عليهم بعشرات المرات، مضافاً الى الاسناد المدفعي من قبل جيش النظام، الذي زودهم بالمعدات والعتاد بوسائل نقل حديثة، الى جانب نقل جرحاهم بالسيارات الى المستشفيات الحكومية للعلاج.
كانت الأفراد المهاجمة تتقاطر من جحورها المكشوفة وتمر بحرية تحت أنظار القوات العسكرية الحكومية، قد حشدت أفراد عصاباتها بعناية واتخذت مواقع لها بطريقة ملفتة للنظر.
تتوزع المجموعات على القمم دون ان يثير ذلك أدني شك لدى قوات الأنصار حول أسباب هذا التجمع. كانوا يمرون عبر مقر الحزب، الذي قدم لهم الطعام والماء، دون أن يدركوا غايات الجياع أنهم كانوا يحملون في أعماقهم مشاعر الانتقام. هذه العمليات قد تم التخطيط لها بعناية فائقة في غرف الاجهزة القمعية.
وفي يوم 2 أيار طفَّفت الشمسُ، عندما وصلت القوة المنسحبة قوامها 73 نصيرا الى احدى القرى التي رفض سكانها بقاء الأنصار هناك، وطلبوا منهم المغادرة على الفور. يحصلون على بعض الطعام مقابل مبلغ من المال ومن ثم يطلبون من رجلين غريبين القيام بوظيفة الدليل كمرشدين للطريق.
الغسق يلملم وشاحه ويدخل في ليلة دهماء. يبدأ الأنصار بمغادرة القرية بصحبة الإدلاء باتجاه المجهول، ويبقى عامل القلق والحذر يسيطر على هواجس الأنصار في هذا الفضاء المفتوح، والسواد يغطي الكون. بدؤوا مسيرتهم المجهولة، تاركين القرية وراءهم وصعدوا الى قمم الجبال في ممرات غامضة يقودها رجلان لا يعرف الأنصار شيئاً عنهما.
بعد خمسة عشر دقيقة سيراً عن الاقدام، وصلوا الى منحدر باتجاه الوادي على مد البصر. وفجأة اختفى الرجلان عن الأنظار وكأنهما أشباح، فألقى بالفصيل في وادي الحيرة لجهل عناصره بمسارات الطريق. تلك العتمة في ظلمات الطريق، كانت توقظ الخوف المتزايد من اللامرئي. المنطقة تحت سيطرة المهاجمين. كان الموت يحوم في الوديان وشعاب الجبال او ربما يكمن خلف الصخور المنتشرة في الأرجاء.
بعد المسيرة الشاقة نزلوا الى الوادِ المحاط بجبلين شاهقين، وكأنه قدر كبير بلا غطاء. كانت هناك قرية مهجورة غارقة في الظلام اسمها كيولة بيوتها مهدمة بسبب القصف، وألقى الصمت ظلاله على المكان كمقبرة جاهزة..
بعد استراحة قليلة والتي كان الأنصار في أمس الحاجة إليها للتخلص من غبار مصاعب الطريق، شرعوا بإشعال النار لتجفيف ملابسهم المبللة ومنحهم قليلا من الدفء، حتى يتمكنوا بعدها أن يخلدوا إلى الراحة في هذه الليلة الباردة. وهنا هتف أحد الانصار بالقول:
- رفاق هذا ليس من الصواب القيام بإشعال النار، الأضواء تكشف مواقعنا.
يشعر الانصار ان الظلام يمنعهم من إيجاد الطريق الصحيح، اضافة إلى الإرهاق الجسدي، لذلك اتفقوا على البقاء في القرية حتى الفجر وطلوع النهار. يتوزع الأنصار على البيوت ويبلغ عددها نحو تسع بيوت خربة.
يبدو ان الخبرات العسكرية لدى الأنصار وتجاربهم لم تكن كافية في مواجهة الأخطار. لم يخامرهم شعور بقيمة الحياة في ذلك الظرف الصعب، وكأنهم كانوا مستعدين للموت فقط.
عمليات التنسيق والشعور بدرء الخطر كانت معدومة، بحيث كلف نصير واحد ليحرس 72 شخص يغطون في النوم في قرية مهجورة مداخلها معروفة لدى المهاجمين. فالتعب قد نال منهم والنعاس كان يغلبهم.
لم يمض وقت طويل، بينما كان الحرس ينظر الى السماء، يتأمل النجوم الساهرة، ويتطلع الى طلائع الضياء فوق الجبل كخطوط بيضاء تؤطر حافات القمم. وإذا بأزيز الرصاص تهشم زجاج الصمت وتقع المجموعة في كمين المرتزقة وتندلع معركة غير متكافئة. كانت العصابات المهاجمة تمتلك اسلحة متطورة، من ناظور ليلي تمكنهم من رؤية الهدف عن بُعد كيلومترين، كما ان القناص كان بإمكانه إصابة هدفه بدقة دون ان يتعرض نفسه الى إطلاقات نارية.
قاوم حازم مع رفاقه الانصار وسقط جريحاً، بعد نفاد العتاد، كما سقط قتلى بين صفوف الأنصار، فيما وقع حازم في الأسر مع بعض من رفاقه، بعد ان خانته الجروح. قامت المرتزقة بإعدام الاسرى امام النساء، وظلّ حازم يتلوى على الأرض سابحا في دمه.
هؤلاء القتلة أسسوا حياتهم على العبث، لذلك وَلدت لديهم حالة الاحباط والانهيار الداخلي تجاه القناعات. فكان رد فعل أفراد العصابات المسلحة هو قتل الأسرى بدم بارد. القضية تكمن في عدم إدراكهم، أن هؤلاء الناس لم يأتوا من مسافات بعيدة ليقتلوا بيد مَنْ يقدمون لهم الدعم. وهذا هو جوهر البَون بين وعي الانسان وعقلانيته في الدفاع عن الحقوق المسلوبة وعبثية المسلحين في تسخير طاقاتهم من أجل العدم.
راحت الجماعات المعتدية تنقض على الأنصار ومن أنفاسهم تفوح رائحة الدم ومن وجوههم المتجهمة تنبثق سهام الانتقام الاعمى.
وقع حازم على الأرض بجسد مُضْنٍ، أمضى أفراد العصابة في جريمتهم بسحل جسده المدمى والالم يئن في كل خلية من خلاياه دون الأخذ بنظر الاعتبار اصابته البليغة من جراء رصاصات الغدر أثناء وقوعه بالكمين، بل تمادوا في غيهم، حين قامت المرتزقة بسرقة أموال الحزب التي كانت بحوزته اولا ومن ثم ربطه بإحدى الأشجار التي اخذت بعضاً من أوراقها تتساقط احتجاجا على تلك الجريمة. طفقت العصابة المسلحة تتسلى في مراهنات ماكرة مع تصاعد ضحكاتهم المهينة، بعد ان جعلوا من جسده دريئة كما كانت القراصنة تفعل، يتبارون فيما بينهم بإطلاق الرصاص على جسده الضخم في أماكن محددة دون قتله مباشرة. بينما حازم كان ثابت الجنان، ومحافظاً على رباطة الجأش، قويا شامخا مرفوع الرأس أمام حفنة من قطاع الطرق.
كان حازم على وشك ان يفقد وعيه بينما تناهى إلى سمعه أصوات ترتفع ووقع خطى لأقدام كثيرة، وكأنها صوت حوافر البغال. شعر بأنفاس النهار ممزوجة بالدم، تمتص بهدوء آلام الليل الجريح لرفاق لازالت حياتهم على المحك وهم يشقون الدروب المتعذرة في رحلة الموت. ما أقسى ان يبقى الانسان في دوامة الرجاء والتأمل.
يضحك أحدهم بصوت عالٍ ويقول:
- فالنرسله إلى الجحيم الآن ونمزقه ببنادقنا اربا اربا..
تلك اللحظات قصار من حياته، كأنه يحمل الدهر على عاتقه. كانت رائحة عفنة تنتشر في الجو تفوح من جسد القتلة المأجورين أشد كآبة من تنفيذ الإعدام. يرفع حازم رأسه، وفجأة انسكب شعاع من عينيه، سقط على شاشة الحياة، فارتسمت لوحة كبيرة تظهر عليها سهاد واولادهما ماجد وعمر امام ناظريه مبتسمين وعلى وجوههم علامات الانتظار تشدهم الشوق الى اللقاء معا ولَمْ الشمل، وإذا بإشراقة مفعمة بابتسامة عريضة تملأ وجهه.
فتحوا النار من بنادقهم، أطلقوا بدقة نحو جسده الثابت، كانت تلك الرغبة المجنونة في الانتقام، قد محت من ذاكرة الضمير الإحساس بالقيم الأخلاقية والإنسانية. تلك الرصاصات أحدثت عشرات الثقوب في جسده الهامد التي راح يتدفق منها الدم كالنافورات المزينة بأضواء حمراء.
لم يتوقع حازم يوما ذلك الأسلوب ألسادي في سلب حياة انسان جاء مدافعاً عن قضيتهم، اقل ما يقال انه احقر لون من ألوان القتل.
تكاثف فوق مدينة عانة ضباب من الرماد، فاكتست هيئتها سيماء الحزن. وإذا بريح دافئة تهب من مسقط رأسه، تمر على المدن واحدة تلو الأخرى وتتخلل شعاب الجبال ووديانها لتصل إلى تلك الشجرة الباسقة والشاهدة على تلك البشاعة- موقع إعدام حازم- في قرية كيوله وهو يلتقط انفاسه الاخيرة، عابقا بكلمات الوداع الاخيرة متضوعاً بعطر الوفاء لقضية شعبه وأن التاريخ سوف يخلده الى الابد وان جريمة بشت اشان تبقى وصمة عار على جبين الإنسانية. وفي هذه اللحظة سكنت الريح وغابت الشمس وتمازجت أنفاسه في نسيم الليل.
دلفت الى الغرفة المجاورة حيث كانت امي لوحدها جالسة على وشك انتهائها من حياكة الليفة التي وعدتني بها، سألتها:
من هم هؤلاء؟
قالت امي:
انهم هنا من اجل خطوبة أختك سهاد.
لأول مرة، ارى وميضاً من الرضا يشع من وجه اخي زاهر، الذي لطالما كان من أشد الرافضين لزواج سهاد، عندما يتقدم رجل ليطلب يدها.
وعندما خرجوا إلى فناء المنزل ألقيت التحية على الجميع، وإذا بحازم يتوجه نحوي ويمدّ يده للمصافحة وانا بدوري فعلت الشيء نفسه. شعرت بقبضته تشد راحتيَّ بكلتا يديه وابتسامة عريضة على شفتيه وقال:
انت نضال، أليس كذلك.
اكتفيت من الجواب عليه بإيماءة وابتسامة. كنت خجلا او أقدر اقول محرجاً. ولكن لاحظت من إمارات وجهه قطعة مبهجة طافحة بالحياة والانشراح.
كان قوي البنية ثقيل الجسم، متوسط القامة، باسم الثغر، شعره يميل الى اللون الذهبي، ذو وجه جاد وعينين واسعتين ذكيتين تشعان منهما انوار الصدق. كان في الخامسة والثلاثين من عمره. بالرغم من صفته المرحة الى حد الكوميديا، إلا انه كان عصبي المزاج نوعا ما.
كان من نوع الأشخاص الذين يحسنون ايجاد كلماتهم، كما انه كان يتمتع بسرعة البديهة، وسمح لنفسه بإطلاق نكات ساخرة في أوقات غير مناسبة، مما أوقعه أحيانا في مشاكل لا داعٍ لها.
قرروا عقد اجتماع حزبي في بيت رفيقة اسمها عالية. كانت الرفيقة على وشك تقديمه الى والدتها، التي كانت هائمة في المطبخ منغمسة في تنظيف السمك. دخلا معا على والدتها التي كانت تفوح من جسمها رائحة السمك، وبعد برهة. رفعت الوالدة رأسها حتى بادرت عالية بالقول:
ماما اقدملج حازم.
مدّ حازم يده مصافحا.
الوالدة سحبت يدها واعتذرت وقالت:
اسفة ايدي زفرة.
التفت حازم إلى الرفيقة وقال لها بسرعة:
لعد هاي انتِ طلعتِ بنت الزفرة؟ مع ضحكته المعتادة.
أغضبت مزاح حازم الأم بشدة. بينما حاولت الرفيقة ان توضح لوالدتها أن حازم يتمتع بروح الدعابة ولا يقصد الاساءة. وانتهى الأمر هذه المرة بسلام.
أصبح حازم نسيبي ونَمتْ علاقة متينة بيننا. لقد كان يحظى بشعبية كبيرة في عائلتنا بفضل قدرته الرائعة والمؤثرة على خلق البهجة والفرح لدى الجميع.
كان منزلهم في نفس منطقتنا يبعد عن منزلنا حوالي 300 متر مشياً على الأقدام. كنت دوما أزوره. وكنا نتبادل النكات والأحاديث الشيقة. احيانا كان يطلب مني ان اتركهم لوحدهم عندما تزوره بعض الضيوف طالبا مني ان اعود الى البيت. لم افهم في البداية ولكن علمت لاحقا بانها اجتماعات حزبية.
مع مرور الزمن عرفت عنه معلومات اخرى، بانه مناضل عنيد وكان من الضباط الأحرار. وخلال الانقلاب شباط الاسود، اقتيد حازم إلى سجن نكرة السلمان مع رفاقه الآخرين بما يسمى قطار الموت. هذا السجن كان عبارة عن منفى يقع في منطقة نائية صحراوية على الحدود العراقية السعودية في ناحية السلمان التابعة الى مدينة السماوة.
كان حازم المسؤول العسكري داخل الحزب وساهم بشكل فعلي في دعم وتطوير هذا القسم المهم من خلال نقل خبراته السابقة كضابط في الجيش. كما كان له مساهمات كبيرة في الحركة الطلابية.
بعد ان أفرغ النظام الجبهة من محتواها، لم يدرك حازم انه كان تحت المراقبة المشددة وأن عيون التربص تلاحق خطواته، بل ان ظله كان فعلا رهن الاعتقال.
وفي ذلك الصباح من عام 1978، كان الهواء بارد ليس كالمعتاد. بينما يسترخي سكان المنطقة من وطأة العمل الشاق، خرج حازم لشراء بعض ما تقتضي الحاجة لتناول فطور الصباح، لم يكن يعرف سبب ذلك الصمت الجنائزي في الطرقات وسكون تغاريد العصافير واختفاء حفيف الأوراق. وإذا بسور من رجال الأمن أحاطوا به من كل جهات، مطالبين منه عدم اثارة اية جلجلة وحثوه على ركوب السيارة، التي انطلقت به مسرعة باتجاه اقبية الامن العامة.
وبينما زوجته سهاد التي كانت حامل في الشهور الاولى تطعم ابنها ماجد الذي كان في عمر سنتين، اقتحمت رجال الأمن منزلهم بحثا عن ادلة اخرى. بعد التفتيش، وجدوا حقيبة سوداء متوسطة الحجم فيها بعض النقود وجواز السفر. تم مصادرتها، ثم غادروا المكان.
وفي اقبية الامن العامة جرت له حفلات التعذيب الوحشي بتعليقه بالمروحة السقفية من أرجله وبينما قفاه متدلى الى الأسفل. علاوة على استخدام الأساليب النفسية حينا والاغراء حينا آخر، بغية إخضاعه. وبعد فترة الانتهاء من طقوس التعذيب، اقتيد حازم الى ضابط التحقيق.
نظر المحقق الى حازم وقال بنبرة تصالح:
- اسمع يا ابو ماجد سأتحدث معك كأصدقاء. سوف اقترح عليك شيئاً مهماً سيفتح أبواب الجنة لك ولعائلتك.
ثم يتوقف للحظة عن الكلام وينظر إلى وجه حازم بابتسامة مصطنعة وكأنه ينوي الكشف عن ملامحه رداً على ما سيقوله، فيما نظر حازم اليه بعينين ثاقبتين وابتسامة عكست رفض هذه الإغراءات.
نحن على استعداد كامل لمنحك أي منصب تريده، باستثناء الوزير وما فوق بشرط ان تترك مجموعتك، ولا نطلب منك الانتماء إلينا.. وستتمتع بحياة أفضل من هذا الخراب، وخلاف ذلك سوف تعدم. لأن الحكم قد صدر فعلا بحقك ولم يبق إلا توقيع السيد الرئيس... ماذا تقول على هذا الاقتراح العظيم.
أجاب حازم دون تردد:
- اني ارفض العمل في أي وظيفة حكومية.
- هل تريد الموت...أم ماذا... ما الذي تتخيل سيحدث لك نتيجة رفضك؟ هل تتصور أننا نلعب معك؟
بعد تلك المحاولات العديدة معه، لم يرضخ حازم الى تلك الاغراءات، عندها شعر المحقق ان ضغوطاته لا تجدي نفعا. نادى على مساعديه:
- أعده الى زنزانته.
ظل حازم قيد الاعتقال لمدة ستة أشهر. لقد انجبت سهاد طفلهم الثاني الذي أطلق عليه اسم عمر وهو لا يزال في السجن.
تلقت سهاد رسالة خطية من حازم أثناء تواجده في السجن، رداً على رسالتها وهي تبشره بولادة طفلهما، حيث أشار حازم فيها على اتفاقهم على ان يكون اسمه عمر. وقد تم شطب العديد من عبارات الرسالة بالحبر الأسود.
وفي خارج البلاد خرجت مئات من أنصار الحزب في احتجاجات واسعة، مطالبين بالإفراج عن المعتقلين. كذلك الضغوطات من قبل الدول الاشتراكية.
وحال خروج حازم من السجن عام 1979، التقيت به، وأعربت عن سعادتي بخروجه حيا. سألته عن طرق الاستجواب والتعذيب. قال:
- الضابط كان شاب متحمس ويتحدث بحرفية. وأردف قائلا:
- اسمع يا حازم: سأقرأ كل المعلومات عنك. إذا قمت بإضافة شيء خاص بك. سأخبرك بانك كاذب.
واضاف:
- كانوا يعرفون عني كل ما ينبغي معرفته، بل كل تفاصيل حياتي، وحركاتي، ولقاءاتي، وحتى نوع وألوان الملابس التي ارتديها..
تلك الأحداث المتعاقبة التي تلت في تعرض قواعد الحزب الى مضايقات المستمرة اوشكت على ان تكون مصدر قلق دائم. فلا يشغله غير مصير الحزب الذي يمكن ان يتعرض لكارثة.
وفجأة تحولت عمليات الترهيب النفسي والمضايقات اليومية شيئا فشيئا الى رعب وذعر. وهذه الممارسات كانت إيذانا بانتهاء تلك الحقبة من العرس الوهمي الموشاة بوشاح ذهبي بإقامة هدف مشترك ينقل الوطن نحو مستقبل رغيد.
لقد باتت عمليات الاختفاء امراً محتوماً، وصار الفرار واقعا خياليا لا تراه إلا في الأحلام. تلك الهجمة الشرسة وضعت الانسان على الطريق للفرار الى المجهول.
في خضم الفوضى المفاجئة، أدى ذلك الى بعثرة التنظيمات وتفكك روابطها، مما أجبر الأعضاء على التحرك السريع وتحمل المسؤولية عن أنفسهم وإيجاد مخرج من قبضة النظام الدموي. بحيث انحصروا في زاوية التردد والشك، وانقسمت حياتهم بين القلق والثقة الضائعة.
لم يفكر الكثيرون في خطورة الموقف وأن البلايا قد تهبط عليهم بهذه السرعة دون اتخاذ الاحتياطات. لقد كان ذلك حلماً ثقيلاً وجلفاً، يزورهم في وضح النهار. الأمر كان في غاية الاهمية والخطورة ويتطلب اتخاذ القرار الصائب بكل عناية ومهارة. وكل يوم ينقضي، يدني من نهاية غير متوقعة.
بدت الأشياء وكأنها قد تم تخميرها بالفعل في غرف سرية بواسطة النظام. تم ذلك من خلال إحكام السيطرة على المؤسسات الأمنية والعسكرية. وكان ذلك اقراراً بفردية السلطة. شرع النظام بإعدام 32 انسان بتهمة العمل الحزبي داخل الجيش. وكان هذا عملاً خطيراً لم ينتبه إليه أصحاب القضية.
تفاقم الوضع الى حد التعقيد ترافق ذلك مع صعود متدفق ونمو متصاعد للحركة الجماهيرية، الأمر الذي أغضب النظام الذي سلك طريق الانفراد بالحكم بشكل علني. باشر في الاعتقالات والضغط باتجاه عزل الحزب عن محيطه الحقيقي بالتسبب في مشاكل بين حين والاخر والقيام بالاعتقالات بغية ترهيبهم. طفقت فترة اخرى أكثر صعوبة في الحياة السياسية والتي تحولت بمرور الزمن الى كابوس جاثم.
بعد ان تم الافراج عنه، ناقش حازم قضية العودة الى أحضان الحزب وتشكيلاته التنظيمية التي كانت بيئتها الحالية تشكل عقبة في طريق القيام بهذه المهمة. لم يكن أمامه من سبيل سوى مغادرة العراق، متوجها الى سوريا ليستجمع بقايا شتاته، بعد ان تحولت الحياة في هذا البلد الى سجن كبير، خُمدت فجأة تلك الحيوية الصارخة التي اوجدت نشاطاً وفيراً وزاخراً.
رغم صفاء الجو وهدوء الحياة العامة من خلال فتح الحانات المكتظة بالرواد وخدمتهم في تقديم المشروبات الكحولية، ودور السينما التي استمرت في عرض أفلامها كالعادة، والمقاهي التي قامت بدورها في أفضل حالة وحركة الناس في ممارسة حياتهم الطبيعية وضجيج السيارات في الشوارع الجميلة، لكنها أعطت شعورا مزيفاً لحازم. فقد كان يشق على أعضاء الحزب ومؤازَريهم فهم ما كان يحدث لهم. وهناك مَنْ أدرك حجم الصدمة منذ زمن بعيد. أما بالنسبة لحازم ما زالت الصدمة حية في الذاكرة وتطلب التخلص من آثارها العميقة.
لم تعلم سهاد بأن لقاءها مع حازم في سوريا سيكون الأخير لها. عادت الى الوطن مع ولديها ماجد وعمر. والغريب موقف الاطفال بحجب الاسرار عن زيارتهم بعد ان نصحهم أبوهم بعدم ذكر أي شيء عن لقائهم.
سألتُ عمر:
عمر.. هل التقيت ابيك؟
نظر إلى دون ان ينبس ببنت شفة. ثم هز رأسه مشيراً، انه لم يلتق بابيه وكررت المحاولة مع ماجد كذلك الذي أنكر انه التقى بابيه. ولكن بعد ذلك علمت من اختي سهاد.
انطفأ ضوء النهار بعد ان غرق في سواد الليل، ولم تعد سهاد الى البيت بعدُ، حيث كانت تعيش معنا مع أطفاله بعد اختفاء حازم. فجأة ظهرت امامنا، وملامحها تكسوها غلالة صفراء، وكأن تياراً كهربائياً قد تسرب الى جسدها وهي ترتعد من الخوف. كانت ترتجف في مفاصلها، حيث قامت مجموعة من رجال الأمن بإرغامها على الركوب في سيارتهم واقتيادها بعد انتهاء دوامها الى مديرية الامن العامة، طالباً منها الإدلاء بمعلومات عن زوجها المختفي. وبعد إخلاء سبيلها، أوهمها الامن بان قرص التنصت قد وضع فعلاً في حديقة الدار لسماع ما تنقله لنا. تكررت هذه العملية عشرات المرات، وفي كل مرة طالبوها بالتعاون معهم وهددوها بالاعتداء الجنسي. وفي ذات مرة قال لها الضابط:
اسمعي زين. إذا ما تتعاونين ويانا. هسه ماجد موجود عدنا في الغرفة الأخرى وره هذا الباب.. نجيبه ونذبحه گدامج.
وفي يوم صيفي لاهب خرجت سهاد من العمل وإذا بها تلتقي وجهاً لوجه أمام رجل الأمن منتصبا، طالبا منها الركوب في السيارة:
سهاد تسأل بصوت واثق:
ليش.
اريد اسالج بعض الاسئلة
مو قبل أيام سألتوني واني گتلكم ما اعرف شي.
وأردفت قائلة:
بعدين انا دكتورة بالمستشفى وزوجي غائب وانتو يوميا واگفين بباب المستشفى. اشراح يگولون عليّ واني گاعدة ويا رجال غريب بالسيارة.. اشمدريهم انت رجل أمن.
يرد رجل الامن باستهتار:
شنو يعني كلج مرت مجرم هارب.
وفي صيف عام 1982 عاد حازم الى الوطن وانضم الى قوات الأنصار في جبال كردستان. في نفس العام، ذهب الى بغداد لأداء مهامه الحزبية في سرية تامة، إلا ان اقامته لم تدم طويلا هناك، حيث وصلت المعلومات الخاصة بوصوله الى جهاز الامن عبر وكلائه. لذلك شرعوا في التحري والبحث عن حازم.
شعر حازم بخطورة الموقف. عاد أدراجه ثانية الى جبال كردستان وكانت محطته في وادي بشت آشان.
يقع وادي بشت آشان عند سفح جبل قنديل. اتخذه الحزب مقرا له، بالرغم من عدم صلاحيته العسكرية، حيث لم يكن موقعا عسكريا محكما لعدم وجود تحصينات الكافية لمواجهة عدوان عسكري محتمل.
كانت مدفعية النظام تقصف المناطق المحيطة بشت اشان لمدة ثلاثة أيام قبل واحد ايار 1983. ومع ذلك لم تساور القيادة هناك الشكوك حول وجود استعدادات من قبل الجيش في شن هجوم مُرجّح على المنطقة.
استعد الأنصار لإقامة حفل بمناسبة الاول من ايار، يوم العمال العالمي، والربيع يتنفس غلواءً عذباً. وامتلأت الأجواء داخل المقر بأضواء الابتهاج للاحتفال بهذه المناسبة. حدث هذا في يوم 30 نيسان 1983. وفي هذا الوقت كانت قوافل من المرتزقة تنتقل عبر الجبال باتجاه موقع بشت آشان. خرجوا من جحورهم المظلمة ليرشوا سموم الغدر والخديعة، فغطوا تلك الأرض الخضراء بالدماء، مدعومين بقصف مدفعي من جيش النظام الذي قصف المنطقة تمهيدا لهجوم المرتزقة.
هناك ثمة عالم مشترك يتقاسمه المجرمون بغض النظر عن أفكارهم وتطلعاتهم المختلفة، وأن عالم تتحد فيه اللذة السادية، يكون هذا العالم في الغالب عالم الرذيلة والدناءة، وتصبح الخيانة السمة المشتركة بينهما.
باغتت المرتزقة الأنصار في موقع بشت آشان، تسللت مجموعة مسلحة إلى موقع قريب من المقر الرئيسي تحت جنح الظلام. اشتبكت القوة المتمركزة هناك مع المهاجمين واجبرتهم على التراجع. بينما لقي أحد الانصار مصرعه برصاص قناص على الفور، عندها تحققت لدى القيادة بوجود هجوم على المقر. في نفس الليلة بدأت مجموعة من القيادة في التراجع مع أنصار المسنين. واتخذت بقية الفصيل والمفارز موقفاً دفاعياً، ولكن من دون خطط جاهزة لصد أي عدوان مستقبلي- ظلوا متحصنين ومنتظرين-. استؤنف القتال في الصباح من جديد بعد ان تمكنت القوات المهاجمة من احتلال مواقع استراتيجية تمكنت من خلالها من إحكام السيطرة على تحركات الأنصار.
وتراجع الأنصار على أثرها باتجاه الجبال ليلا. وهناك انقسمت القوة إلى مجموعتين دون اتفاق مسبق. ربما بسبب الفوضى المفاجئة.
توجهت مجموعة واحدة باتجاه الجبال المغطاة بالثلوج الواقعة على الحدود الإيرانية، ومجموعة أخرى، التي ينتمي إليها حازم، لم تكن على دراية بممرات الطرق، توجهت الى الأراضي العراقية. كانت المنطقة تحت سيطرة المجموعات المهاجمة.
كانت المفاجأة فظيعة، فهناك من يحتضن الكراهية في اعماقه، وفكرة الانتقام راسخة في اذهانه. مهما اختلفت الاسماء في جوهر ذلك الفعل المشين، يبقى الانسان نفسه هو الضحية في النهاية. الأنصار نالهم الإرهاق والتعب والرهبة في خوض المجهول وهم يعبرون طرقاً مفروشة بالثلوج باتجاه قمم مجهولة. كان يوما حزينا. وتحت وطأة الأقدام تسمع ثمة انين ينبثق من الجليد، ريح باردة تهب، مصحوبة بصفير مفاجئ، وكأنه نذير الشؤم. أو مرثاة لفقدان ما لم يكن في الحسبان. كانوا يضطرون الى قضم الثلج ليروي ظمأهم، ولكن ذلك لم يخمد نار العطش. ظلت المجموعة في انسحابها القهقري على هذا المنوال.
كانت السماء المغبرة، تحدق وتترقب في صمت قاتم تلك الكائنات الشوهاء، المتعطشة للدماء، مثل الوحوش البرية. رجال متمرسون على خنق الحياة، تصب جام حقدها على كوكبة لامعة تجمعت في هذه البقعة النائية، طامحا من أجل بناء غد مشرق للناس بمن فيهم القتلة المهاجمون.
المعركة ما زالت مستمرة، والأنصار ينسحبون من مقراتهم عبر الطرق الوعرة، أنهكهم التعب والجوع، وليس لديهم من المعدات والعتاد الكافي للصمود. عدد المجاميع المهاجمة تتفوق عليهم بعشرات المرات، مضافاً الى الاسناد المدفعي من قبل جيش النظام، الذي زودهم بالمعدات والعتاد بوسائل نقل حديثة، الى جانب نقل جرحاهم بالسيارات الى المستشفيات الحكومية للعلاج.
كانت الأفراد المهاجمة تتقاطر من جحورها المكشوفة وتمر بحرية تحت أنظار القوات العسكرية الحكومية، قد حشدت أفراد عصاباتها بعناية واتخذت مواقع لها بطريقة ملفتة للنظر.
تتوزع المجموعات على القمم دون ان يثير ذلك أدني شك لدى قوات الأنصار حول أسباب هذا التجمع. كانوا يمرون عبر مقر الحزب، الذي قدم لهم الطعام والماء، دون أن يدركوا غايات الجياع أنهم كانوا يحملون في أعماقهم مشاعر الانتقام. هذه العمليات قد تم التخطيط لها بعناية فائقة في غرف الاجهزة القمعية.
وفي يوم 2 أيار طفَّفت الشمسُ، عندما وصلت القوة المنسحبة قوامها 73 نصيرا الى احدى القرى التي رفض سكانها بقاء الأنصار هناك، وطلبوا منهم المغادرة على الفور. يحصلون على بعض الطعام مقابل مبلغ من المال ومن ثم يطلبون من رجلين غريبين القيام بوظيفة الدليل كمرشدين للطريق.
الغسق يلملم وشاحه ويدخل في ليلة دهماء. يبدأ الأنصار بمغادرة القرية بصحبة الإدلاء باتجاه المجهول، ويبقى عامل القلق والحذر يسيطر على هواجس الأنصار في هذا الفضاء المفتوح، والسواد يغطي الكون. بدؤوا مسيرتهم المجهولة، تاركين القرية وراءهم وصعدوا الى قمم الجبال في ممرات غامضة يقودها رجلان لا يعرف الأنصار شيئاً عنهما.
بعد خمسة عشر دقيقة سيراً عن الاقدام، وصلوا الى منحدر باتجاه الوادي على مد البصر. وفجأة اختفى الرجلان عن الأنظار وكأنهما أشباح، فألقى بالفصيل في وادي الحيرة لجهل عناصره بمسارات الطريق. تلك العتمة في ظلمات الطريق، كانت توقظ الخوف المتزايد من اللامرئي. المنطقة تحت سيطرة المهاجمين. كان الموت يحوم في الوديان وشعاب الجبال او ربما يكمن خلف الصخور المنتشرة في الأرجاء.
بعد المسيرة الشاقة نزلوا الى الوادِ المحاط بجبلين شاهقين، وكأنه قدر كبير بلا غطاء. كانت هناك قرية مهجورة غارقة في الظلام اسمها كيولة بيوتها مهدمة بسبب القصف، وألقى الصمت ظلاله على المكان كمقبرة جاهزة..
بعد استراحة قليلة والتي كان الأنصار في أمس الحاجة إليها للتخلص من غبار مصاعب الطريق، شرعوا بإشعال النار لتجفيف ملابسهم المبللة ومنحهم قليلا من الدفء، حتى يتمكنوا بعدها أن يخلدوا إلى الراحة في هذه الليلة الباردة. وهنا هتف أحد الانصار بالقول:
رفاق هذا ليس من الصواب القيام بإشعال النار، الأضواء تكشف مواقعنا.
يشعر الانصار ان الظلام يمنعهم من إيجاد الطريق الصحيح، اضافة إلى الإرهاق الجسدي، لذلك اتفقوا على البقاء في القرية حتى الفجر وطلوع النهار. يتوزع الأنصار على البيوت ويبلغ عددها نحو تسع بيوت خربة.
يبدو ان الخبرات العسكرية لدى الأنصار وتجاربهم لم تكن كافية في مواجهة الأخطار. لم يخامرهم شعور بقيمة الحياة في ذلك الظرف الصعب، وكأنهم كانوا مستعدين للموت فقط.
عمليات التنسيق والشعور بدرء الخطر كانت معدومة، بحيث كلف نصير واحد ليحرس 72 شخص يغطون في النوم في قرية مهجورة مداخلها معروفة لدى المهاجمين. فالتعب قد نال منهم والنعاس كان يغلبهم.
لم يمض وقت طويل، بينما كان الحرس ينظر الى السماء، يتأمل النجوم الساهرة، ويتطلع الى طلائع الضياء فوق الجبل كخطوط بيضاء تؤطر حافات القمم. وإذا بأزيز الرصاص تهشم زجاج الصمت وتقع المجموعة في كمين المرتزقة وتندلع معركة غير متكافئة. كانت العصابات المهاجمة تمتلك اسلحة متطورة، من ناظور ليلي تمكنهم من رؤية الهدف عن بُعد كيلومترين، كما ان القناص كان بإمكانه إصابة هدفه بدقة دون ان يتعرض نفسه الى إطلاقات نارية.
قاوم حازم مع رفاقه الانصار وسقط جريحاً، بعد نفاد العتاد، كما سقط قتلى بين صفوف الأنصار، فيما وقع حازم في الأسر مع بعض من رفاقه، بعد ان خانته الجروح. قامت المرتزقة بإعدام الاسرى امام النساء، وظلّ حازم يتلوى على الأرض سابحا في دمه.
هؤلاء القتلة أسسوا حياتهم على العبث، لذلك وَلدت لديهم حالة الاحباط والانهيار الداخلي تجاه القناعات. فكان رد فعل أفراد العصابات المسلحة هو قتل الأسرى بدم بارد. القضية تكمن في عدم إدراكهم، أن هؤلاء الناس لم يأتوا من مسافات بعيدة ليقتلوا بيد مَنْ يقدمون لهم الدعم. وهذا هو جوهر البَون بين وعي الانسان وعقلانيته في الدفاع عن الحقوق المسلوبة وعبثية المسلحين في تسخير طاقاتهم من أجل العدم.
راحت الجماعات المعتدية تنقض على الأنصار ومن أنفاسهم تفوح رائحة الدم ومن وجوههم المتجهمة تنبثق سهام الانتقام الاعمى.
وقع حازم على الأرض بجسد مُضْنٍ، أمضى أفراد العصابة في جريمتهم بسحل جسده المدى والالم يئن في كل خلية من خلاياه دون الأخذ بنظر الاعتبار اصابته البليغة من جراء رصاصات الغدر أثناء وقوعه بالكمين، بل تمادوا في غيهم، حين قامت المرتزقة بسرقة أموال الحزب التي كانت بحوزته اولا ومن ثم ربطه بإحدى الأشجار التي اخذت بعضاً من أوراقها تتساقط احتجاجا على تلك الجريمة. طفقت العصابة المسلحة تتسلى في مراهنات ماكرة مع تصاعد ضحكاتهم المهينة، بعد ان جعلوا من جسده دريئة كما كانت القراصنة تفعل، يتبارون فيما بينهم بإطلاق الرصاص على جسده الضخم في أماكن محددة دون قتله مباشرة. بينما حازم كان ثابت الجنان، ومحافظاً على رباطة الجأش، قويا شامخا مرفوع الرأس أمام حفنة من قطاع الطرق.
كان حازم على وشك ان يفقد وعيه بينما تناهى إلى سمعه أصوات ترتفع ووقع خطى لأقدام كثيرة، وكأنها صوت حوافر البغال. شعر بأنفاس النهار ممزوجة بالدم، تمتص بهدوء آلام الليل الجريح لرفاق لازالت حياتهم على المحك وهم يشقون الدروب المتعذرة في رحلة الموت. ما أقسى ان يبقى الانسان في دوامة الرجاء والتأمل.
يضحك أحدهم بصوت عالٍ ويقول:
- فالنرسله إلى الجحيم الآن ونمزقه ببنادقنا اربا اربا..
تلك اللحظات قصار من حياته، كأنه يحمل الدهر على عاتقه. كانت رائحة عفنة تنتشر في الجو تفوح من جسد القتلة المأجورين أشد كآبة من تنفيذ الإعدام. يرفع حازم رأسه، وفجأة انسكب شعاع من عينيه، سقط على شاشة الحياة، فارتسمت لوحة كبيرة تظهر عليها سهاد واولادهما ماجد وعمر امام ناظريه مبتسمين وعلى وجوههم علامات الانتظار تشدهم الشوق الى اللقاء معا ولَمْ الشمل، وإذا بإشراقة مفعمة بابتسامة عريضة تملأ وجهه.
فتحوا النار من بنادقهم، أطلقوا بدقة نحو جسده الثابت، كانت تلك الرغبة المجنونة في الانتقام، قد محت من ذاكرة الضمير الإحساس بالقيم الأخلاقية والإنسانية. تلك الرصاصات أحدثت عشرات الثقوب في جسده الهامد التي راح يتدفق منها الدم كالنافورات المزينة بأضواء حمراء.
لم يتوقع حازم يوما ذلك الأسلوب ألسادي في سلب حياة انسان جاء مدافعاً عن قضيتهم، اقل ما يقال انه احقر لون من ألوان القتل.
تكاثف فوق مدينة عانة ضباب من الرماد، فاكتست هيئتها سيماء الحزن. وإذا بريح دافئة تهب من مسقط رأسه، تمر على المدن واحدة تلو الأخرى وتتخلل شعاب الجبال ووديانها لتصل إلى تلك الشجرة الباسقة والشاهدة على تلك البشاعة- موقع إعدام حازم- في قرية كيوله وهو يلتقط انفاسه الاخيرة، عابقا بكلمات الوداع الاخيرة متضوعاً بعطر الوفاء لقضية شعبه وأن التاريخ سوف يخلده الى الابد وان جريمة بشت اشان تبقى وصمة عار على جبين الإنسانية. وفي هذه اللحظة سكنت الريح وغابت الشمس وتمازجت أنفاسه في نسيم الليل.
كانت الأصوات المتداخلة وضحكات الرجال ترتفع بوتيرة عالية في جوٍ يسوده الانسجام والسرور، وقد ملأت اصواتهم غرفة الضيوف، هكذا تناهت الى سمعي عند دخولي المنزل. اختلست النظر من شق الباب لغرفة الضيوف، فانساب بريق رؤيتي على جمهرة من الرجال ببدلاتهم الرسمية، بدوا انيقين للغاية، بعضهم يرتدي نظارات طبية. بين تلك الجمهرة الواسعة لمحت أبي وأخي الكبير زاهر.
دلفت الى الغرفة المجاورة حيث كانت امي لوحدها جالسة على وشك انتهائها من حياكة الليفة التي وعدتني بها، سألتها:
من هم هؤلاء؟
قالت امي:
انهم هنا من اجل خطوبة أختك سهاد.
لأول مرة، ارى وميضاً من الرضا يشع من وجه اخي زاهر، الذي لطالما كان من أشد الرافضين لزواج سهاد، عندما يتقدم رجل ليطلب يدها.
وعندما خرجوا إلى فناء المنزل ألقيت التحية على الجميع، وإذا بحازم يتوجه نحوي ويمدّ يده للمصافحة وانا بدوري فعلت الشيء نفسه. شعرت بقبضته تشد راحتيَّ بكلتا يديه وابتسامة عريضة على شفتيه وقال:
انت نضال، أليس كذلك.
اكتفيت من الجواب عليه بإيماءة وابتسامة. كنت خجلا او أقدر اقول محرجاً. ولكن لاحظت من إمارات وجهه قطعة مبهجة طافحة بالحياة والانشراح.
كان قوي البنية ثقيل الجسم، متوسط القامة، باسم الثغر، شعره يميل الى اللون الذهبي، ذو وجه جاد وعينين واسعتين ذكيتين تشعان منهما انوار الصدق. كان في الخامسة والثلاثين من عمره. بالرغم من صفته المرحة الى حد الكوميديا، إلا انه كان عصبي المزاج نوعا ما.
كان من نوع الأشخاص الذين يحسنون ايجاد كلماتهم، كما انه كان يتمتع بسرعة البديهة، وسمح لنفسه بإطلاق نكات ساخرة في أوقات غير مناسبة، مما أوقعه أحيانا في مشاكل لا داعٍ لها.
قرروا عقد اجتماع حزبي في بيت رفيقة اسمها عالية. كانت الرفيقة على وشك تقديمه الى والدتها، التي كانت هائمة في المطبخ منغمسة في تنظيف السمك. دخلا معا على والدتها التي كانت تفوح من جسمها رائحة السمك، وبعد برهة. رفعت الوالدة رأسها حتى بادرت عالية بالقول:
ماما اقدملج حازم.
مدّ حازم يده مصافحا.
الوالدة سحبت يدها واعتذرت وقالت:
اسفة ايدي زفرة.
التفت حازم إلى الرفيقة وقال لها بسرعة:
لعد هاي انتِ طلعتِ بنت الزفرة؟ مع ضحكته المعتادة.
أغضبت مزاح حازم الأم بشدة. بينما حاولت الرفيقة ان توضح لوالدتها أن حازم يتمتع بروح الدعابة ولا يقصد الاساءة. وانتهى الأمر هذه المرة بسلام.
أصبح حازم نسيبي ونَمتْ علاقة متينة بيننا. لقد كان يحظى بشعبية كبيرة في عائلتنا بفضل قدرته الرائعة والمؤثرة على خلق البهجة والفرح لدى الجميع.
كان منزلهم في نفس منطقتنا يبعد عن منزلنا حوالي 300 متر مشياً على الأقدام. كنت دوما أزوره. وكنا نتبادل النكات والأحاديث الشيقة. احيانا كان يطلب مني ان اتركهم لوحدهم عندما تزوره بعض الضيوف طالبا مني ان اعود الى البيت. لم افهم في البداية ولكن علمت لاحقا بانها اجتماعات حزبية.
مع مرور الزمن عرفت عنه معلومات اخرى، بانه مناضل عنيد وكان من الضباط الأحرار. وخلال الانقلاب شباط الاسود، اقتيد حازم إلى سجن نكرة السلمان مع رفاقه الآخرين بما يسمى قطار الموت. هذا السجن كان عبارة عن منفى يقع في منطقة نائية صحراوية على الحدود العراقية السعودية في ناحية السلمان التابعة الى مدينة السماوة.
كان حازم المسؤول العسكري داخل الحزب وساهم بشكل فعلي في دعم وتطوير هذا القسم المهم من خلال نقل خبراته السابقة كضابط في الجيش. كما كان له مساهمات كبيرة في الحركة الطلابية.
بعد ان أفرغ النظام الجبهة من محتواها، لم يدرك حازم انه كان تحت المراقبة المشددة وأن عيون التربص تلاحق خطواته، بل ان ظله كان فعلا رهن الاعتقال.
وفي ذلك الصباح من عام 1978، كان الهواء بارد ليس كالمعتاد. بينما يسترخي سكان المنطقة من وطأة العمل الشاق، خرج حازم لشراء بعض ما تقتضي الحاجة لتناول فطور الصباح، لم يكن يعرف سبب ذلك الصمت الجنائزي في الطرقات وسكون تغاريد العصافير واختفاء حفيف الأوراق. وإذا بسور من رجال الأمن أحاطوا به من كل جهات، مطالبين منه عدم اثارة اية جلجلة وحثوه على ركوب السيارة، التي انطلقت به مسرعة باتجاه اقبية الامن العامة.
وبينما زوجته سهاد التي كانت حامل في الشهور الاولى تطعم ابنها ماجد الذي كان في عمر سنتين، اقتحمت رجال الأمن منزلهم بحثا عن ادلة اخرى. بعد التفتيش، وجدوا حقيبة سوداء متوسطة الحجم فيها بعض النقود وجواز السفر. تم مصادرتها، ثم غادروا المكان.
وفي اقبية الامن العامة جرت له حفلات التعذيب الوحشي بتعليقه بالمروحة السقفية من أرجله وبينما قفاه متدلى الى الأسفل. علاوة على استخدام الأساليب النفسية حينا والاغراء حينا آخر، بغية إخضاعه. وبعد فترة الانتهاء من طقوس التعذيب، اقتيد حازم الى ضابط التحقيق.
نظر المحقق الى حازم وقال بنبرة تصالح:
- اسمع يا ابو ماجد سأتحدث معك كأصدقاء. سوف اقترح عليك شيئاً مهماً سيفتح أبواب الجنة لك ولعائلتك.
ثم يتوقف للحظة عن الكلام وينظر إلى وجه حازم بابتسامة مصطنعة وكأنه ينوي الكشف عن ملامحه رداً على ما سيقوله، فيما نظر حازم اليه بعينين ثاقبتين وابتسامة عكست رفض هذه الإغراءات.
نحن على استعداد كامل لمنحك أي منصب تريده، باستثناء الوزير وما فوق بشرط ان تترك مجموعتك، ولا نطلب منك الانتماء إلينا.. وستتمتع بحياة أفضل من هذا الخراب، وخلاف ذلك سوف تعدم. لأن الحكم قد صدر فعلا بحقك ولم يبق إلا توقيع السيد الرئيس... ماذا تقول على هذا الاقتراح العظيم.
أجاب حازم دون تردد:
- اني ارفض العمل في أي وظيفة حكومية.
- هل تريد الموت...أم ماذا... ما الذي تتخيل سيحدث لك نتيجة رفضك؟ هل تتصور أننا نلعب معك؟
بعد تلك المحاولات العديدة معه، لم يرضخ حازم الى تلك الاغراءات، عندها شعر المحقق ان ضغوطاته لا تجدي نفعا. نادى على مساعديه:
- أعده الى زنزانته.
ظل حازم قيد الاعتقال لمدة ستة أشهر. لقد انجبت سهاد طفلهم الثاني الذي أطلق عليه اسم عمر وهو لا يزال في السجن.
تلقت سهاد رسالة خطية من حازم أثناء تواجده في السجن، رداً على رسالتها وهي تبشره بولادة طفلهما، حيث أشار حازم فيها على اتفاقهم على ان يكون اسمه عمر. وقد تم شطب العديد من عبارات الرسالة بالحبر الأسود.
وفي خارج البلاد خرجت مئات من أنصار الحزب في احتجاجات واسعة، مطالبين بالإفراج عن المعتقلين. كذلك الضغوطات من قبل الدول الاشتراكية.
وحال خروج حازم من السجن عام 1979، التقيت به، وأعربت عن سعادتي بخروجه حيا. سألته عن طرق الاستجواب والتعذيب. قال:
- الضابط كان شاب متحمس ويتحدث بحرفية. وأردف قائلا:
- اسمع يا حازم: سأقرأ كل المعلومات عنك. إذا قمت بإضافة شيء خاص بك. سأخبرك بانك كاذب.
واضاف:
- كانوا يعرفون عني كل ما ينبغي معرفته، بل كل تفاصيل حياتي، وحركاتي، ولقاءاتي، وحتى نوع وألوان الملابس التي ارتديها..
تلك الأحداث المتعاقبة التي تلت في تعرض قواعد الحزب الى مضايقات المستمرة اوشكت على ان تكون مصدر قلق دائم. فلا يشغله غير مصير الحزب الذي يمكن ان يتعرض لكارثة.
وفجأة تحولت عمليات الترهيب النفسي والمضايقات اليومية شيئا فشيئا الى رعب وذعر. وهذه الممارسات كانت إيذانا بانتهاء تلك الحقبة من العرس الوهمي الموشاة بوشاح ذهبي بإقامة هدف مشترك ينقل الوطن نحو مستقبل رغيد.
لقد باتت عمليات الاختفاء امراً محتوماً، وصار الفرار واقعا خياليا لا تراه إلا في الأحلام. تلك الهجمة الشرسة وضعت الانسان على الطريق للفرار الى المجهول.
في خضم الفوضى المفاجئة، أدى ذلك الى بعثرة التنظيمات وتفكك روابطها، مما أجبر الأعضاء على التحرك السريع وتحمل المسؤولية عن أنفسهم وإيجاد مخرج من قبضة النظام الدموي. بحيث انحصروا في زاوية التردد والشك، وانقسمت حياتهم بين القلق والثقة الضائعة.
لم يفكر الكثيرون في خطورة الموقف وأن البلايا قد تهبط عليهم بهذه السرعة دون اتخاذ الاحتياطات. لقد كان ذلك حلماً ثقيلاً وجلفاً، يزورهم في وضح النهار. الأمر كان في غاية الاهمية والخطورة ويتطلب اتخاذ القرار الصائب بكل عناية ومهارة. وكل يوم ينقضي، يدني من نهاية غير متوقعة.
بدت الأشياء وكأنها قد تم تخميرها بالفعل في غرف سرية بواسطة النظام. تم ذلك من خلال إحكام السيطرة على المؤسسات الأمنية والعسكرية. وكان ذلك اقراراً بفردية السلطة. شرع النظام بإعدام 32 انسان بتهمة العمل الحزبي داخل الجيش. وكان هذا عملاً خطيراً لم ينتبه إليه أصحاب القضية.
تفاقم الوضع الى حد التعقيد ترافق ذلك مع صعود متدفق ونمو متصاعد للحركة الجماهيرية، الأمر الذي أغضب النظام الذي سلك طريق الانفراد بالحكم بشكل علني. باشر في الاعتقالات والضغط باتجاه عزل الحزب عن محيطه الحقيقي بالتسبب في مشاكل بين حين والاخر والقيام بالاعتقالات بغية ترهيبهم. طفقت فترة اخرى أكثر صعوبة في الحياة السياسية والتي تحولت بمرور الزمن الى كابوس جاثم.
بعد ان تم الافراج عنه، ناقش حازم قضية العودة الى أحضان الحزب وتشكيلاته التنظيمية التي كانت بيئتها الحالية تشكل عقبة في طريق القيام بهذه المهمة. لم يكن أمامه من سبيل سوى مغادرة العراق، متوجها الى سوريا ليستجمع بقايا شتاته، بعد ان تحولت الحياة في هذا البلد الى سجن كبير، خُمدت فجأة تلك الحيوية الصارخة التي اوجدت نشاطاً وفيراً وزاخراً.
رغم صفاء الجو وهدوء الحياة العامة من خلال فتح الحانات المكتظة بالرواد وخدمتهم في تقديم المشروبات الكحولية، ودور السينما التي استمرت في عرض أفلامها كالعادة، والمقاهي التي قامت بدورها في أفضل حالة وحركة الناس في ممارسة حياتهم الطبيعية وضجيج السيارات في الشوارع الجميلة، لكنها أعطت شعورا مزيفاً لحازم. فقد كان يشق على أعضاء الحزب ومؤازَريهم فهم ما كان يحدث لهم. وهناك مَنْ أدرك حجم الصدمة منذ زمن بعيد. أما بالنسبة لحازم ما زالت الصدمة حية في الذاكرة وتطلب التخلص من آثارها العميقة.
لم تعلم سهاد بأن لقاءها مع حازم في سوريا سيكون الأخير لها. عادت الى الوطن مع ولديها ماجد وعمر. والغريب موقف الاطفال بحجب الاسرار عن زيارتهم بعد ان نصحهم أبوهم بعدم ذكر أي شيء عن لقائهم.
سألتُ عمر:
عمر.. هل التقيت بابيك؟
نظر إلى دون ان ينبس ببنت شفة. ثم هز رأسه مشيراً، انه لم يلتق بابيه وكررت المحاولة مع ماجد كذلك الذي أنكر انه التقى بابيه. ولكن بعد ذلك علمت من اختي سهاد.
انطفأ ضوء النهار بعد ان غرق في سواد الليل، ولم تعد سهاد الى البيت بعدُ، حيث كانت تعيش معنا مع أطفاله بعد اختفاء حازم. فجأة ظهرت امامنا، وملامحها تكسوها غلالة صفراء، وكأن تياراً كهربائياً قد تسرب الى جسدها وهي ترتعد من الخوف. كانت ترتجف في مفاصلها، حيث قامت مجموعة من رجال الأمن بإرغامها على الركوب في سيارتهم واقتيادها بعد انتهاء دوامها الى مديرية الامن العامة، طالباً منها الإدلاء بمعلومات عن زوجها المختفي. وبعد إخلاء سبيلها، أوهمها الامن بان قرص التنصت قد وضع فعلاً في حديقة الدار لسماع ما تنقله لنا. تكررت هذه العملية عشرات المرات، وفي كل مرة طالبوها بالتعاون معهم وهددوها بالاعتداء الجنسي. وفي ذات مرة قال لها الضابط:
اسمعي زين. إذا ما تتعاونين ويانا. هسه ماجد موجود عدنا في الغرفة الأخرى وره هذا الباب.. نجيبه ونذبحه گدامج.
وفي يوم صيفي لاهب خرجت سهاد من العمل وإذا بها تلتقي وجهاً لوجه أمام رجل الأمن منتصبا، طالبا منها الركوب في السيارة:
سهاد تسأل بصوت واثق:
ليش.
اريد اسالج بعض الاسئلة
مو قبل أيام سألتوني واني گتلكم ما اعرف شي.
وأردفت قائلة:
بعدين انا دكتورة بالمستشفى وزوجي غائب وانتو يوميا واگفين بباب المستشفى. اشراح يگولون عليّ واني گاعدة ويا رجال غريب بالسيارة.. اشمدريهم انت رجل أمن.
يرد رجل الامن باستهتار:
شنو يعني كلج مرت مجرم هارب.
وفي صيف عام 1982 عاد حازم الى الوطن وانضم الى قوات الأنصار في جبال كردستان. في نفس العام، ذهب الى بغداد لأداء مهامه الحزبية في سرية تامة، إلا ان اقامته لم تدم طويلا هناك، حيث وصلت المعلومات الخاصة بوصوله الى جهاز الامن عبر وكلائه. لذلك شرعوا في التحري والبحث عن حازم.
شعر حازم بخطورة الموقف. عاد أدراجه ثانية الى جبال كردستان وكانت محطته في وادي بشت آشان.
يقع وادي بشت آشان عند سفح جبل قنديل. اتخذه الحزب مقرا له، بالرغم من عدم صلاحيته العسكرية، حيث لم يكن موقعا عسكريا محكما لعدم وجود تحصينات الكافية لمواجهة عدوان عسكري محتمل.
كانت مدفعية النظام تقصف المناطق المحيطة بشت اشان لمدة ثلاثة أيام قبل واحد ايار 1983. ومع ذلك لم تساور القيادة هناك الشكوك حول وجود استعدادات من قبل الجيش في شن هجوم مُرجّح على المنطقة.
استعد الأنصار لإقامة حفل بمناسبة الاول من ايار، يوم العمال العالمي، والربيع يتنفس غلواءً عذباً. وامتلأت الأجواء داخل المقر بأضواء الابتهاج للاحتفال بهذه المناسبة. حدث هذا في يوم 30 نيسان 1983. وفي هذا الوقت كانت قوافل من المرتزقة تنتقل عبر الجبال باتجاه موقع بشت آشان. خرجوا من جحورهم المظلمة ليرشوا سموم الغدر والخديعة، فغطوا تلك الأرض الخضراء بالدماء، مدعومين بقصف مدفعي من جيش النظام الذي قصف المنطقة تمهيدا لهجوم المرتزقة.
هناك ثمة عالم مشترك يتقاسمه المجرمون بغض النظر عن أفكارهم وتطلعاتهم المختلفة، وأن عالم تتحد فيه اللذة السادية، يكون هذا العالم في الغالب عالم الرذيلة والدناءة، وتصبح الخيانة السمة المشتركة بينهما.
باغتت المرتزقة الأنصار في موقع بشت آشان، تسللت مجموعة مسلحة إلى موقع قريب من المقر الرئيسي تحت جنح الظلام. اشتبكت القوة المتمركزة هناك مع المهاجمين واجبرتهم على التراجع. بينما لقي أحد الانصار مصرعه برصاص قناص على الفور، عندها تحققت لدى القيادة بوجود هجوم على المقر. في نفس الليلة بدأت مجموعة من القيادة في التراجع مع أنصار المسنين. واتخذت بقية الفصيل والمفارز موقفاً دفاعياً، ولكن من دون خطط جاهزة لصد أي عدوان مستقبلي- ظلوا متحصنين ومنتظرين-. استؤنف القتال في الصباح من جديد بعد ان تمكنت القوات المهاجمة من احتلال مواقع استراتيجية تمكنت من خلالها من إحكام السيطرة على تحركات الأنصار.
وتراجع الأنصار على أثرها باتجاه الجبال ليلا. وهناك انقسمت القوة إلى مجموعتين دون اتفاق مسبق. ربما بسبب الفوضى المفاجئة.
توجهت مجموعة واحدة باتجاه الجبال المغطاة بالثلوج الواقعة على الحدود الإيرانية، ومجموعة أخرى، التي ينتمي إليها حازم، لم تكن على دراية بممرات الطرق، توجهت الى الأراضي العراقية. كانت المنطقة تحت سيطرة المجموعات المهاجمة.
كانت المفاجأة فظيعة، فهناك من يحتضن الكراهية في اعماقه، وفكرة الانتقام راسخة في اذهانه. مهما اختلفت الاسماء في جوهر ذلك الفعل المشين، يبقى الانسان نفسه هو الضحية في النهاية. الأنصار نالهم الإرهاق والتعب والرهبة في خوض المجهول وهم يعبرون طرقاً مفروشة بالثلوج باتجاه قمم مجهولة. كان يوما حزينا. وتحت وطأة الأقدام تسمع ثمة انين ينبثق من الجليد، ريح باردة تهب، مصحوبة بصفير مفاجئ، وكأنه نذير الشؤم. أو مرثاة لفقدان ما لم يكن في الحسبان. كانوا يضطرون الى قضم الثلج ليروي ظمأهم، ولكن ذلك لم يخمد نار العطش. ظلت المجموعة في انسحابها القهقري على هذا المنوال.
كانت السماء المغبرة، تحدق وتترقب في صمت قاتم تلك الكائنات الشوهاء، المتعطشة للدماء، مثل الوحوش البرية. رجال متمرسون على خنق الحياة، تصب جام حقدها على كوكبة لامعة تجمعت في هذه البقعة النائية، طامحا من أجل بناء غد مشرق للناس بمن فيهم القتلة المهاجمون.
المعركة ما زالت مستمرة، والأنصار ينسحبون من مقراتهم عبر الطرق الوعرة، أنهكهم التعب والجوع، وليس لديهم من المعدات والعتاد الكافي للصمود. عدد المجاميع المهاجمة تتفوق عليهم بعشرات المرات، مضافاً الى الاسناد المدفعي من قبل جيش النظام، الذي زودهم بالمعدات والعتاد بوسائل نقل حديثة، الى جانب نقل جرحاهم بالسيارات الى المستشفيات الحكومية للعلاج.
كانت الأفراد المهاجمة تتقاطر من جحورها المكشوفة وتمر بحرية تحت أنظار القوات العسكرية الحكومية، قد حشدت أفراد عصاباتها بعناية واتخذت مواقع لها بطريقة ملفتة للنظر.
تتوزع المجموعات على القمم دون ان يثير ذلك أدني شك لدى قوات الأنصار حول أسباب هذا التجمع. كانوا يمرون عبر مقر الحزب، الذي قدم لهم الطعام والماء، دون أن يدركوا غايات الجياع أنهم كانوا يحملون في أعماقهم مشاعر الانتقام. هذه العمليات قد تم التخطيط لها بعناية فائقة في غرف الاجهزة القمعية.
وفي يوم 2 أيار طفَّفت الشمسُ، عندما وصلت القوة المنسحبة قوامها 73 نصيرا الى احدى القرى التي رفض سكانها بقاء الأنصار هناك، وطلبوا منهم المغادرة على الفور. يحصلون على بعض الطعام مقابل مبلغ من المال ومن ثم يطلبون من رجلين غريبين القيام بوظيفة الدليل كمرشدين للطريق.
الغسق يلملم وشاحه ويدخل في ليلة دهماء. يبدأ الأنصار بمغادرة القرية بصحبة الإدلاء باتجاه المجهول، ويبقى عامل القلق والحذر يسيطر على هواجس الأنصار في هذا الفضاء المفتوح، والسواد يغطي الكون. بدؤوا مسيرتهم المجهولة، تاركين القرية وراءهم وصعدوا الى قمم الجبال في ممرات غامضة يقودها رجلان لا يعرف الأنصار شيئاً عنهما.
بعد خمسة عشر دقيقة سيراً عن الاقدام، وصلوا الى منحدر باتجاه الوادي على مد البصر. وفجأة اختفى الرجلان عن الأنظار وكأنهما أشباح، فألقى بالفصيل في وادي الحيرة لجهل عناصره بمسارات الطريق. تلك العتمة في ظلمات الطريق، كانت توقظ الخوف المتزايد من اللامرئي. المنطقة تحت سيطرة المهاجمين. كان الموت يحوم في الوديان وشعاب الجبال او ربما يكمن خلف الصخور المنتشرة في الأرجاء.
بعد المسيرة الشاقة نزلوا الى الوادِ المحاط بجبلين شاهقين، وكأنه قدر كبير بلا غطاء. كانت هناك قرية مهجورة غارقة في الظلام اسمها كيولة بيوتها مهدمة بسبب القصف، وألقى الصمت ظلاله على المكان كمقبرة جاهزة..
بعد استراحة قليلة والتي كان الأنصار في أمس الحاجة إليها للتخلص من غبار مصاعب الطريق، شرعوا بإشعال النار لتجفيف ملابسهم المبللة ومنحهم قليلا من الدفء، حتى يتمكنوا بعدها أن يخلدوا إلى الراحة في هذه الليلة الباردة. وهنا هتف أحد الانصار بالقول:
- رفاق هذا ليس من الصواب القيام بإشعال النار، الأضواء تكشف مواقعنا.
يشعر الانصار ان الظلام يمنعهم من إيجاد الطريق الصحيح، اضافة إلى الإرهاق الجسدي، لذلك اتفقوا على البقاء في القرية حتى الفجر وطلوع النهار. يتوزع الأنصار على البيوت ويبلغ عددها نحو تسع بيوت خربة.
يبدو ان الخبرات العسكرية لدى الأنصار وتجاربهم لم تكن كافية في مواجهة الأخطار. لم يخامرهم شعور بقيمة الحياة في ذلك الظرف الصعب، وكأنهم كانوا مستعدين للموت فقط.
عمليات التنسيق والشعور بدرء الخطر كانت معدومة، بحيث كلف نصير واحد ليحرس 72 شخص يغطون في النوم في قرية مهجورة مداخلها معروفة لدى المهاجمين. فالتعب قد نال منهم والنعاس كان يغلبهم.
لم يمض وقت طويل، بينما كان الحرس ينظر الى السماء، يتأمل النجوم الساهرة، ويتطلع الى طلائع الضياء فوق الجبل كخطوط بيضاء تؤطر حافات القمم. وإذا بأزيز الرصاص تهشم زجاج الصمت وتقع المجموعة في كمين المرتزقة وتندلع معركة غير متكافئة. كانت العصابات المهاجمة تمتلك اسلحة متطورة، من ناظور ليلي تمكنهم من رؤية الهدف عن بُعد كيلومترين، كما ان القناص كان بإمكانه إصابة هدفه بدقة دون ان يتعرض نفسه الى إطلاقات نارية.
قاوم حازم مع رفاقه الانصار وسقط جريحاً، بعد نفاد العتاد، كما سقط قتلى بين صفوف الأنصار، فيما وقع حازم في الأسر مع بعض من رفاقه، بعد ان خانته الجروح. قامت المرتزقة بإعدام الاسرى امام النساء، وظلّ حازم يتلوى على الأرض سابحا في دمه.
هؤلاء القتلة أسسوا حياتهم على العبث، لذلك وَلدت لديهم حالة الاحباط والانهيار الداخلي تجاه القناعات. فكان رد فعل أفراد العصابات المسلحة هو قتل الأسرى بدم بارد. القضية تكمن في عدم إدراكهم، أن هؤلاء الناس لم يأتوا من مسافات بعيدة ليقتلوا بيد مَنْ يقدمون لهم الدعم. وهذا هو جوهر البَون بين وعي الانسان وعقلانيته في الدفاع عن الحقوق المسلوبة وعبثية المسلحين في تسخير طاقاتهم من أجل العدم.
راحت الجماعات المعتدية تنقض على الأنصار ومن أنفاسهم تفوح رائحة الدم ومن وجوههم المتجهمة تنبثق سهام الانتقام الاعمى.
وقع حازم على الأرض بجسد مُضْنٍ، أمضى أفراد العصابة في جريمتهم بسحل جسده المدمى والالم يئن في كل خلية من خلاياه دون الأخذ بنظر الاعتبار اصابته البليغة من جراء رصاصات الغدر أثناء وقوعه بالكمين، بل تمادوا في غيهم، حين قامت المرتزقة بسرقة أموال الحزب التي كانت بحوزته اولا ومن ثم ربطه بإحدى الأشجار التي اخذت بعضاً من أوراقها تتساقط احتجاجا على تلك الجريمة. طفقت العصابة المسلحة تتسلى في مراهنات ماكرة مع تصاعد ضحكاتهم المهينة، بعد ان جعلوا من جسده دريئة كما كانت القراصنة تفعل، يتبارون فيما بينهم بإطلاق الرصاص على جسده الضخم في أماكن محددة دون قتله مباشرة. بينما حازم كان ثابت الجنان، ومحافظاً على رباطة الجأش، قويا شامخا مرفوع الرأس أمام حفنة من قطاع الطرق.
كان حازم على وشك ان يفقد وعيه بينما تناهى إلى سمعه أصوات ترتفع ووقع خطى لأقدام كثيرة، وكأنها صوت حوافر البغال. شعر بأنفاس النهار ممزوجة بالدم، تمتص بهدوء آلام الليل الجريح لرفاق لازالت حياتهم على المحك وهم يشقون الدروب المتعذرة في رحلة الموت. ما أقسى ان يبقى الانسان في دوامة الرجاء والتأمل.
يضحك أحدهم بصوت عالٍ ويقول:
- فالنرسله إلى الجحيم الآن ونمزقه ببنادقنا اربا اربا..
تلك اللحظات قصار من حياته، كأنه يحمل الدهر على عاتقه. كانت رائحة عفنة تنتشر في الجو تفوح من جسد القتلة المأجورين أشد كآبة من تنفيذ الإعدام. يرفع حازم رأسه، وفجأة انسكب شعاع من عينيه، سقط على شاشة الحياة، فارتسمت لوحة كبيرة تظهر عليها سهاد واولادهما ماجد وعمر امام ناظريه مبتسمين وعلى وجوههم علامات الانتظار تشدهم الشوق الى اللقاء معا ولَمْ الشمل، وإذا بإشراقة مفعمة بابتسامة عريضة تملأ وجهه.
فتحوا النار من بنادقهم، أطلقوا بدقة نحو جسده الثابت، كانت تلك الرغبة المجنونة في الانتقام، قد محت من ذاكرة الضمير الإحساس بالقيم الأخلاقية والإنسانية. تلك الرصاصات أحدثت عشرات الثقوب في جسده الهامد التي راح يتدفق منها الدم كالنافورات المزينة بأضواء حمراء.
لم يتوقع حازم يوما ذلك الأسلوب ألسادي في سلب حياة انسان جاء مدافعاً عن قضيتهم، اقل ما يقال انه احقر لون من ألوان القتل.
تكاثف فوق مدينة عانة ضباب من الرماد، فاكتست هيئتها سيماء الحزن. وإذا بريح دافئة تهب من مسقط رأسه، تمر على المدن واحدة تلو الأخرى وتتخلل شعاب الجبال ووديانها لتصل إلى تلك الشجرة الباسقة والشاهدة على تلك البشاعة- موقع إعدام حازم- في قرية كيوله وهو يلتقط انفاسه الاخيرة، عابقا بكلمات الوداع الاخيرة متضوعاً بعطر الوفاء لقضية شعبه وأن التاريخ سوف يخلده الى الابد وان جريمة بشت اشان تبقى وصمة عار على جبين الإنسانية. وفي هذه اللحظة سكنت الريح وغابت الشمس وتمازجت أنفاسه في نسيم الليل.
التعديل الأخير: