محمد بن ربيع الغامدي
كاتب
صعدت إليه في مكتبه والترقب يملأ جوانحي، طرقت الباب، جاء صوته مثل صوت ضبع متخم: تفضل. دخلت ولم أجلس، بقيت واقفا إلى أن يأذن لي بالجلوس. يغضب كثيرا إذا جلس الموظف قبل أن يأذن له وهذه ملعنة أَلِفْنَاها منه، ليست الوحيدة ولكنها واحدة من كثير. قال: أجلس. جلست، توجهت إليه، أرهفت سمعي جيدا ولم ينبس ببنت شفه. ظل مستغرقا في مطالعة هاتفه الجوال، ابتسم ثم عبس وبسر، عبس وبسر ثم ابتسم وهكذا هو واتس أب. واتس أب يحرك عجائن وجوهنا، يشكلها كيفما شاء، يسرقنا من أماكننا ويحلّق بنا بعيدا عنها، يضحكنا ويبكينا من غير أن نتحرّك قيد أنملة. نظرت إليه وهو على حاله، تمنيت لو خطفت هاتفه الجوال من يده وقذفت به إلى الشارع.
سألني ونظراته الصارمة تتوغل في رأسي: أين كنت الساعة العاشرة وإحدى عشرة دقيقة من يوم الاثنين الثامن من مايو؟ لم يكن سؤاله مفاجئا فما أكثر ما يطرق سمعي هذا السؤال، أين كنت الساعة الفلانية من اليوم الفلاني من الشهر الفلاني. رفعت رأسي وقلت له: مايو؟ قال: مايو. قالها وأضاف: هذا ليس من عندي، هذا كتبه المفتش الإداري، لا شك أنّه قد زارك على مكتبك خلال جولته التفتيشية فلم يجدك هناك وعليك أن تجيب على سؤاله. سكتّ ولم أحر جوابا، قلت لنفسي: هم يعتقدون أنّنا نسجل ما نفعله في كل دقيقة من دقائق يومنا الوظيفي، لو علموا أن الواحد منّا ينسى عشاءه بمجرد أن ينام لما سألوا، ضحكت في داخلي أيضا وقلت: يوم الاثنين الثامن من مايو.
ذكّرني مدير اللعنة بالسؤال ثانية، قال لم تجب. قلت له: يا سيّدي المدير نحن الان في شهر أغسطس وقد فارقنا مايو منذ فترة طويلة، ضحكت ثم واصلت: لقد نسيت عشاءي ليلة البارحة فكيف أتذكر غيابا حدث منذ أشهر وربما كان وجيزا قضيته في الحمام أو في الأرشيف أو في أي مكان داخل العمل. اسند ظهره على ظهر الكرسي، ازورّ عني، انصرفت نظراته نحو النافذة، قال لي من طرف فمه: هذه سخرية، بل ومريرة أيضا، تسخر مني ومن المفتش ومن النظام العام للإدارة. اعترتني حالة خذلان وخفت من غضبته، قلت له: لم أسخر يا سيدي وأقسم لك. رمى بورقة المساءلة على سطح مكتبه واعتدل في جلسته. قال بثقة: بل تسخر وتسخر، كل المفتشين والمراقبين قد اكتووا بنار سخريتك، هذه المساءلة وردك عليها ستحفظ في سجلك.
خرجت وأنا أتمتم في صدري: إلى الجحيم أنت وهذا السجل البائس، تذكرت الزجاج العاكس فقلت: ليته هذا المدير يقع في يدي، وصلت مكتبي، جلست وبقايا من سؤال مايو تضج بالضحك في أعماقي. واصلت حديثي مع نفسي: هذا المدير الأهبل يسأل عن مايو في أغسطس، ليته يقع في يدي، ليتني أقتنص منه فعلا مشينا من وراء الزجاج العاكس كما فعلت مع كثيرين. ما أحببت اختراعا في حياتي حبي لذلك النوع من الزجاج العاكس، الزجاج المظلل الذي يسميه البعض أراك ولا تراني، ترى الكون كله من خلف ذلك الزجاج ولا يراك أحد، تهتك أسرار الناس وأستارهم دون أن يلحق بك أذى، هي الصدفة وحدها أخذت بيدي إلى هذا المسلك الشائن ولكن ليس باليد حيلة، ماذا تفعل مع من يؤذيك وليس لك من قوة تدرأ بطشه؟
اعتقدت طويلا أن خبراء الزجاج ما اخترعوا زجاجهم ذلك الا من أجلي، تقديرا لحاجتي إلى اختراق جباه الناس مثلما يفعلون معي، يخترقون جبهتي بلا رحمة، يستندون إلى قوة غاشمة وأستند إلى هذا الزجاج العاكس، منحة العناية السماوية لضعفي وقلّة حيلتي. أسترق النظر على أي كائن حي يقع تحت عيني، أسترق السمع على أي كائن حي يقع تحت سمعي. أتعبني هذا الولع كثيرا، أتعبني بالفعل لكنه سلاحي على كل حال، مرض عضال ليس له من علاج لكنه ممتع جدا ومفيد جدا، غيّرت من أجله نوافذ بيتي ونوافذ سيارتيّ، الكبيرة والصغيرة، أراهم ولا يروني، أقتنص منهم سلوكا ثم أزرعه مثل الدمّل في نفوسهم، فإذا ضعفوا تحت يدي ضربت على سطوتهم سياجا من حديد ونحاس.
أنصب حاجب الشمس خلف زجاج السيارة الأمامي فهو زجاج شفاف لا يقبل التغيير، أنصب ذلك الحاجب المعتم قبل كل شيء ليمنع رؤية ما يحدث داخل السيّارة ثم انتقل بعدئذ إلى المرتبة الخلفية، أجلس خلف زجاجها العاكس فأرى العجب العجاب، أقضي كل أوقات فراغي هناك. شاب على سبيل المثال من بين عشرات وقعوا في فخ زجاجي العاكس، يقف أمام وجهي مباشرة، يستخدم زجاج سيارتي كمرآة، يمكّن عمامته وعقاله، يشدهما ذات اليمين ويردهما ذات الشمال، يمط شفتيه مطا ويعضها عضا لتبدو حمراء مكتنزة، يفرك أنفه فركا ويسحبه للأعلى وللأسفل لهدف لا أعرفه. وكم فتحت الزجاج نذالة وضحاياي على تلك الحالة فتتناثر وجوهم على الأرض كما تتناثر حبات المسبحة. ما أقواك عندما يضعف الناس تحتك، ما أعلى قامتك ولو كنت قزما عندما تتقاصر قاماتهم تحتك، ما أقوى عينك وما أحدّها عندما تنكسر عيونهم أمام عينيك.
وقف أمامي ذات يوم إمام الحي، إمام الحي بشحمه ولحمه ولحيته الكثّة وشاربه المحلوق بإصرار لا هوادة فيه. ثوبه إلى منتصف ساقيه وعمامته على رأسه من غير عقال كأنما هوت بها الريح فوقه، وقف أمامي مباشرة دون أن يراني، أخرج من جوربه الأيمن سيجارة، أشعلها بولاعة كانت مخبأة في جوربه الأيسر. هالني ما رأيت، عَقَدَتْ الدهشة لساني وكل لحمة غضة في جسمي، فَغَرْتُ فمي وسألت نفسي: أهذا هو الذي حطّم طبق الستالايت وطوّح به بعيداً؟ طبق الستالايت الذي اشتريته بمالي ولم أسرقه من أحد، طبق الستالايت الذي وضعته فوق بيتي ولم أضعه على بيت أحد غيري، أيدخّن هذا الكذاب وهو الذي صادر علبة سجائري؟ صادرها وضربني عندما أمسك بي وأنا أدخن. كنت أدخن بمحض إرادتي دون إغواء من أحد فمن أباح له أن يضربني ويصادر سجائري؟
سحب من السيجارة نَفَسين فقط، نفسين لا ثالث لهما، ولقوة السّحب كادت أن تشتعل النار على أطرافها. قضى على نصف السيجارة في النَفَس الأول وقضى على نصفها الثاني في النَفَس الثاني ثم داس على العقب. عندما همّ بالتهام قطعة من علك النعناع فتحت الزجاج، نظر إليّ مفزوعا ثم أخذ يتداخل في بعضه ويتقاصر كما يتقاصر هوائي الراديو او كما يتقاصر تلسكوب من ذوات العين الواحدة، تقاصر حتى تقزّم ثم لاذ بالفرار لا أرى إلا تقلب مؤخرته السمينة. كنت أتذكر هذا وأنا أضحك على مكتبي، لم أنتبه إلا وزميلي يَكِزُنِي في كتفي بشدة. اعتدلت في مكاني واعتذرت منه لهذا الشرود الذي غشاني بعد سؤال مايو العجيب، ضحك زميلي وضحكت معه أساريري فقد وَجَدْتُ من يشبهني.
أسرّ لي زميلي بسرّ خطير، قال لي دعك من الزجاج العاكس، نبهني إلى الاهتمام بمسألة الأرشيف، أسطو عليه فأسلّ الورقات المشينة من ملفي كما تُسَلُّ الشعْرة من العجين. كان متحمسا في كلامه عن الأرشيف لكني كنت أدرك أن مفتاح الأرشيف بيد المدير فقط، ما ذا أقول له وأنا أطلب المفتاح؟ أعطني مفتاح الأرشيف لأسحب الأوراق المشينة من ملفي فأمزقها؟ قلت لزميلي: هذا المدير استولى على الأرشيف حرصا عليه، نقل الموظف المسؤول عن الأرشيف إلى مكتب آخر، نقله وغيّر أقفال الأرشيف ثم أخفى المفاتيح. لا كائن في طول هذه الإدارة ولا في عرضها يمتلك مفتاحا منها، ولا كائن في طول هذه الإدارة ولا في عرضها يستطيع دخول الأرشيف دون علم المدير. ضحك زميلي ثم قال: وإذا جئتك غدا بمفتاح للأرشيف فما تقول؟
راقبت المدير حتى غادر الإدارة، انعطفت نحو الأرشيف والمفتاح المنسوخ في جيبي، تلفت يمنة ويسرة فلما رأيت الممر خاليا فتحت الأرشيف، فتحته ثم دخلت والخوف يجفف دمي أولا بأول. بحثت طويلا حتى وجدت الرفّ الذي يحمل ملفّات الموظفين، سحبت الملفّ الذي يحمل اسمي، انتحيت جانبا ثم فتحته. كان الملف يضم أوراق مساءلة وتعهدات شتى ومحاضر لا حصر لها، كانت تلك الأوراق تكفي لفصلي من العمل نهائيا، ليس ذلك فحسب بل تمكّن الإدارة من استعادة كل قرش استلمته منها. فتحت الحديدة التي تضم الأوراق إلى بعضها، شرعت أنزع الأوراق المشينة ورقة بعد أخرى، أحصيتها عندما انتهيت من ذلك فوجدتها ضعف الأوراق المتبقية في الملف. مزّقتها شر ممزق، وضعت المِزق في كيس كان في جيبي.
أتممت المهمة بسلام، حمدت لزميلي رأيه فهذا أفضل من استدراج المدير لفخ الزجاج العاكس، أغلقت الملف ثم تنفستُ الصعداء. قررت إعادة الملفّ إلى موضعه، مشيت على رؤوس أصابعي، لاحظت أن مكان الرفّ قد ضاع مني. سلكت المسار الأيمن فأخذني إلى أرشيف الشؤون المالية، أغراني الشيطان، قلت لنفسي أفتش في ملفات الشؤون المالية. راقت لي الفكرة كثيرا لكن المطلوب الان هو التخلص من ملفي، عدت للبحث عن رفّ الموظفين، عثرت به على مسافة بعيدة نحو اليسار. وضعت ملفي بين الملفات فارتاحت نفسي كثيرا، قلت لنفسي: والآن إلى فضائح الشؤون المالية، تحركت نحو اليمين، ظفرت بملفات أكثر إغراء من فضائح المال. قرأت كلمة مساءلة المدير ففرحت، قلت: هذه لا تختلف عن الزجاج العاكس وسوف أرى المدير دون أن يراني.
انتحيت جانبا وملفّ المدير معي، فتحته وانكببت على أوراقه، رأت عيني في هذا الملف ما لم أكن أعلم. جرى التحقيق مع هذا اللعين مرات عديدة، اتخذوا في حقّه قرارات عديدة ويبدو أنه قد التفّ عليها. صعقتني حركة أسمعها خلف الباب، انتفضت مذعورا، خبأت نفسي في زاوية من زوايا الأرشيف، سمعت صوت مفتاح يعالج قفل الباب فسقط قلبي. الملعون بشحمه ولحمه يفتح الباب ويدخل، كنت في موضع أراه منه ولا يراني. دخل وتوجه نحو خزنة في ركن قريب من الباب، فتح الخزنة فأخرج منها حقيبة سوداء، فتح الحقيبة فرأيت ما فيها بكل تفاصيله. فيها جهاز على وجهه مؤشرات وساعات مرّقمه كأنها طبلون سيارة، تخرج من أطرافه أسلاك كثيرة، ويخرج منه أنبوب مرن كأنه حنجور ثور مجزور.
وضع الحقيبة على الأرض، خلع سرواله وقذف به قريبا من أقدامي، جلس على ركبتيه أمام الحقيبة ثم أولج عضوه في ذلك الحنجور وبدأت تظهر على وجهه علامات التلذذ والارتياح. تمعّر وجهي خجلا مما يصنع، خشيت أن يسمع دقّات قلبي فينكشف أمري، قررت أن يكون زمام المبادرة بيدي، هجمت مثل حدأة جائعة وخطفت السروال، خطفته تحت وقع مفاجأة قاتلة ثم خرجت، أخذت أجري في ممرات الإدارة وأصرخ كالمجنون: هذا سروال المدير.
سألني ونظراته الصارمة تتوغل في رأسي: أين كنت الساعة العاشرة وإحدى عشرة دقيقة من يوم الاثنين الثامن من مايو؟ لم يكن سؤاله مفاجئا فما أكثر ما يطرق سمعي هذا السؤال، أين كنت الساعة الفلانية من اليوم الفلاني من الشهر الفلاني. رفعت رأسي وقلت له: مايو؟ قال: مايو. قالها وأضاف: هذا ليس من عندي، هذا كتبه المفتش الإداري، لا شك أنّه قد زارك على مكتبك خلال جولته التفتيشية فلم يجدك هناك وعليك أن تجيب على سؤاله. سكتّ ولم أحر جوابا، قلت لنفسي: هم يعتقدون أنّنا نسجل ما نفعله في كل دقيقة من دقائق يومنا الوظيفي، لو علموا أن الواحد منّا ينسى عشاءه بمجرد أن ينام لما سألوا، ضحكت في داخلي أيضا وقلت: يوم الاثنين الثامن من مايو.
ذكّرني مدير اللعنة بالسؤال ثانية، قال لم تجب. قلت له: يا سيّدي المدير نحن الان في شهر أغسطس وقد فارقنا مايو منذ فترة طويلة، ضحكت ثم واصلت: لقد نسيت عشاءي ليلة البارحة فكيف أتذكر غيابا حدث منذ أشهر وربما كان وجيزا قضيته في الحمام أو في الأرشيف أو في أي مكان داخل العمل. اسند ظهره على ظهر الكرسي، ازورّ عني، انصرفت نظراته نحو النافذة، قال لي من طرف فمه: هذه سخرية، بل ومريرة أيضا، تسخر مني ومن المفتش ومن النظام العام للإدارة. اعترتني حالة خذلان وخفت من غضبته، قلت له: لم أسخر يا سيدي وأقسم لك. رمى بورقة المساءلة على سطح مكتبه واعتدل في جلسته. قال بثقة: بل تسخر وتسخر، كل المفتشين والمراقبين قد اكتووا بنار سخريتك، هذه المساءلة وردك عليها ستحفظ في سجلك.
خرجت وأنا أتمتم في صدري: إلى الجحيم أنت وهذا السجل البائس، تذكرت الزجاج العاكس فقلت: ليته هذا المدير يقع في يدي، وصلت مكتبي، جلست وبقايا من سؤال مايو تضج بالضحك في أعماقي. واصلت حديثي مع نفسي: هذا المدير الأهبل يسأل عن مايو في أغسطس، ليته يقع في يدي، ليتني أقتنص منه فعلا مشينا من وراء الزجاج العاكس كما فعلت مع كثيرين. ما أحببت اختراعا في حياتي حبي لذلك النوع من الزجاج العاكس، الزجاج المظلل الذي يسميه البعض أراك ولا تراني، ترى الكون كله من خلف ذلك الزجاج ولا يراك أحد، تهتك أسرار الناس وأستارهم دون أن يلحق بك أذى، هي الصدفة وحدها أخذت بيدي إلى هذا المسلك الشائن ولكن ليس باليد حيلة، ماذا تفعل مع من يؤذيك وليس لك من قوة تدرأ بطشه؟
اعتقدت طويلا أن خبراء الزجاج ما اخترعوا زجاجهم ذلك الا من أجلي، تقديرا لحاجتي إلى اختراق جباه الناس مثلما يفعلون معي، يخترقون جبهتي بلا رحمة، يستندون إلى قوة غاشمة وأستند إلى هذا الزجاج العاكس، منحة العناية السماوية لضعفي وقلّة حيلتي. أسترق النظر على أي كائن حي يقع تحت عيني، أسترق السمع على أي كائن حي يقع تحت سمعي. أتعبني هذا الولع كثيرا، أتعبني بالفعل لكنه سلاحي على كل حال، مرض عضال ليس له من علاج لكنه ممتع جدا ومفيد جدا، غيّرت من أجله نوافذ بيتي ونوافذ سيارتيّ، الكبيرة والصغيرة، أراهم ولا يروني، أقتنص منهم سلوكا ثم أزرعه مثل الدمّل في نفوسهم، فإذا ضعفوا تحت يدي ضربت على سطوتهم سياجا من حديد ونحاس.
أنصب حاجب الشمس خلف زجاج السيارة الأمامي فهو زجاج شفاف لا يقبل التغيير، أنصب ذلك الحاجب المعتم قبل كل شيء ليمنع رؤية ما يحدث داخل السيّارة ثم انتقل بعدئذ إلى المرتبة الخلفية، أجلس خلف زجاجها العاكس فأرى العجب العجاب، أقضي كل أوقات فراغي هناك. شاب على سبيل المثال من بين عشرات وقعوا في فخ زجاجي العاكس، يقف أمام وجهي مباشرة، يستخدم زجاج سيارتي كمرآة، يمكّن عمامته وعقاله، يشدهما ذات اليمين ويردهما ذات الشمال، يمط شفتيه مطا ويعضها عضا لتبدو حمراء مكتنزة، يفرك أنفه فركا ويسحبه للأعلى وللأسفل لهدف لا أعرفه. وكم فتحت الزجاج نذالة وضحاياي على تلك الحالة فتتناثر وجوهم على الأرض كما تتناثر حبات المسبحة. ما أقواك عندما يضعف الناس تحتك، ما أعلى قامتك ولو كنت قزما عندما تتقاصر قاماتهم تحتك، ما أقوى عينك وما أحدّها عندما تنكسر عيونهم أمام عينيك.
وقف أمامي ذات يوم إمام الحي، إمام الحي بشحمه ولحمه ولحيته الكثّة وشاربه المحلوق بإصرار لا هوادة فيه. ثوبه إلى منتصف ساقيه وعمامته على رأسه من غير عقال كأنما هوت بها الريح فوقه، وقف أمامي مباشرة دون أن يراني، أخرج من جوربه الأيمن سيجارة، أشعلها بولاعة كانت مخبأة في جوربه الأيسر. هالني ما رأيت، عَقَدَتْ الدهشة لساني وكل لحمة غضة في جسمي، فَغَرْتُ فمي وسألت نفسي: أهذا هو الذي حطّم طبق الستالايت وطوّح به بعيداً؟ طبق الستالايت الذي اشتريته بمالي ولم أسرقه من أحد، طبق الستالايت الذي وضعته فوق بيتي ولم أضعه على بيت أحد غيري، أيدخّن هذا الكذاب وهو الذي صادر علبة سجائري؟ صادرها وضربني عندما أمسك بي وأنا أدخن. كنت أدخن بمحض إرادتي دون إغواء من أحد فمن أباح له أن يضربني ويصادر سجائري؟
سحب من السيجارة نَفَسين فقط، نفسين لا ثالث لهما، ولقوة السّحب كادت أن تشتعل النار على أطرافها. قضى على نصف السيجارة في النَفَس الأول وقضى على نصفها الثاني في النَفَس الثاني ثم داس على العقب. عندما همّ بالتهام قطعة من علك النعناع فتحت الزجاج، نظر إليّ مفزوعا ثم أخذ يتداخل في بعضه ويتقاصر كما يتقاصر هوائي الراديو او كما يتقاصر تلسكوب من ذوات العين الواحدة، تقاصر حتى تقزّم ثم لاذ بالفرار لا أرى إلا تقلب مؤخرته السمينة. كنت أتذكر هذا وأنا أضحك على مكتبي، لم أنتبه إلا وزميلي يَكِزُنِي في كتفي بشدة. اعتدلت في مكاني واعتذرت منه لهذا الشرود الذي غشاني بعد سؤال مايو العجيب، ضحك زميلي وضحكت معه أساريري فقد وَجَدْتُ من يشبهني.
أسرّ لي زميلي بسرّ خطير، قال لي دعك من الزجاج العاكس، نبهني إلى الاهتمام بمسألة الأرشيف، أسطو عليه فأسلّ الورقات المشينة من ملفي كما تُسَلُّ الشعْرة من العجين. كان متحمسا في كلامه عن الأرشيف لكني كنت أدرك أن مفتاح الأرشيف بيد المدير فقط، ما ذا أقول له وأنا أطلب المفتاح؟ أعطني مفتاح الأرشيف لأسحب الأوراق المشينة من ملفي فأمزقها؟ قلت لزميلي: هذا المدير استولى على الأرشيف حرصا عليه، نقل الموظف المسؤول عن الأرشيف إلى مكتب آخر، نقله وغيّر أقفال الأرشيف ثم أخفى المفاتيح. لا كائن في طول هذه الإدارة ولا في عرضها يمتلك مفتاحا منها، ولا كائن في طول هذه الإدارة ولا في عرضها يستطيع دخول الأرشيف دون علم المدير. ضحك زميلي ثم قال: وإذا جئتك غدا بمفتاح للأرشيف فما تقول؟
راقبت المدير حتى غادر الإدارة، انعطفت نحو الأرشيف والمفتاح المنسوخ في جيبي، تلفت يمنة ويسرة فلما رأيت الممر خاليا فتحت الأرشيف، فتحته ثم دخلت والخوف يجفف دمي أولا بأول. بحثت طويلا حتى وجدت الرفّ الذي يحمل ملفّات الموظفين، سحبت الملفّ الذي يحمل اسمي، انتحيت جانبا ثم فتحته. كان الملف يضم أوراق مساءلة وتعهدات شتى ومحاضر لا حصر لها، كانت تلك الأوراق تكفي لفصلي من العمل نهائيا، ليس ذلك فحسب بل تمكّن الإدارة من استعادة كل قرش استلمته منها. فتحت الحديدة التي تضم الأوراق إلى بعضها، شرعت أنزع الأوراق المشينة ورقة بعد أخرى، أحصيتها عندما انتهيت من ذلك فوجدتها ضعف الأوراق المتبقية في الملف. مزّقتها شر ممزق، وضعت المِزق في كيس كان في جيبي.
أتممت المهمة بسلام، حمدت لزميلي رأيه فهذا أفضل من استدراج المدير لفخ الزجاج العاكس، أغلقت الملف ثم تنفستُ الصعداء. قررت إعادة الملفّ إلى موضعه، مشيت على رؤوس أصابعي، لاحظت أن مكان الرفّ قد ضاع مني. سلكت المسار الأيمن فأخذني إلى أرشيف الشؤون المالية، أغراني الشيطان، قلت لنفسي أفتش في ملفات الشؤون المالية. راقت لي الفكرة كثيرا لكن المطلوب الان هو التخلص من ملفي، عدت للبحث عن رفّ الموظفين، عثرت به على مسافة بعيدة نحو اليسار. وضعت ملفي بين الملفات فارتاحت نفسي كثيرا، قلت لنفسي: والآن إلى فضائح الشؤون المالية، تحركت نحو اليمين، ظفرت بملفات أكثر إغراء من فضائح المال. قرأت كلمة مساءلة المدير ففرحت، قلت: هذه لا تختلف عن الزجاج العاكس وسوف أرى المدير دون أن يراني.
انتحيت جانبا وملفّ المدير معي، فتحته وانكببت على أوراقه، رأت عيني في هذا الملف ما لم أكن أعلم. جرى التحقيق مع هذا اللعين مرات عديدة، اتخذوا في حقّه قرارات عديدة ويبدو أنه قد التفّ عليها. صعقتني حركة أسمعها خلف الباب، انتفضت مذعورا، خبأت نفسي في زاوية من زوايا الأرشيف، سمعت صوت مفتاح يعالج قفل الباب فسقط قلبي. الملعون بشحمه ولحمه يفتح الباب ويدخل، كنت في موضع أراه منه ولا يراني. دخل وتوجه نحو خزنة في ركن قريب من الباب، فتح الخزنة فأخرج منها حقيبة سوداء، فتح الحقيبة فرأيت ما فيها بكل تفاصيله. فيها جهاز على وجهه مؤشرات وساعات مرّقمه كأنها طبلون سيارة، تخرج من أطرافه أسلاك كثيرة، ويخرج منه أنبوب مرن كأنه حنجور ثور مجزور.
وضع الحقيبة على الأرض، خلع سرواله وقذف به قريبا من أقدامي، جلس على ركبتيه أمام الحقيبة ثم أولج عضوه في ذلك الحنجور وبدأت تظهر على وجهه علامات التلذذ والارتياح. تمعّر وجهي خجلا مما يصنع، خشيت أن يسمع دقّات قلبي فينكشف أمري، قررت أن يكون زمام المبادرة بيدي، هجمت مثل حدأة جائعة وخطفت السروال، خطفته تحت وقع مفاجأة قاتلة ثم خرجت، أخذت أجري في ممرات الإدارة وأصرخ كالمجنون: هذا سروال المدير.