جوزيف مكير مجوك
كاتب
لم يسبق للرجل أن تجاوز مياه النيل الصافية خلال جولاته السابقة في الغابة من وإلى وجهته في جانب الأخر من النيل،حتى في أبعد جولاته الإصطادية كان يكتفي بسير بمحازاة النيل ولكن هذه المرة كان يخطط أن يذهب أبعد من ذلك، أن يستكشف ما وراء هذه الغابات. بدأ خوفه يزداد شيئاً فشئياً.
كان ثمة سرابٍ على مسافة ليست بالبعيدة ؛ تكهن بإنها على أرجح مواشي أو ربما مساكن إحدى... كلا لا يمكن يكون... فتخمينٍٍ كهذا يمكن أن يؤدي بي إلى داهية، قال موسوساً ذاته. تسلل الخوف كبده مجدداً، و إنتابه شجاعة غريبة كمن يجره حصاناً هائجاً، بدأ يتخيل بنيته النحيلة، عضلاته الواهنة، طوله الذي لا يتعدى سيقان العشريف، فهو لايحمل وسائل دفاعية تؤهله لمجابهة المخاطر سوى أسلحة بيضاء وأدوات تضفي عليها طابع البدائية ثلاثة حربات إحداها مدببة (كوكاب¹)، وعصا. بمجرد تخييله الخزعبلات والشائعات التي تلقاها تختلجه رغبة عميقة في الهرب، أن يعود إلى قريته، إلا أن كلا من الفضول والشجاعة يمنعاه، أندفع متحمساً صوب السراب..
إقترب، لم يكن سراباً فحسب بل كان هناك قطيع من المواشي وكان برفقتهم غفير من الصبية البالغين.إقترب منهم بحذر شديد مستعداً، لم يتصور قط ان يكون هناك أناساً هنا رغم إنه سمع كثير من الخرافات عن هذا القوم من أصدقاؤه في القرية أبان طفولته أي قبل أن يرسم على جبهته علامات القبيلة: وهي عبارة عن ندوب عمدانية ترص في خط واحد ومستقيم على الجبهة المرء بعد بلوغه سن الرشد،
ولم يكن يصدق أيٍ من هذه الخرافات رغم إنه حفظها في ذاكرته بظهر القلب نصاً :
"في جانب الأخر من النيل ثمة قوم يختلف عن قومنا كلياً من حيث اللغة والشكل والبنية الجسدية،...الخ. وربما يأكلون أناساً" ولكنه يعتبر الأخير مبرراً للتخويف لا غير.
إنتبه لإحدى الفُتية يتحدث بلغة غريبة، رفع يده و لوح لصبي متوتراً، إستدار فرأى حوله ما إقشعر بدنه، حاول الهرب فخانه قدميّه. صاح مفزوعاً. إذ إن الصُبية أحاطوه وبدأوا ينحالوا عليه ضرباً بعصا ضربة تلو الأخرى، حاول المقاومة فلم يقدر، إلا أن ظهر شاباً يبدو إنه ذو شأن فأمرهم بالتوقف، أقترب إليه الشاب وأشار إليه إشارة لم يفهمها ريما لعدم إتقانه لغة الإشارة بشكل جيد، أو ربما لغرابته عنهم ولكنه أدرك مقصده بعد أن أشار الشاب مجدداً، تفحص وجه الشاب فكان وجهه مبهماً نوعاً ما؛ أي يصعب تحديد طينته بيسر. كان ينظر بعينين مرتعبتين.
تقدم الشاب أمامه فتبعه، واصلا طريقهما صامتين حتى وصلا مكاناً يبدؤ معسكراً منها إلى المرعى. وكان ثمة شبان عمالقة طويلو القامة يلعبون المنقلة² تحت الأشجار، صبية يجمعون النبق وفجاءة يبدأ العراك بينهم بسبب أن صبيأ أخطأ إلقاء الحجر على النبق فوقع الحجر على رأس صبي أخر، تقدموا قليلاً شبان يتدربون على المصارعة البلدية، حتى توسطوا المكان تمامآ ليصبح الرؤية أكثر وضوحاً، على الأرجح وصلا مرعي صيفي للأبقار إحدى القبائل النيلية، رغم إنه غير متأكد إلا أن حدسه يشير إلى ذلك، أكواخ مبعثرة حول أرجاء المنطقة موزعة بعناية توزيع شبكات المياه، أوتاد مرصوصة في شكل تجمعات دائرية وعلى كل منها مربط من الجلد و أخرى من أكياس النايلون، عجول تخور لتاخر أمهاتها.... وهلمبذا، لم يعد رجليّه تحملانه، شعر وكأنه صار أخف من الظل وكأنما يحلق في الفضاء بلا أرجل. كان وجود هذا الشاب يشعره بطمانينة ويزيل توتره، بنفس القدر الذي يرعبه نظرات الصُبية الخاوية،
توجهوا نحو شجرة هجليج تحتها عنقريب خشبي، يجلس عليه رجلاً مشيباً يبدو أنه كبيرهم، ألقيا عليه التحية، جلس الرجل بقرب العجوز بعود إسطواني الشكل. "الشبان لا يجلسون بمثل هذه المقاعد" قال العجوز ساخراً موجهاً كلامه لرجل فتنفس ألرجل الصعداء.
- كان الشاب قد أنزل فخاراً يشبه السحاحة(البخسة³) من بين مجموعة المعلقة على فروع شجرة الهجليج ومداه لرجل وأحكم قبضة يده اليمنى ورفعه نحو فمه أي بمعنى أشرب، رفع الرجل البخسة خائفاً وبدأ يشرب.
- وأخذ يطوف في دهاليز عقله، محاولاً فك شفرات هذا اللغز الغريب، خرافاتهم عن هذا القوم الغريب وعما يراه عينيّه.
وبدأ يفهم لماذا أتى به الشاب إلى هذا الرجل دون غيره. وتذكر كلام ذلك القس الأفريقي" الإنجليز لا يعملون أموراً دون دراسة، وضعوا لكل قبيلة علامة كي يسهل تميزها عن غيرها و لكننا إنحرفنا وصرنا نتمسك بها كأنها إحدى رموز القبيلة السامية،
وأثناء ذلك لفت إنتباهم حشداً وضجيجاً في المخيم
كان الجميع مولتفون حول شابين كمن يشاهدون فيلماً هندياً كلاسيكياً
و عندئذ وقع عيني الرجل على إحدى الشبان من بين الحشود يحمل كوكابه ولم ينبس ببنت شفة.
مشار أحدى شباب القرية المولعين بالكوكاب الأجنبي؛ طوله وحجمه الصغير وشكله الجميل وزخرفته....الخ.
فعندما وقع عينيّه على الكوكاب عند أحدى الشبان كان مستعداً لفعل أي شيء من أجل نيله بما في ذلك المبارزة..
قوانين المبارزة صارمة جدآ فهي محصنة لا تقبل المسأومة، لا إلغاء، لا تعويض، لا دية..... لمشاركون في المبارزة، تصويبة واحدة فقط وخاضعة.
كان مشار مستلقياً على الأرض بين قدميّ الشاب الأخر، يراقب حركات قدميّه، يديّه، نظراته....الخ.
نظر إليه الشاب نظرة الشفقة وصوب نوحه الكوكاب بعد تردد وإضطرب، وبما يشبه الحركة البهلوانية وفي لمحة البصر إختفى مشار من أنظار الشاب ليتفجأة به محتفلاً يقفز تارة ويرقص ويسجد تارة أخرى حاملاً الكوكاب. فلو كان لرجل مخيلة إينشتاين لأكد إمكانية تطبيق سرعة الضوء أو لربما قال ان هذا الشاب حفنة ممن أفادهم قوانين الفيزياء الحديثة.
__________________________
حواشي:
١.كوكاب: حربة مدببة يستخدم للصيد والمبارزة. الترجمة
٢.منقلة: لعبة أفريقية لوحية قديمة يتم فيها نقل الحجار من حفرة إلى أخرى. الترجمة
٣.البخسة: وعاء مصنوع من القرع يستخدم لحفظ اللبن وصناعة السمن البلدي. الترجمة
كان ثمة سرابٍ على مسافة ليست بالبعيدة ؛ تكهن بإنها على أرجح مواشي أو ربما مساكن إحدى... كلا لا يمكن يكون... فتخمينٍٍ كهذا يمكن أن يؤدي بي إلى داهية، قال موسوساً ذاته. تسلل الخوف كبده مجدداً، و إنتابه شجاعة غريبة كمن يجره حصاناً هائجاً، بدأ يتخيل بنيته النحيلة، عضلاته الواهنة، طوله الذي لا يتعدى سيقان العشريف، فهو لايحمل وسائل دفاعية تؤهله لمجابهة المخاطر سوى أسلحة بيضاء وأدوات تضفي عليها طابع البدائية ثلاثة حربات إحداها مدببة (كوكاب¹)، وعصا. بمجرد تخييله الخزعبلات والشائعات التي تلقاها تختلجه رغبة عميقة في الهرب، أن يعود إلى قريته، إلا أن كلا من الفضول والشجاعة يمنعاه، أندفع متحمساً صوب السراب..
إقترب، لم يكن سراباً فحسب بل كان هناك قطيع من المواشي وكان برفقتهم غفير من الصبية البالغين.إقترب منهم بحذر شديد مستعداً، لم يتصور قط ان يكون هناك أناساً هنا رغم إنه سمع كثير من الخرافات عن هذا القوم من أصدقاؤه في القرية أبان طفولته أي قبل أن يرسم على جبهته علامات القبيلة: وهي عبارة عن ندوب عمدانية ترص في خط واحد ومستقيم على الجبهة المرء بعد بلوغه سن الرشد،
ولم يكن يصدق أيٍ من هذه الخرافات رغم إنه حفظها في ذاكرته بظهر القلب نصاً :
"في جانب الأخر من النيل ثمة قوم يختلف عن قومنا كلياً من حيث اللغة والشكل والبنية الجسدية،...الخ. وربما يأكلون أناساً" ولكنه يعتبر الأخير مبرراً للتخويف لا غير.
إنتبه لإحدى الفُتية يتحدث بلغة غريبة، رفع يده و لوح لصبي متوتراً، إستدار فرأى حوله ما إقشعر بدنه، حاول الهرب فخانه قدميّه. صاح مفزوعاً. إذ إن الصُبية أحاطوه وبدأوا ينحالوا عليه ضرباً بعصا ضربة تلو الأخرى، حاول المقاومة فلم يقدر، إلا أن ظهر شاباً يبدو إنه ذو شأن فأمرهم بالتوقف، أقترب إليه الشاب وأشار إليه إشارة لم يفهمها ريما لعدم إتقانه لغة الإشارة بشكل جيد، أو ربما لغرابته عنهم ولكنه أدرك مقصده بعد أن أشار الشاب مجدداً، تفحص وجه الشاب فكان وجهه مبهماً نوعاً ما؛ أي يصعب تحديد طينته بيسر. كان ينظر بعينين مرتعبتين.
تقدم الشاب أمامه فتبعه، واصلا طريقهما صامتين حتى وصلا مكاناً يبدؤ معسكراً منها إلى المرعى. وكان ثمة شبان عمالقة طويلو القامة يلعبون المنقلة² تحت الأشجار، صبية يجمعون النبق وفجاءة يبدأ العراك بينهم بسبب أن صبيأ أخطأ إلقاء الحجر على النبق فوقع الحجر على رأس صبي أخر، تقدموا قليلاً شبان يتدربون على المصارعة البلدية، حتى توسطوا المكان تمامآ ليصبح الرؤية أكثر وضوحاً، على الأرجح وصلا مرعي صيفي للأبقار إحدى القبائل النيلية، رغم إنه غير متأكد إلا أن حدسه يشير إلى ذلك، أكواخ مبعثرة حول أرجاء المنطقة موزعة بعناية توزيع شبكات المياه، أوتاد مرصوصة في شكل تجمعات دائرية وعلى كل منها مربط من الجلد و أخرى من أكياس النايلون، عجول تخور لتاخر أمهاتها.... وهلمبذا، لم يعد رجليّه تحملانه، شعر وكأنه صار أخف من الظل وكأنما يحلق في الفضاء بلا أرجل. كان وجود هذا الشاب يشعره بطمانينة ويزيل توتره، بنفس القدر الذي يرعبه نظرات الصُبية الخاوية،
توجهوا نحو شجرة هجليج تحتها عنقريب خشبي، يجلس عليه رجلاً مشيباً يبدو أنه كبيرهم، ألقيا عليه التحية، جلس الرجل بقرب العجوز بعود إسطواني الشكل. "الشبان لا يجلسون بمثل هذه المقاعد" قال العجوز ساخراً موجهاً كلامه لرجل فتنفس ألرجل الصعداء.
- كان الشاب قد أنزل فخاراً يشبه السحاحة(البخسة³) من بين مجموعة المعلقة على فروع شجرة الهجليج ومداه لرجل وأحكم قبضة يده اليمنى ورفعه نحو فمه أي بمعنى أشرب، رفع الرجل البخسة خائفاً وبدأ يشرب.
- وأخذ يطوف في دهاليز عقله، محاولاً فك شفرات هذا اللغز الغريب، خرافاتهم عن هذا القوم الغريب وعما يراه عينيّه.
وبدأ يفهم لماذا أتى به الشاب إلى هذا الرجل دون غيره. وتذكر كلام ذلك القس الأفريقي" الإنجليز لا يعملون أموراً دون دراسة، وضعوا لكل قبيلة علامة كي يسهل تميزها عن غيرها و لكننا إنحرفنا وصرنا نتمسك بها كأنها إحدى رموز القبيلة السامية،
وأثناء ذلك لفت إنتباهم حشداً وضجيجاً في المخيم
كان الجميع مولتفون حول شابين كمن يشاهدون فيلماً هندياً كلاسيكياً
و عندئذ وقع عيني الرجل على إحدى الشبان من بين الحشود يحمل كوكابه ولم ينبس ببنت شفة.
مشار أحدى شباب القرية المولعين بالكوكاب الأجنبي؛ طوله وحجمه الصغير وشكله الجميل وزخرفته....الخ.
فعندما وقع عينيّه على الكوكاب عند أحدى الشبان كان مستعداً لفعل أي شيء من أجل نيله بما في ذلك المبارزة..
قوانين المبارزة صارمة جدآ فهي محصنة لا تقبل المسأومة، لا إلغاء، لا تعويض، لا دية..... لمشاركون في المبارزة، تصويبة واحدة فقط وخاضعة.
كان مشار مستلقياً على الأرض بين قدميّ الشاب الأخر، يراقب حركات قدميّه، يديّه، نظراته....الخ.
نظر إليه الشاب نظرة الشفقة وصوب نوحه الكوكاب بعد تردد وإضطرب، وبما يشبه الحركة البهلوانية وفي لمحة البصر إختفى مشار من أنظار الشاب ليتفجأة به محتفلاً يقفز تارة ويرقص ويسجد تارة أخرى حاملاً الكوكاب. فلو كان لرجل مخيلة إينشتاين لأكد إمكانية تطبيق سرعة الضوء أو لربما قال ان هذا الشاب حفنة ممن أفادهم قوانين الفيزياء الحديثة.
__________________________
حواشي:
١.كوكاب: حربة مدببة يستخدم للصيد والمبارزة. الترجمة
٢.منقلة: لعبة أفريقية لوحية قديمة يتم فيها نقل الحجار من حفرة إلى أخرى. الترجمة
٣.البخسة: وعاء مصنوع من القرع يستخدم لحفظ اللبن وصناعة السمن البلدي. الترجمة