نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

قصة قصيرة ... البُشَارة

حيدر عاشور
تخلّيتُ عن كلّ ما كان لي، ولم يبق لي غيرُ ايماني.. مزقت كل أوراق الاطباء، ورميتُ جميع العلاجات، وتحملتُ اقسى الضغوطات النفسية.. مسكينة زوجتي كانت هي الهدف في جلسات الذين لا يخافون الله او من هم على نيتهم، والقليل جدا هم الناصحون بمحبة تشعر بها فيرتاح قلبها المنكسر. كنت أنا طبيبها الدائم اسكنْ ألام الكلام الموجع بالتضرع الى الله فهو الذي يعرف السر وما خفى. سنين تمضي ونحن تحت قوس نار المقارنات بأشخاصٍ لا يرتقون الينا لا بالسمعة ولا بالشرف ولا بالإيمان.. كنا أنا وزوجتي نتَّقي الكلام بالصبر وعدم الرد، ونستعصي على أنفسنا من أي نظرة حاسدة او شامته، ونرضى بالقليل وما قسمه الباري لنا من ارزاقهِ ونحمده حمداً دائماً على جميع نعمهِ، ونعطي فدية العمر بالصبر الجميل.
خير ما نعمله هو التمسك بما قسمه لنا رب السماوات، ولكن زوجتي كانت مهمومة تبكي جزعا، وكانت الايام تطويها حسرة وخوف ويأس. أما أنا فبكائي كان داخلياً يمزق احشائي، فقد انقطع الامل بعد سقوط الجنين الاول.. يا فرحة التي لم ددتم!.. وزاد الهم والوجع بالسقوط الثاني الذي هز زوجتي التي تركت دراستها الجامعية للمحافظة على جنينها.. ثلاثة سنوات حتى غاب عن اعيننا الامل في الانجاب. ثلاثة سنين لم تنطفئ مجامرنا.. ولم تهدأ أرواحنا، والبكاء لم يهدأ، والتضرع في كل مكان نلمس منه الامل ونألف من الاجابة. وكل روايةٍ رويت عن الانجاب من الاموات والاحياء تمسكت بها ولم احظي بالمراد.. عذاب في عذاب عشت في كل زاوية من البيت، وقهر في قهر بكل مجلس يذكرونني بتأخير الذرية..
وفي كل يوم كانت دورة الكلام تعيد مرارة الاشتياق لولدٍ يطفئ كل هذه النيران وصخب الاحاديث. تبدّلَ كل شيء فيّ وتغيرت، وحاولت أن أغير فكر زوجتي عن ترك فكرة الانجاب، ونبقيّ إرثنا الوحيد هو الحب الصادق بيننا. هذا كان كل ما تبقي لي بعد ان مزقت ذاكرة أن أكون –أب- ومزقت تغلغل الشيطان الى إتلاف راحتي، وقايضت النفس ان تكون حليمة بنجاحي كإعلامي في أطهر بقعة على الارض وقرب باب الرحمة التي وعد الله عباده بها.. فمن دخللها أمن العذاب وكسب الجنة، فكيف وأنا عامل في قلب الجنة.. فكل الاشياء لم تعد لي ذات أهمية؟. واصدقائي وخلاني وحتى جيراني ومن أسمعَ زوجتي الكلام القاسي لم يعد لي شيء. وعنواني غيرته، فلم يعد لي عنوان، أنا وزوجتي فقط نحيا ونسير ونموت، نكبر مع أحلامنا بصمت، اذا فاضت استفاضت معها الروح. وأن خفت أحلامنا نحملها الى الله ونسعى بين ابوابه ونشقى في التضرعات حتى يأخذ أمانته.
انتعشت تجربتي كإعلامي، ونشغل ذهني بالعمل اليومي، واقفلت كل الآمال والاحلام وانقضى من العمر سنين من الانتظار الموجع. لقد كان لي طرقي الخاصة فمشيتُ بها، وأسلمت قانون حياتي الزوجية لله.. حتى كأن الذي يتمنى ويحلم ويصبر ويتألم غرّ سواي. وأسمع كل هسيس خفيّ ما بين الشماتة، والانتقاد، والتقليل من شأني وشأن زوجتي يتسرب من الذين أبعد الله عنهم الرحمة في الكلام. وزوجتي رغم صبرها الذي منحته لها بالملاطفة.. لم تزل خلف جدار البيت تكتظ بالخوف وعيناها بانتظار دائم وهي شارة الفكر سبب او بلا سبب. بقيت تستظل بالحكمة والدعاء، وحدهما كانا لها الاطمئنان الروحي لعذابات قلبها المهضوم والمحروم من الذرية.
وقبل أن تستطيبَ عذاباتي، ونضارةُ زوجتي ومباهجُ بيتي.. يا لهذا الصبر المشتعل بالنار وهو يلف الروح جعلني ادخل الى ضريح الامام الحسين(عليه السلام) والدمع يملأ المآقي.. دوامة الزيارة أخذتني بعيداً لست أذكر الى أين، بل لست أعرف ماذا قلت في جزعي المؤلم.. وحين انتهيت طار قلبي من مكانه فرح، وارتفعت معنويات روحي الى أعلى درجات السعادة.. وانهمرت دموعي وشممت رائحة الضريح الزكية وأنا أتنفسها.. جاء صوت صديق: تقبل الله طاعاتك.. بهذا الشعور الجميل الممتلئ بالإيمان والرضا يراد لك زيارة الى السلطان علي بن موسى الرضا لتأخذ بُشَارتك منه.. هناك عند غريب الطوس لك هدية تنتظرك؟!. لم أكذب القول بل أجمعت كل ما فيّ من طاقة معنوية ومادية وذهبت الى الإمام السلطان وقلبي يئنْ، وعند وقفوفي عند جدثه بدأ كل جسدي يئنْ.. كان الانين دمعاً كالجمر تذرفه عيناي، وجبيني ينضح عرقاً فيختلط دمعي مع عرقي فيغطي وجهي كأن شيء ما سيحررني، شعرت بانني طير طار، وجالَ تحت قبة الضريح.. شعورٌ لا يوصف وأنا التمسُ دفئاً لم اتحسس مثله، فاستعدُ لطلب حاجتي، وموجة الزائرين تسحبني الى المرقد.. ما أن مسكت بيدي شباك الضريح جاء في رأسي سيدي الامام الحسين عليه السلام، فقلت:

  • بحق كل قطرة من دم جدك افرح قلبي وقلب زوجتي بطفل اسميه على اسمك.. أيها الرضا الغريبُ، بحق -الدماء الزاكيات- بكربلاء، أسعد قلب زوجتي وقلبي بولد يحمل اسمك.. فقد قاومت في النفس كل الهواجس، وكل المخاوف وعند بابك شعرت بالأمان والاطمئنان..
واستمريت بتكرار طلب حاجتي والعهد الذي قطعته بالالتزام بالاسم والعودة للشكر مع أهزوجة وتهليل(جيتك سيدي ومولاي هذا وليدي سميته على اسمك علي).. وما أن انتهيت حتى شعرت بالرضا الداخلي، ونفسي المطمئنة ان الامر سيكون. بدأت أؤمن بنفسي، وبقدرتي على الخلق والابداع حتى توغلت في صنع مستقبلا يرفع من شخصيتي. يا لعظمة الانسان عندما يقف وجها لوجه أمام مصيره يحارب الحقدُ المتراكم في النفوس، ويخوض عراكاً غير مرئي ومرئي أحياناً من أجل الايمان بعدالة الله.. والصبر يعزف أنينه، يتكلم، يضحكُ على الجاحدين وطواويس الحياة, وقلبه يدق كصوت الطبل عند كل مشهد مقدس.
دفترُ زيارتي لم يطّوي، وروحي نصفها مع زوجتي.. مفتوحِ العيون تقرأ بالتمتمات الخفية، وأمنيتي تجتازُ قمةَ الصبر، تناطحُ الحياة بخفقة القلب وهدأة الضمير.. لأنها لا تعرف الحساب والظنون واليأس، لأنها مجبولة من طينةِ كربلاء وقبس ضريح شهيدها الخالد.. سبعة أشهر أعمق من الدهور بلا طبيب أو أعشاب وشيء كأنه معجزة لا خيال، جاءت البُشَارة من السلطانِ، بنفحة أمل ليكون في رحم صانع الحياة بذرة الحلال من الُمحال.. وأتمت زوجتي شهورها لتكون مع الايام على وفاق وهي تستنشق الحياة سعادة ملء رئتيها.. حتى ضمّدت جراحات صبرها بملاك أسميناه على العهد ( علي)..





 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى