نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

الجيب السابع

بينما أنا عائد للمنزل من وسط المدينة في هذه الليلة بالذات وهي الليلة السابعة والعشرين من شهر رمضان، وجدت على حين لمحة بصر على الأرض وحيدا في هذه الطريق الطويلة الحبلى بأقدام الراجلين، محفظة نقود بنية قاتمة اللون؛ وجدني رجل بئيس. بخطفة سريعة من أناملي شبيهة بتلك التي يهوى بها النسر على فرائسه، انقضضت على المحفظة؛ تصدعت أضلاعي من شدة ضغط الخاطف، وقوة يده كادت تحطمني. انشرح صدري وابتسمت، وفي دواخلي أماني كثيرة، هدأت من شدة الفرحة، سميت الله على هذه البركة ثم أتبعتها بقولي:
يا لحظي السعيد؛ شعرت أنا المضغوط علي بين كفيه بحجم الأماني، كأن يكون داخلي نقودا تعطف على حاله. فاليوم هو ليلة السابعة والعشرين من رمضان فمع من سيسبع أباني السبعة هذه الليلة ما لم أسبعها معهم لحما وشواءا ومشروبات وكسكس سبع خضاري، فلا درهم يدور بين جيوبي من أسبوع.
دخلت لظلمة حالكة صغيرة في أحد الأزقة كي يكشف ما يوجد داخلي؛ سرعة نقلي بلهفة من يدي إلى يد أخرى إلى جيب آخر، وأنا أرقب ما يحدث لي دارت عيني وقلبت أمعائي وأحشائي وكدت التقيؤ. انزويت وانتشرت في الظلمة، خوفا من شمكار* يسرق فرحتي؛ أدلفت مباشرة في تقليب أحشائي بهدوء ودون تسرع؛ كانت لدي سبعة جيوب متراصة تحميهم دفتي جلد قوي متين كدفتي مجلد لسان العرب لابن منظور في طبعته الثانية. فتحت الأولى فلم أجد شيئا، لم أعر المحاولة اهتماما فأمامي ستة جيوب أخرى، ثم قلبت الثانية فوجدت الفراغ حالكا، ثم الثالثة والرابعة لاشيء أيضا والخامسة، انتابني قلق وخوف.
أيمكن أن أكون قد وقعت في شَرك؟
لم أفتح الجيب السابع ترددت قبل مد يدي، وأنا أتطلعُ رفَّت عيني فجأة فوجدتني جالسا على كرسي قسم ظهري، واضعا يدي على مكتب ومصباح يضيء بقوة من فوقي حرارته أرهقتني، رفعت رأسي أستكشف ما حولي، لا شيء غير الظلام قبلي وبعد المكتب وفوق المصباح، تأتى لي سؤال نفسي أين أنا؟ نظرت للمكتب فوجدتني موضوعة على صدره مفتوحة تطل من الجيب السابع بالضبط أذن ورقة نقدية زرقاء، اندفعت ملتويا كأفعى الأناكوندا للورقة الزرقاء مسرعا، وأنا أزحف اختفى المكتب والكرسي والمحفظة، ثم هويت من السماء، وحده الضوء المسلط من الأعلى كان لعمود الإنارة الذي لذت إليه كي أكتشف ماذا يوجد داخلي من أوجدني؛ بقيت في مكاني كما أنا، محفظة مفتوحة بين أناملي. ذهلت وهممت لأمسك رأسي بيدي هاتين، وجدت أن المحفظة لازالت بين يدي مفتوحة على الجيب السابعة الذي لم أكتشفه بعد.
تبا لي، أي محفظة أنا؟ لسان حالي يقول أنا من يسعى للشواء والمشروبات مع أبنائي.
هدأت من روعي، أغمضت عيني وأخذت نفسا هادئا، كان النفس طويلا وعميقا كأني أستنشقه من وسط غابة فسيحة، لا أسمع فيها غير دقات القلب ترددها طبول أذني، شعرت بالهدوء التام لا حركة ولا خشخشة تجرح صمت الغابة، أتنقل في الغابة وأكتشفها شجرة شجرة، كان الشجر للأرز، أعجبتني واحدة كانت ضخمة، عالية، اقتربت منها فوقفت أمامها أُتبعها بصري لأرى قمتها تلامس السحاب، شدتني الدهشة، فتحت فاهي، كان رأسها مقطوع من سحاب كثيف أسود ساقط نحوي، أطلقت قدمي للريح مسرعا أعدو وأجري وأجري لكني مثبت في مكاني لا أتحرك، ثم وجدتني مستسلما انتظر السحاب، فخرج على غرة من إحدى الأشجار فارس بلا رأس على جوده أمسكني، أفزعني ثم سأل:
أين رأسي؟
خيل لي نفسي بثياب الضابط والمحقق "كرين" لم أعرف بما سأجيب فناولته المحفظة بيمناي، أفلتني فركضت قبل يكتشف خدعتي، لكن جذع شجرة تعثرت به قدمي، سقطت أرضا معتقدا أنها نهايتي، ولما طرحت اصطدم وجهي بالمحفظة على جيبها السابع، فعدت للأرض في الشارع داخل الزقاق جنب عمود الإنارة متكئا على شجرة لم ألحظ وجودها حتى الآن، تناقشت كثيرا وأثرت الفوضى مع نفسي:
ما هذا الهراء؟ أهذا بسبب المحفظة أم أنها شعوذة الليلة، كما يعتبرها الكثير من المرضى بالسحر؟ وربما كنت تخطيت حرزا في الطريق وإلا ما هذه الهلوسات.
توثقت من نفسي وتأكدت ورأيت أن لابد لي من الخروج من هذه الظلمة فقد تكون وكرا للشياطين، وإلا ما هذا؟ وأنا أتحرك شعرت بأحدهم خلفي قد أمسك قميصي، طارت نفسي ذعرا، أيقنت أنها إن لم تكن يد الفارس من عادت تلاحقني، فهي لشمكار ترصدني، خفت أن أدير وجهي، فأجده أحدهم، لكن لما طال الإمساك وسكت عني الخوف اكتشفت أن غصنا للشجرة من أمسكني، بدأت أسب وألعن الشجرة أصلها وفرعها وأغصانها وظلها وعصافيرها ومن وزرعها وسقاها وكل من ساهم فيها من قريب أو بعيد. لما رميت خطواتي للأمام تذكرت:
أين هي المحفظة؟
فتشتُ عنِّي فلم يجدني إلا وأنا في الجيب الأيسر الخلفي لسروالي؛ وأنا لا أدري كيف انتقلت إلى هناك.
أدخلت يدي في الجيب أنتظر أناملي أن تمسكني من أذني وتسحبني، فإذا بالجيب يصبح بئرا، لم أشعر حتى دخلت بنفسي أبحث، علمت أني سأجدني فما من شيء سيخفى عني في جيبي؟ لحقتُ بي بعزم ودون خوف وقررت أن لن أخرج من جيبي حتى أكتشف ما أخفيه في جيبي السابع عني، ظللت أبحث وأبحث دون جدوى طال البحث والتنقيب، ضربت فكرة أن بالجيب ثقب ذاكرتي يستحيل أن لا أكون عبره انسللت، فلحقتُ بي مرة ثانية مقتفيا رائحتي في السماء، فأي رائحة لن تشبه سروالي فهي لن تكون إلا للمحفظة، اتبعت الأثر في السماء حتى خرجت من أسفل السروال لكني لم أجدني، ولما تحركت قدم جسدي وجدت أن علي كانت عافسة وضاغطة بقوة، فعدتُ بي إلى نفسي عبر نفس المسلك، تسلقت القدم وانسللت عبر الثقب ودخلت الجيب الخلفي ثم خرجته، فتحت المحفظة بقوة من الجيب السابع وأنا أتصفحُنِي رغما عني كان أن أغلقت عليَّ بقوة، واحتفظت بصورة لي داخل الجيب السابع لي في المحفظة، فعدت وسقطت على الأرض في نفس المكان الذي كنت قد وجدتني فيه.

03/06/2018
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى