نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

هل الإنسان حرّ؟

هل الإنسان حرّ؟: الإنسان أمام الغريزة و الحتمية و السببيّة

لأنّ الإنسان كائن واع، أي أن له في ذاته مبدأ الإقدام على الفعل أو الإحجام عنه، فإنّه يختلف عن الكائنات الحيّة في خضوعها الكلّي للغريزة ويختلف عن الكائنات الجامدة في خضوعها الكلّي للحتمية. أمّا الإنسان فيخضع للغريزة و للحتمية ولكن في حدود. فهو يلبّي بعض غرائزه نعم، ولكن ولكن أيضا قد يحرم نفسه من تناول شيء يشتهيه. أمّا بخصوص الحتمية فصحيح أن الإنسان ينمو غصبا عنه و يموت في النهاية ككلّ كائن حيّ غصبا عنه و لكن هناك عدّة مجالات أخرى تخلّص فيها الإنسان من الحتمية التي تتحكّم فيه. مثال ذلك أن الطيّار الذي تتعرّض طائرته لعطب ينزل على الأرض بالمضلّة و بفضلها لا يكون نزوله على الأرض مثل سقوط الصخرة. و الأمثلة عديدة في هذا المجال. إذا تبعا لذلك، يمكن أن ننظر للوعي على أنّه هو الذي خلّص الإنسان من الخضوع للغريزة و الحتميّة معا إلى حدّ ما و بالتالي هو الذي مكّنه من أن يقطع شوطا كبيرا في درب التحرّر. صحيح أنّه ليس حرّا و لكن هو بصدد التحرّر. وهذا ما جعل ديكارت يقول عن الإنسان إنّه بفضل وعيه هو إمبرطورية في إمبرطورية أي عالم بأسره في عالم آخر هو الطبيعة.
لكن الإنسان و إن كان لا يخضع للغريزة و الحتمية كلّيا. فإنّه يخضع للسببيّة. صحيح أنّه يريد و لكن لا يريد بدون مؤثرات. إرادته ليست مبدأ بل نتيجة أي لها بواعث في الواقع بمعناه الشامل (طبيعي، اقتصادي، اجتماعي، سياسي، و حتّى نفسي...) خضوع الإرادة للسببية يجعلنا نشكّ في وجود هذه الحرّية. هناك عاملان على الأقلّ يدفعاننا إلى عدم التسرّع في الحكم بأن الإنسان كائن حـرّ:
أوّلا: نلاحظ أن السلوك الإنساني استجابة لمؤثرات طبيعية واجتماعية. باعتبار أن ردّ فعل الإنسان من أجل الصحّة النفسية يجب أن يتناسب مع هذه المؤثرات يصبح الواقع نفسه هو الذي يملي نوعية الاستجابة. إن الوسط الذي نوجد فيه هو السبب الحقيقي في تحديد مواقفنا (البعد النظري) وسلوكنا (البعد العملي).
ثانيا: من جهة أخرى نحن لا نريد شيئا ما إلاّ في إطار ما نعرف. فنحن لا نريد المجهول بل المعلوم. فالإرادة تتحرّك في مجال المعرفة، وباعتبار أن لا معرفة إلاّ للواقع يصبح الواقع إطارا يحدّد المعرفة وتصبح المعرفة إطارا يحدّد الإرادة. إن كان الأمر كذلك فذلك يعني أن الإنسان لا يريد عشوائيا وإنّما يتّبع الممكن تحقيقه. ما يريده ما أراده إلاّ لأنّه يمكن أن يريده. إذا طالما أن الإرادة تتحكّم فيها أسباب، و أن الإرادة بدون أسباب هي ضرب من العبث، نستنتج أن لا حرّية حقيقيّة للإنسان. أو على الأقلّ علينا أن نغيّر مفهوم الحرية.
إن وضع الإنسان في الطبيعة لغريب حقّا فهو يريد أن يكون حرّا و لكن من جهة أخرى لا يستطيع أن يريد بدون أسباب. أليس التروّي قبل اتخاذ القرار، هو في الواقع البحث عن الأسباب التي ستؤسس للقرار و بالتالي التي ستحدّد الإرادة. أليست الإرادة بدون تدبّر ضربا من الجنون؟ ولكن من جهة أخرى أليس البحث عن الأسباب هو البحث عن الخضوع؟ هل مازلنا نتحدّث عن قرار حرّ إذا بحثنا عمّا يؤسس قرارنا؟ أليست الحرية الحقيقية هي الإرادة بدون مؤثرات مهما كان نوعها؟ أليس من المفروض أن يكون الوعي سلطة ذاتية للقرار؟ ما هي قيمة الوعي؟ كيف يكون الوعي أداة لتمرير السببية ولا يخلّص الإنسان منها ليكتسب حرّيته؟
كلّ هذه الاعتبارات تفضي بنا إلى القول أن الحر الحقيقي هو المجنون. و لكن أي قيمة لحياة المجنون؟ ها نحن أمام مشكل إمّا الحرية و الجنون أو الوعي و العبودية؟ و لكن حتّى لو اختار الإنسان الجنون فإنّه لا يذهب إليه بإرادته.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى