نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

الخلود عند الإنسان المعاصر

الخلود عند الإنسان المعاصر

إن أساس الثقافة المعاصرة هو العلم. و من تأثيرات العلم أنّه مكّن الإنسان من تقنية جعلته يشعر بقوّته تجاه الطبيعة و يضعف شعوره الديني. فالعلم بشكل أو بآخر حدّ من سلطة الدين. طبعا عندما نتحدّث عن ضعف الشعور الديني عند الإنسان المعاصر نتحدّث عنه قياسا على مكانة الدين في الحضارات القديمة و هذا لا يعني أن عصرنا الحالي انتفى منه المتديّنون.
لكن إن حدّ العلم من سلطة الدين فإنّه لم يلغ السؤال الميتافيزيقي. من هنا جاءت أزمة الإنسان المعاصر. فهو يطرح أسئلة ميتافيزيقية لا تجيب عنها إلاّ الثقافة الدينية و لكنّه في قرارة نفسه ينتابه الشك في هذه الثقافة. مثال ذلك أنّك تسأل من خلق الكون؟ فيقال لك إن الله هو الذي خلقه. و تسأل و من خلق الله؟ فيقال لك إن الله لم يلد و لم يولد. هذه الإجابة كانت تقنع القدامى لكنّها لم تعد تقنع الإنسان المعاصر أو على الأقلّ يقبلها على مضض.
هل أن الإنسان المعاصر مرتاح لوضعية الإلحاد هذه؟ الواقع أنّها وضعية مأسوية مفروضة عليه، إذ أنّ انعدام وجود الإله معناه أن الإنسان وحيد في الكون و السلطة ـ و بالتالي العظمةـ التي اكتسبها من العلم لا قيمة لها لأنّ الذي يهمّ الإنسان ليس فقط أن يكون عظيما في عين نفسه بل عظيما في عين الإله. فهو كالعبد المطيع الذي كلّ همّه هو رضا سيّده عليه وحمايته له. هناك ميل إنساني لطلب الحماية مفروض من ضعفه الطبيعي. فهو يعتقد أنّه محدود و تافه ما لم يكن مسندا من قبل قوّة عليا. إن الإنسان يبحث دائما عمّن يعترف به و كأنّه لا يستطيع أن يوجد إلاّ كتابع أو كعبد أو كطفل صغير يسرُّ بشكر وليّ أمره له. و لإدراك معنى أن تكون قيمة الإنسان زائفة في غياب الإله، تخيّل أن كلّ سكّان هذا العالم يأتونك ويقولون لك سننتحر جميعا ونترك لك العالم بكلّ ما فيه: بذهبه وقصوره و منتجعاته و بساتينه و سيّاراته.... كلّ ذلك سيكون لك مباشرة بعد الانتحار. فكيف ستكون حالتك؟ ألا تشعر بأن هذه القيمة المتأتية من كونك ملك أو سلطان هذا العالم هي قيمة زائفة طالما أنّك لا تجد من تبرهن له على هذه السلطة أو القيمة؟ لمن تُوجد؟ و لمن تبدع وتكتشف و تبني الحضارة؟ و سواء عشت بعد البشرية يوما أو شهرا أو سنة أو قرنا فما هو الفرق؟ كلّ شيء سينتهي بنهايتك. تلك هي وضعية الإنسان المعاصر بعد موت الإله كما يقول نيتشه. بموت الإله لم يعد لوجود الإنسان قيمة أو معنى. فمن أجل من يوجد؟ قد نقول سيوجد من أجل نفسه، أي يوجد من أجل تحقيق حاجياته المادّية و المعنوية. لكن هذه النوعية من العيش لا ترضي الإنسان لأنّها بشكل أو بآخر لا تختلف عن الوجود الحيواني و لا تسمو به الألوهية. حتّى التفكير نفسه موظّف لخدمة شهواته المادّية. الوجود الذي يبحث عنه الانسان المعاصر صاحب الثقافة العلمية هو الوجود المعنوي الصرف أي ذلك الوجود الذي للرّوح، كالوجود الذي ينسب للإله. مصيبة الإنسان أنّه يحيا في هذا العالم و عينه على السماء. يحيا في هذا العالم و ذهنه فكرة الإله. فميزة هذا الوجود أنّه وجود لا يبلى بفعل الزمن لا يطرأ عليه تغيّر أو اندثار. هو وجود خالد هذا هو الوجود الذي يستحق بالفعل أن نصفه بوجود ذي قيمة. بل أكثر من ذلك فالإنسان لا يقبل حيوانيته إلا على مضض. كلّ ما يقرّبنا من الحيوان نحاول أن نضفي عليه طابعا أخلاقا ثقافيا لتناسي طابعه الحيواني. نلاحظ ذلك في الزواج مثلا. فالزواج هو بالأساس لتلبية الغريزة الجنسية و لكن عندما يقام العرس لا يذكر هذا الهدف بل إنّه يصبح مسألة ثانوية المآدب و الرقص و الغناء و التفاخر... و كل التراتيب الآخرى المعقّدة. لم يخطئ الفلاسفة القدامى عندما قالوا أن الفلسفة هي التقرّب من الألوهية بقدر الطاقة الإنسانية. و بطبيعة الحال و الإبتعاد عن الحيوانية.
إن الإنسان المعاصر المتطوّر الوعي لا يمكن أن تحلو له حياته طالما أنّه يعي أن الفناء ينتظره كالحيوان و كأنّه لم يوجد أصلا.
و لسائل أن يسأل و هل كان الدين يقف حاجزا بين الإنسان و الموت؟ أ لم يكن الإنسان يشعر في إطار الثقافة الدينية أنّه عبد مخلوق ضعيف و فان؟
لم يكن الدين حاجزا بين الإنسان و الموت و لكنّه كان حاجزا بين الإنسان و الشعور بالفناء. لا يعتقد المتديّن أن في موته اندثاره الأبديّ لأنّه يعتقد أن بعد الموت هناك انبعاث لحياة جديدة. هذه الحياة الدنيا هي المقدّمة أو الأساس الذي تتوقّف عليه الحياة الأبدية أي الخلود في الجحيم أو الخلود في النعيم.
إضف إلى ذلك فطالما أن هناك إلها، فإن الإنسان حيّ في ذاكرة الإله. فحتّى قبل انبعاث يوم الحساب فإنّ الميّت موجود في ذهن الله بل هناك من يعتقد أن روحه تلتحق بالرفيق الأعلى. قد يندثر من ذاكرة الآخرين لكنه لا يندثر من الروح الإلهية.
كلّ هذه الاعتبارت مع ما يلحقها من راحة نفسية لا توجد مع الإلحاد. فلا حياة بعد الموت و لا إله يحفظ روح الميّت من الفناء.
ما هو الحلّ لهذه المعضلة؟ كيف للملحد أن يظفر بالخلود و هو خلود لا يمنحه إلا الإله؟ إذا ألغى الإله فمن سيدرك الإنسان بإستمرار و يحفظ ذاكره من الإندثار؟
في العادة يستمدّ الفرد في شبابه قيمته من وعيه بذاته. يبدو مكتفيا بذاته و ليس في حاجة للغير. لكن عندما يكبر و يصاب بالوهن و يشعر أنّه اقترب من القبر يتغيّر تفكيره فيصبح مسالما و متديّنا و السبب في هذا التحوّل هو أنّه في هذه الفترة من العمر يدرك قيمة الآخر و خاصة الإله بالنسبة له. فهما اللذان سيحفظان ذكراه من الاندثار. لذلك عادة ما ينهي حياته متعبّدا ذليلا للإله و للآخرين. لكن هذا النمط من الحياة هو نمط الفرد في الثقافة الدينية.
في وقتنا الحاضر و في إطار الثقافة العلمية ليس أمام الفرد إلاّ أن يعوّل على وعي الآخر و هذا ما يجعل علاقة الحبّ في زمننا تحتلّ مكانة هامّة في حياتنا لأنّها ليست مجرّد اقتران بين شخصين بل تأسيس لوجود فكري للإنسان. نفس التأسيس أو البقاء المعنوي يحصل عليه الفرد بإنجاب الأبناء. لكن هذا الحلّ محدود القيمة لأنّ الأفراد الذين نعوّل عليهم في انقاذنا من الفناء هم أنفسهم معرّضون للفناء. فمن منّا يعرف جدّه التاسع أو العاشر. و تنكّرك لجدّك العاشر هو نفسه تنكّر حفيدك العاشر لك. إذا كيف نظفر بالخلود رغم انعدام وجود الإله بما يلحقه من غياب الحساب و العقاب؟
ليس أمام الفرد و الحالة هذه، إلاّ أن يعوّل على الإنسانية. فالإنسانية هي التي تخلّد الفرد و تنقذه من الفناء. لكن الإنسانية لا تخلّد من هبّ و دبّ. فهي لا تخلّد إلاّ من ضحّى من أجلها. فالذي يقدّم خدمات جليلة للإنسانية، تكرمه الإنسانية بأن تحفظ ذكراه من النسيان. فما قدّمه أفلاطون في مجال الفلسفة و ما قدّمه باستور في مجال الطبّ و ما قدّمه نيوتن في مجال الفيزياء... يجعل الإنسانية تعتبرهم عباقرة خالدين.
هذا الدور الذي أصبحت تقوم به الإنسانية في إطار الثقافة العلمانية -و هو إضفاء الخلود-، هو نفس الدور الذي كان يقوم به الإله في الثقافة الدينية. لكن الفرق بين الثقافتين هو أن النجاح في الثقافة الدينية متأتّي من الورع و العبادة بينما في الثقافة العلمانية متأتّي من تطوير الحضارة و خدمة الإنسانية.
قد يقول البعض و أيّ خدمة قدّمها نجوم الرياضة كرياضة كرة القدم أو المصارعة... ونجوم الفنّ كالغناء والرقص حتّى نعتبرهم مشاهير خالدين؟ هل يعقل مثلا أن نساوي في القيمة بين نادية كومنتشي وفلانتينا ترشكوفا؟ هل من المعقول أن نعتبر ألفا بلوندي و اينشتاين في نفس المستوى من النجومية؟ لا يشككّ أحد في خدمة العلماء للإنسانية، و لكن أيّ خدمات قدّمها أهل الرياضة والفنّ؟
الواقع أن أهل الرياضة و الفنّ هم أيضا يستحقون أن نحفظ ذكراهم. فهؤلاء يتمتعون بمؤهلات وقدرات غير عادية ولذلك يُنظر إليهم على أنّهم محظظون و لهم نوع من السموّ و هناك من يبالغ فيعتبرهم مسنودون من قبل قوّى خفية. لكن الذي يهمّنا هنا هو أن النجم من هؤلاء النجوم يعطينا درسا في تطوير الذات. فالنجم بما له من قدرات خارقة للعادة يُعتبر نموذجا نقتدي به لنحقّق المستحيل و نتجاوز ضعفنا. من هذه الناحية تكرم الإنسانية هؤلاء. هؤلاء النجوم هم جسرنا نحو الكمال. يطمئنونا أن ضعفنا وعجزنا ليس أبديا و القدرة و السموّ في متناول الإنسان. و التعاطف مع النجم هو في الواقع تعاطف مع الكمال.

 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى