نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

المعرفة العلمية بين القطيعة و التطوّر

المعرفة العلمية بين القطيعة و التطوّر

يعتقد البعض أن المعرفة العلمية لا تتطوّر إلا بسببين، عبر القطيعة الإبستيمولوجية (تغيّر كلّي) و عبر إعادة الصهر (تغيّر جزئي) و لكن كيف يستقيم مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية مع تطوّر المعرفة العلمية؟ و كيف يتّخذ مفهوم القطيعة كحجّة على هذا التطوّر؟
إن مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية لا يدرك كمسافة زمنية متعيّنة في التاريخ و إنّما يدرك فقط بالنظر إلى ماضي العلم و حاضره أي بفعل المقارنة. و عندما نقول إن مفهوم القطيعة لا يدرك واقعيا فلأنّ العلم الجديد لا يأخذ هويّته و لا يتميّز عن تارخيه في طرفة عين بل يستغرق ذلك زمنا. و هذا يعني أوّلا أن القطيعة الإبستيمولوجية ليست حينية و ثانيا أن ايديولوجيا العلم لا تنزاح عن بديله إلاّ في مدّة طويلة و ثالثا أن العلم الصحيح ليس صحيحا كلّيا. فهناك تداخل بينه و بين ماضيه. و بهذا الشكل لا يمكن أن نطابق بين مفهوم العلم و الحقيقة بل نعتبر المعرفة العلمية تتضمّن الخطأ أي عوائقها الإبستيمولوجية.
يحاول هذا الطرح أن يفسّر كيفية تطوّر العلم و يجب التنبيه أن جملة 'العلم يتطوّر" تطرح عدّة أسئلة منها هل يجوز الحديث عن العلم مطلق العلم أي ألا يكون هذا المصطلح ميتافيزيقيا يتجاوز تاريخية و واقعية العلوم؟ ثمّ كيف نوحّد أجزاء "العلم" المتناقضة التي يطرحها الإقرار بمفهوم القطيعة في العلم؟ و بطريقة أخرى إن كانت القطيعة تقف بين الإيديولوجيا و العلم فكيف نلحق هذه الإيديولوجيا بالعلم؟
يقف وراء القول بتطوّر المعرفة العلمية حديث عن العلم في مستوى فوقي هو العلم المنسجم و المتماثل مع ذاته الذي لا قطيعات فيه و مستوى تحتي من العلم أي واقعية مختلف التوجّهات المتناقضة للطبيعة بما فيها العلمي و الإيديولوجي. و هنا نكون تجاه علم يصارع ايديولوجيات أو خطابات لاعلمية. إن العلاقة بين المستويين الفوقي و التحتي ليست علاقة انعكاس. ففي المستوى التحتي نجد التطاحن بين الخطابات
في حين لا نجد في المستوى الفوقي ذلك الصراع. كلّ التناقضات في المعرفة العلمية تساهم في بناء العلم من حيث هو تاريخ. تماما كالرّوح عند هيجل، فالروح لا تلغي ممّا يحدث شيئا إذ أنّ كلّ ما يحدث يساهم في بنائها. فالحديث هنا عن العلم الذي يقطع (و الذي هو جزء أو مرحلة) ليس هو عينه عن العلم الذي يتطوّر (هو العلم من حيث هو تاريخ). لكن قد يقع الاعتراض على هذا النقد بالقول إن مفهوم العلم في المستوى الفوقي يستوعب فعلا خطابات ايديولوجية و علمية و هذا عينه ما يحصل في المستوى التحتي إذ أنّ فَصْلنا بين علم خاطئ و علم صحيح لا يكون إلاّ على مستوى نظري، و لكن واقعيا فالتداخل قائم و أن المعرفة العلمية تتضمّن عوائقها. و هكذا يصبح مفهوم العلم غير ميتافيزيقي بل له بعد واقعي إذ يظهر لنا مستوعبا التناقضات الواقعية في تفسير الطبيعة. إن القول إن المعرفة تتضمّن عوائقها هو حكم على حاضر العلم و مستقبله قياسا على ماضي العلم. و هذا يتناقض مع مفهوم الاسترداد الإبستيمولوجي. إذ القول بأن المعرفة العلمية تتضمّن الخطأ هو قول يفقد مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية أهمّيتها و يحفّف من وطأتها و يمكن أن نقول أن من يحكم هذا الحكم ـ و منهم باشلار ـ لا يستنتجه من تاريخ المعرفة العلمية و لكن وقع إحداثه لـيُفهم به تطوّر المعرفة العلمية.
يمكن قبول هذا الاعتراض رغم أنّه يظلّ من قبيل توحيد عالم اللغة مع عالم الوقائع لا أكثر. إذ يظهر التناقض بينهما جليّا عندما نطرح السؤال التالي: أي علم يتطوّر؟ على أيّ علم سنطلق صفة التطوّر؟ هل على العلم الخاطئ أم على العلم الصحيح أم على العلم؟
إن العلم هنا، مطلق العلم، هو ذاك العلم في المستوى الفوقي. إن هذا العلم المتحدّث عنه هنا يتطابق مع تاريخ العلوم الفعلية. إن التطوّر محمول هنا في الفهم العادي على هذا العلم. و هنا لا يمكن أن نفهم كيف يتطوّر هذا العلم الذي هو في حدّ ذاته تاريخ العلم، إذا لم نقارب بين التطوّر العلم و تطوّر الرّوح عند هيقل. إن هذا التطوّر تحوّل من مستوى الحاصل عن القطيعة الإبستيمولوجية إلى مستوى السابق و المتجاوز و الشامل لها باعتباره يشمل ايديولوجيا العلم. و إن كان لا معنى لتطوّر الخطأ و الصواب فلا معنى لعلم يتطوّر باستيعابه للخطأ و الصواب. إن هذا العلم الذي يتطوّر ليس العلم الفعلي الواقعي و لكن مصطلح العلم.

ب. كما لا يمكن أن نقول إن العلم الخاطئ يتطوّر إنْ كنّا نفهم التطوّر في معنى تغيّر الشيء تغيّرا لا يفقده هويّته. فالتطوّر هو تغيّر يحصل في مجال الشيء و لا يحوّله إلى شيء آخر و إلاّ أصبحنا تجاه قطيعة ابستيمولوجية. و طالما أن التطوّر يرتبط هنا بالعلم الخاطئ فلا شكّ أن المقصود به هو انتقال نوعي من ايديولوجيا إلى علم لا ينطبق عليه مفهوم التطوّر. و نفس الشيء مع العلم الحقيقي. فهو كذلك لا يتطوّر إذا فهمنا من التطوّرِ القطيعةَ إذ أنّنا لا نسعى إلى ما وراء مطلوبنا. من هنا نستنتج أن لا مجال للربط بين التطوّر و القطيعة. فالقطيعة لا تكون إلاّ نوعية و التطوّر لا يكون إلاّ في صلب الهوية. إذا فالتطوّر لا يكون إلاّ في العلم الصحيح (الحقيقي) أي هناك تجاوز يبيّن محدودية هذه المعرفة العلمية و لكن لا يبيّن خطأها كتجاوز الميكانيكا النسبية للمكانيكا الكلاسيكية أو الهندسات اللاأقليدية للهندسات الأقليدية. إن التطوّر المقصود هنا يتطابق مع مفهوم إعادة الصهر عند باشلار و هكذا لا يتطوّر العلم بالمفهوم التقليدي لكلمة تطوّر أي بفعل الإنتقال أو القطيعة إذ أن هذا العلم الحقيقي لم يكن سابقا. فإن كانت هنا قطيعة فلا شكّ سوف ينشأ العلم. فلا قطيعة ابستيمولوجية إلاّ مع ايديولوجيا العلم. و هذه القطيعة لا تكون على مستوى المضمون فقط بل تكون على مستوى العلم. أي يجب أن نبرز هويّة هذه الدراسة السابقة كايديولوجيا لا كعلم ماض. وهذا يسمح لنا بالحديث عن العلم في مستوى واحد، ليس ذلك العلم المتجاوز لنفسه و مع ذلك يجرّ وراءه ماضيه بل ذلك العلم الذي توصّل إلى إستقراء خصائص الظواهر التي يدرسها وحدّد قوانينها المنسجمة مع نظام الطبيعة. و بهذا الشكل لا وجود إلاّ لعلم واحد. و هكذا لا يمكن أن يكون للعلم تاريخ. و قد يُعترض على هذا التفسير بالقول أن هذا الفهم للعلم هو فهم مثالي كما أنّه يجرّد الصراعات الواقعية الممتدّة في التاريخ و يفهم القطيعة الإبستيمولوجية على أنّها آنية و يتحدّث عن ايديولوجيا العلم و عن العلم الموضوعي من حيث أنّهما ناجزان، كما أنّه انتهى إلى نفي تطوّر المعرفة العلمية في معنى القطيعة أي في النهاية هناك نفي لتاريخ العلم. فعلا فهذا التحليل ينتهي إلى هذه الأحكام و جوهر التناقض بين الاعتراض و الطرح هو في فهم كيفية حصول القطيعة الابستيمولوجية. إن المعترض هنا يعتبر أن القطيعة لا تحدث آنيا مصبغا على نظرته طابعا واقعيا. فعلا يجوز ذلك فواقعيا لا تحدث القطيعة فجأة و لا يتشكّل العلم فجأة. و لكن، واقعيا أيضا، ليس لنا حجّة على أن "الطبائع الخصوصية" للعلم السابق (الخاطئة طبعا) و المتواجدة في العلم الحالي سوف تلغي. إن القول إن القطيعة لا تحدث فجأة. و أن المعرفة العلمية تتضمّن عوائقها هي أحكام يحب الحدّ من إطلاقيتها. فإنّ كنّا استنتجنا ذلك من نشأة الفيزياء الكلاسيكية فلا يجب أن نشرّع للعلوم مستقبلها و إلاّ تنقلب الإبستيمولولجيا إلى فلسفة تقليدية. إن النظرة الواقعية للعلوم هي التي تأخذ العلم الحاضر على أنّه العلم المطلق فلا مجال للقول بمحدودية المعرفة العلمية، فإمّا أن نكون تجاه العلم أو لا نكون تـجاهه. فالقطيعة الإبستيمولوجية لا تُطوّر العلم و إنّما تخلقه.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى