المصطفى سالمي
كاتب
شعر (المهدي) بضيق كبير يكتم أنفاسه، لقد اقترب العيد الذي يفرح به الصغار بينما يغتم له بعض الكبار من أمثاله ممن تسلط عليهم الفقر اللعين، كان التفكير في الأضحية يكاد يشل تفكيره، رباه..! كيف يتدبر أمره؟ لقد باع معظم محتويات دكانه من السلع البسيطة وما كفاه ذلك ليصل إلى خمس المطلوب، لم يتبق إلا ألواح وقناني فارغة، هل يصبح لصا أو مختلسا في أخر أيامه ليتدبر ثمن كبش العيد ليدخل الفرحة على أبنائه الخمسة وأمهم التي لا تنفك صباح مساء تذكره بأن الجيران جلهم اشترى الكبش المنتظر، فهي تظل تطل من شقوق النوافذ تتجسس على جاراتها، تستطلع أخبارهن أكثر مما يفعل (مقدم الحارة)،إن بإمكانها أن تقدم أوصاف كل كبش وطول قرونه ولون صوفه وتحدد زمن شرائه وكأنها أجندة نقشت عليها الأحداث نقشا، لقد فاقت المحطات الإخبارية وشبكة الرادار الذي يرصد دبيب النمل. لكن لابد للسيد (المهدي) من تدبر أمره وعدم الاستسلام للمجهول، إنه هكذا كل سنة يقع في حيص بيص مع حلول المناسبات الكبرى، تارة يجد السند في الأقارب وخاصة أصهاره، وتارة أخرى يجد السند في الجيران على ضيق حال أغلبهم، لكنه كان يكتفي بأن يقترض منهم، فهو لا يرتضي إحسانا وصدقة من أحد، لكن الديون تراكمت عليه مؤخرا، خاصة في ظل كساد التجارة، مع أن الأمر لا يتعدى بقالة صغيرة لا تكاد تسد رمق الأفواه الجائعة الممددة على الحصير والعباءات البالية المهترئة تحت أسقف متآكلة لبيت حقير ورثة عن الأجداد، وكبرت المعاناة مع ازدياد مطالب الأبناء من مأكل وملبس ولوازم دراسية.. وفجأة طرقت الفكرة رأس (المهدي) بقوة، إنهم أصدقاؤه الجدد في الحزب الإسلامي الذين تعرف عليهم في المسجد الكبير وعملوا على استقطابه في توزيع المنشورات الانتخابية والدعاية الحزبية، كانوا في الأصل مجرد جماعة من الملتحين من أصحاب فكرة الدعوة والتبليغ بالحسنى، وسبق أن قام مع بعضهم بعدة جولات عبر ربوع المنطقة حيث كانوا أثناء تجوالهم في المناطق الريفية يحثون الناس على الصلاة والتزام السنة والجماعة، وفي الليل يأوون إلى المساجد بالقرى والبوادي النائية، وكانت وجباتهم صحون شهية من كسكس تعلوه خضر طرية وقطع لحم شهية يأتي بها بسطاء الناس لحافظي القرآن وفاعلي الخير وعابري السبيل، وهاهم ينضوون تحت حزب إسلامي استقطبهم كما استقطب غيرهم، وجعل منهم أحد أذرعه لاستمالة العوام ممن تخدرهم لغة الدين والتدين، وأغدق على بعضهم بسخاء، وتساءل (المهدي) في قرارته: "لماذا لا يكون لأمثاله نصيب من الغنيمة هو أيضا؟".
بُعيد صلاة العصر ـ بمقر الحزب الإسلامي ـ التقى صاحبنا بأمين فرع الحزب السيد (الوافي) بعد أن تعذر عليه لقاؤه بالمسجد الكبير للبلدة، لقد كان الرجل بمثابة أقرب شخص له خلال جولات جماعة الدعوة منذ سنوات خلت، بدا النور يتلألأ من وجه الرجل هذا المساء أكثر من كل ما سبق، وعلى جبينه التمع شعاع التقوى والورع، تنحنح (المهدي) وهو يعتصر قلبه وجوارحه قبل أن تخرج الكلمات من بين شفتيه مضغوطة معبرة عن معاناته وبؤسه الذي يطحنه، وأنه في حاجة لمساعدة مادية من الحزب الغني بأموال الدعم الحكومي والدعم الخليجي الذي لا يخفى على أحد، لكن الرجل ذا الوجه المستدير واللحية الكثة طلب من (المهدي) إرجاء النظر في المسألة إلى حين اجتماع الأعضاء بعد صلاة المغرب ليعرض عليهم مسألة واحد من المنتمين الأوفياء، حينها كبر الأمل في نفس (المهدي)، وتراقصت الفرحة في أعماقه.
انتهت الركعات وتصافحت الأيدي، وبسط أمين الفرع وصديق (المهدي) المسألة بأمانة منقطعة النظير، فما كان من الإخوة الملتحين إلا أن نظروا إلى بعضهم البعض نظرات ذات مغزى لا يفهمه إلا الراسخون في العلم، وقال أحدهم نيابة عن الآخرين بصوت حازم متموج النبرات:
ـ الأخ (المهدي) شخص حبيب إلى قلوبنا، وعضو جديد ينضم إلينا، لكن السنة النبوية وتعاليم ديننا الحنيف أكبر من كل كبير، إن عيد الأضحى مجرد سنة لا تُلزم المؤمن بأية تكاليف تخالف الشرع، وإننا ننصح أخانا (المهدي) بأن يصرف النظر عن الأضحية التي ستكلفه فوق طاقته، وينصرف إلى جهاد النفس والتعفف عن كل ما يعكر صفو وسماحة ديننا الحنيف.
خرج (المهدي) ممتقع اللون، ذابل الوجه، تائه الفكر، مرتخي الأطراف، كانت الأضواء مشتعلة في المدينة على بريقها تراءت أمام ناظريه صور من كان برفقتهم وهم يلتهمون بشراهة مقززة أطباق الكسكس ولحم الضأن، إنهم هم أنفسهم الذين يتحدثون اليوم عن التعفف ومجاهدة النفس، كيف للصغار سنا أن يتعففوا عن المأكل إذا كان المشايخ قد ابتلعوا رزما من مال زكمت رائحة البترول والدولار حواشيه؟!
كانت حركة السير دؤوبة والناس كل يعيش حياته بكل ما أوتي من عنفوان الأنانية الجارف، ومازال صاحبنا يجر رجليه في المدينة جرا، فجأة تشربت روائح خاصة خياشيم (المهدي)، ذكرته الرائحة بماضي شقاوته، إنها حانة المرح. تسللت الفكرة المجنونة إلى ذهن الرجل، دفع بابا متحركا يتأرجح في كلا الاتجاهين، كان الجو صاخبا بالداخل، ثم انفجر صوت (المهدي) بكل طاقته الممكنة:
ـ جماعة الفجار الفاسقين، انتبهوا إلي من فضلكم..!
اشرأبت الأعناق الثملة المنتشية إلى الرجل الذي لم يمهل نفسه ولا مخاطبيه ليردف قائلا:
ـ أنا واحد من أهل بلدتكم الكئيبة، لقد ضاق بي الحال والتف بعنقي الفقر اللعين، وأنتم ترمون الأموال بسخاء تحت قدمي هذه الراقصة وتشربون أنواع الخمور الفاخرة، فهلا تفضلتم علي بما يدفع عني ذل الحاجة لأشتري أضحية العيد مثل باقي الناس؟!
كان (المهدي) يرمي كلماته يائسا محبطا كأنما هو غريق يرمي يده نحو نسر محلق في الفضاء، أو نحو سمكة قرش مفترس ينتظر منه المساعدة، لم يكن يدري إن كان هؤلاء السكارى المترنحون سيفهمونه أصلا، وإنه فعل ما فعل بدون وعي أو تبصر، لكن ما حصل لم يكن في الحسبان، فقد هبّ السكارى الذين كانوا يعربدون ويترنحون وبدأ كل واحد ينافس الآخرين في تقديم الأوراق المالية من اللونين الأزرق والبني بشكل أذهل (المهدي) وجعله يفتح فاه غير مصدق لما يجري أمام ناظريه، وردد أحد السكارى قائلا:
ـ متع نفسك أيها الصديق ولا تنس أن تشرب وتدخن كما لم تفعل أبدا..!
بينما ردد آخر:
ـ ليس هناك أجمل من الاستمتاع بالحياة يا رفيقي، وأنا سأقدم لك المال لتشتري الكبش، وخذ معك هذه الخمرة حتى تهضم اللحم الشهي أيها السعيد..!
وتعالت قهقهات المعربدين في أرجاء المكان..
خرج (المهدي) بمبلغ خيالي يكفي لشراء عجل، لم يصدق نفسه وبدأ بمساءلة ذاته:
ـ هل جائز شرعا أن يشتري أضحية العيد بمال السكارى، وكيف يجتمع الحلال والحرام في آن واحد؟!
تزاحمت الأسئلة في ذهن الرجل، لكنه كان يدفعها دفعا، ففي البيت كان يمكن أن تقع حماقات من امرأة لا تستطيع أن تتماسك في مثل هذه المناسبات، وهناك صغار يمكن أن يجن جنونهم لو غاب الكبش الموعود، فمجتمعهم بيئة منافقة ووسط كذاب أثيم يعيش انفصاما فظيعا بين الشرع وبين الواقع المعيش.
وصل (المهدي) إلى البيت وكأنه يطير على جناحين، وليس كائنا يمشي على قدمين، تحسست (فطومة) دخول زوجها لكنها لم تأبه لقدومه ولم تعره اهتماما، بينما اندس الزوج نحو مدخل الحمّام حيث يوجد حوض يتوسطه صنبور الماء، ووقف الرجل قبالة المرآة يحدق في وجهه الملتحي، لعل ذلك ذكره بوجوه أنف منظرها، فالتمعت في الحين والتو فكرة مجنونة أخرى، أخذ الرجل موسى الحلاقة ودون تبليل شعر اللحية بدأ يمرر الشفرة بعصبية وقوة على وجهه كأنما يجز خروفا، وما هي إلا ثوان معدودات حتى أصبح وجهه أملط كجلد الأفعى.
جمع (المهدي) ما جزه من شعر كثيف في كيس بلاستيكي غامق اللون، ونادى على ابنه البكر (ياسين)، فأقبل الأخير مهرولا، فهاله أن رأى وجه أبيه على صورة غير معتادة بالنسبة إليه، لكن الأب لم يمهله ليقول له:
ـ خذ هذه الأمانة وقدمها للسيد (الوافي) أمين فرع حزب الملتحين الموجود في طرف الحارة وقل له إن والدي يقرئك السلام ويقول لك شكرا على نصيحتكم وهذا صوف الخروف (المهدي) أتبرع لكم به مجانا.
خرج الفتى مسرعا باتجاه الوجهة المطلوبة مرددا في قرارة نفسه العبارة حتى لا ينسى أي حرف منها.
بُعيد صلاة العصر ـ بمقر الحزب الإسلامي ـ التقى صاحبنا بأمين فرع الحزب السيد (الوافي) بعد أن تعذر عليه لقاؤه بالمسجد الكبير للبلدة، لقد كان الرجل بمثابة أقرب شخص له خلال جولات جماعة الدعوة منذ سنوات خلت، بدا النور يتلألأ من وجه الرجل هذا المساء أكثر من كل ما سبق، وعلى جبينه التمع شعاع التقوى والورع، تنحنح (المهدي) وهو يعتصر قلبه وجوارحه قبل أن تخرج الكلمات من بين شفتيه مضغوطة معبرة عن معاناته وبؤسه الذي يطحنه، وأنه في حاجة لمساعدة مادية من الحزب الغني بأموال الدعم الحكومي والدعم الخليجي الذي لا يخفى على أحد، لكن الرجل ذا الوجه المستدير واللحية الكثة طلب من (المهدي) إرجاء النظر في المسألة إلى حين اجتماع الأعضاء بعد صلاة المغرب ليعرض عليهم مسألة واحد من المنتمين الأوفياء، حينها كبر الأمل في نفس (المهدي)، وتراقصت الفرحة في أعماقه.
انتهت الركعات وتصافحت الأيدي، وبسط أمين الفرع وصديق (المهدي) المسألة بأمانة منقطعة النظير، فما كان من الإخوة الملتحين إلا أن نظروا إلى بعضهم البعض نظرات ذات مغزى لا يفهمه إلا الراسخون في العلم، وقال أحدهم نيابة عن الآخرين بصوت حازم متموج النبرات:
ـ الأخ (المهدي) شخص حبيب إلى قلوبنا، وعضو جديد ينضم إلينا، لكن السنة النبوية وتعاليم ديننا الحنيف أكبر من كل كبير، إن عيد الأضحى مجرد سنة لا تُلزم المؤمن بأية تكاليف تخالف الشرع، وإننا ننصح أخانا (المهدي) بأن يصرف النظر عن الأضحية التي ستكلفه فوق طاقته، وينصرف إلى جهاد النفس والتعفف عن كل ما يعكر صفو وسماحة ديننا الحنيف.
خرج (المهدي) ممتقع اللون، ذابل الوجه، تائه الفكر، مرتخي الأطراف، كانت الأضواء مشتعلة في المدينة على بريقها تراءت أمام ناظريه صور من كان برفقتهم وهم يلتهمون بشراهة مقززة أطباق الكسكس ولحم الضأن، إنهم هم أنفسهم الذين يتحدثون اليوم عن التعفف ومجاهدة النفس، كيف للصغار سنا أن يتعففوا عن المأكل إذا كان المشايخ قد ابتلعوا رزما من مال زكمت رائحة البترول والدولار حواشيه؟!
كانت حركة السير دؤوبة والناس كل يعيش حياته بكل ما أوتي من عنفوان الأنانية الجارف، ومازال صاحبنا يجر رجليه في المدينة جرا، فجأة تشربت روائح خاصة خياشيم (المهدي)، ذكرته الرائحة بماضي شقاوته، إنها حانة المرح. تسللت الفكرة المجنونة إلى ذهن الرجل، دفع بابا متحركا يتأرجح في كلا الاتجاهين، كان الجو صاخبا بالداخل، ثم انفجر صوت (المهدي) بكل طاقته الممكنة:
ـ جماعة الفجار الفاسقين، انتبهوا إلي من فضلكم..!
اشرأبت الأعناق الثملة المنتشية إلى الرجل الذي لم يمهل نفسه ولا مخاطبيه ليردف قائلا:
ـ أنا واحد من أهل بلدتكم الكئيبة، لقد ضاق بي الحال والتف بعنقي الفقر اللعين، وأنتم ترمون الأموال بسخاء تحت قدمي هذه الراقصة وتشربون أنواع الخمور الفاخرة، فهلا تفضلتم علي بما يدفع عني ذل الحاجة لأشتري أضحية العيد مثل باقي الناس؟!
كان (المهدي) يرمي كلماته يائسا محبطا كأنما هو غريق يرمي يده نحو نسر محلق في الفضاء، أو نحو سمكة قرش مفترس ينتظر منه المساعدة، لم يكن يدري إن كان هؤلاء السكارى المترنحون سيفهمونه أصلا، وإنه فعل ما فعل بدون وعي أو تبصر، لكن ما حصل لم يكن في الحسبان، فقد هبّ السكارى الذين كانوا يعربدون ويترنحون وبدأ كل واحد ينافس الآخرين في تقديم الأوراق المالية من اللونين الأزرق والبني بشكل أذهل (المهدي) وجعله يفتح فاه غير مصدق لما يجري أمام ناظريه، وردد أحد السكارى قائلا:
ـ متع نفسك أيها الصديق ولا تنس أن تشرب وتدخن كما لم تفعل أبدا..!
بينما ردد آخر:
ـ ليس هناك أجمل من الاستمتاع بالحياة يا رفيقي، وأنا سأقدم لك المال لتشتري الكبش، وخذ معك هذه الخمرة حتى تهضم اللحم الشهي أيها السعيد..!
وتعالت قهقهات المعربدين في أرجاء المكان..
خرج (المهدي) بمبلغ خيالي يكفي لشراء عجل، لم يصدق نفسه وبدأ بمساءلة ذاته:
ـ هل جائز شرعا أن يشتري أضحية العيد بمال السكارى، وكيف يجتمع الحلال والحرام في آن واحد؟!
تزاحمت الأسئلة في ذهن الرجل، لكنه كان يدفعها دفعا، ففي البيت كان يمكن أن تقع حماقات من امرأة لا تستطيع أن تتماسك في مثل هذه المناسبات، وهناك صغار يمكن أن يجن جنونهم لو غاب الكبش الموعود، فمجتمعهم بيئة منافقة ووسط كذاب أثيم يعيش انفصاما فظيعا بين الشرع وبين الواقع المعيش.
وصل (المهدي) إلى البيت وكأنه يطير على جناحين، وليس كائنا يمشي على قدمين، تحسست (فطومة) دخول زوجها لكنها لم تأبه لقدومه ولم تعره اهتماما، بينما اندس الزوج نحو مدخل الحمّام حيث يوجد حوض يتوسطه صنبور الماء، ووقف الرجل قبالة المرآة يحدق في وجهه الملتحي، لعل ذلك ذكره بوجوه أنف منظرها، فالتمعت في الحين والتو فكرة مجنونة أخرى، أخذ الرجل موسى الحلاقة ودون تبليل شعر اللحية بدأ يمرر الشفرة بعصبية وقوة على وجهه كأنما يجز خروفا، وما هي إلا ثوان معدودات حتى أصبح وجهه أملط كجلد الأفعى.
جمع (المهدي) ما جزه من شعر كثيف في كيس بلاستيكي غامق اللون، ونادى على ابنه البكر (ياسين)، فأقبل الأخير مهرولا، فهاله أن رأى وجه أبيه على صورة غير معتادة بالنسبة إليه، لكن الأب لم يمهله ليقول له:
ـ خذ هذه الأمانة وقدمها للسيد (الوافي) أمين فرع حزب الملتحين الموجود في طرف الحارة وقل له إن والدي يقرئك السلام ويقول لك شكرا على نصيحتكم وهذا صوف الخروف (المهدي) أتبرع لكم به مجانا.
خرج الفتى مسرعا باتجاه الوجهة المطلوبة مرددا في قرارة نفسه العبارة حتى لا ينسى أي حرف منها.