حاميد اليوسفي
كاتب
ليلة القدر
قصة قصيرة
حاميد اليوسفي
خاطت له عمته (قشابة* بيضاء) رفقة أبنائها ليتزين بها ليلة القدر . حدث ذلك منذ زمن بعيد . صام يومين متتالين ، رغم أنه لم يلحق عليه رمضان بعد . من شدة الفرح لم يتناول سوى القليل من طعام الفطور . ترقّب على أحر من الجمر آذان العشاء ، ليذهب إلى المسجد رفقة أبناء عمته . خرج من المرحاض ، وأتمّ الوضوء وسط المنزل . الليلة أقدس أيام رمضان . سمع أكثر من مرة الكبار يرددون بأن القرآن الكريم جعلها خيرا من ألف شهر . وبأن إقامة الصلاة من العشاء إلى الفجر في الليالي الثلاث الأخيرة من شهر رمضان قد يظهر في إحداها سيدنا (قدر) في جمع من الملائكة ، وهي الليلة التي تُفرق فيها الأرزاق . ويا سعد من يتمكن من رؤيتهم ! تُفتح له أبواب الجنة يوم القيامة من غير حساب . قد يراهم في اليقظة أو في الطريق ، وقد تكون الرؤية في المسجد أحسن وأغزر أجرا .
مسجد باب دكالة مسجد كبير ، يؤدي فيه الصلاة أغلب سكان الحومة من الدروب المجاورة . قيل بأنه بنته عودة الوزكيطية أم المنصور الذهبي كفّارة لما انتهكته من حرمة رمضان ، حين دخلت أحد بساتينها وهي في حال وحم ، فتناولت خوخا ورمانا ، وأكلت منهما ، ثم ندمت على ذلك ، و طلبت المغفرة من الله تعالى . وقامت بصرف أموالها على أعمال البر ، ومنها بناء هذا الجامع الذي سيدخله لأول مرة في هذه الليلة المباركة . جذبته رائحة البخور . انتابه إحساس بهيبة المكان ، والخوف مما قد يحدث في هذه الليلة المقدسة التي يظهر فيها سيدنا (قدر) وينشط السحرة والشياطين أيضا .
جلس رفقة أبناء عمته في وسط قبة الصلاة . الفضاء لم يمتلئ بعد بالناس . وضع نعليه على يساره بجانب السارية . سرقته جمالية الأقواس والنقوش والزخرفة على الجبص للحظات . وشرع يتخيل بين ثناياها ظهور الملائكة يتوسطهم (سيدنا قدر) في هيئة شيخ وقور بلحية طويلة وشعر أشيب ، يرتدي عمامة وثيابا ناصعة البياض ، وينبعث من وجهه نور شديد يحجب ملامحه حسب الأوصاف التي سمعها من الكبار .
اختلط عليه الأمر . سأل نفسه هل (سيدنا قدر) هو جبريل عليه السلام ؟ ولو حظي برؤيته وسط الملائكة الآن ماذا سيقول له ؟ أو ماذا سيطلب منه ؟ وكيف تُفرق الأرزاق ؟ وهل يصح له أن يحدثه ؟ وبأي لغة ؟ وهل يرفع صوته ، أم يهمس بما يتمناه ؟ كيف نسي أن يسأل الكبار عن هذه التفاصيل الدقيقة ؟ ولماذا لم يتبادلوا الحديث عنها أمامه ؟
قطعت عليه إقامة الصلاة تساؤلاته . تقدم الإمام ، وبدأ يقرأ الفاتحة ، وسورة قصيرة بالجهر . قامته الصغيرة لم تسمح له برؤية ما يجري في الصفوف الأمامية . ركع المصلون خلف الإمام وردد معهم : الله أكبر .
رفع الإمام ركوعه، وردد مع الناس خلفه : ربنا ولك الحمد .
أثناء السجود حصل ما لم يكن في الحسبان . دخل جماعة من الأطفال ، يسكنون بأحد الدروب القريبة من المسجد ، يتزعمهم الأخ الأصغر لأحد فتوات الحي . خطف نعلي أحد المصلين ، وفر بين سواري المسجد ، وتبعه الرجل يجري من خلفه . توقف رفقة أبناء عمته عن الصلاة ، والتفتوا ناحية الأبواب الخلفية . لم يسبق لهم أن رأوا منظرا من هذا القبيل . أخذتهم نوبة من الضحك . حاولوا كتمها ، لكن دون جدوى . الطريقة التي يطارد بها الرجل الأطفال الشياطين ، فجرت ضحكهم . يراوغونه بين السواري . يجمع الأطراف الأمامية ل(قشابته) بأسنانه ، ينزلق ، ويسقط أرضا ، ثم ينهض ، ويتابع الجري حتى يصل إلى باب المسجد . بعد تجاوز الصحن رمى له متزعمهم نعليه ، وخرجوا إلى الشارع وتفرقوا في اتجاهات مختلفة حتى لا يستمر في مطاردتهم .
قام أحد المصلين بتعنيف الطفل ، وضرب أحد أبناء عمته على مؤخرته برجله ، وهو يشتم ويُرغد ويُزبد . لم يشفع لهم صغر سنهم . خرجوا بسرعة من المسجد حتى لا يتعرضوا لمزيد من الأذى .
لم يقم الصلاة حتى الفجر . لم يعد إلى المسجد في اليومين المواليين . ضاعت عليه الفرصة . ربما ستغضب الملائكة لما حدث في المسجد . لن يدخل الجنة رفقة أبناء عمته بأعين مغمضة كما وعده الكبار .
المعجم :
(*قشابة : لباس تقليدي من ثوب خفيف يشبه الجلباب بلا (قب) ولا أكمام )
مراكش (المغرب) 01 ـ 05 ـ 2019