نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

التنوير بالزاي

التنوير بالزاي

حاميد اليوسفي

قصة قصيرة


"الثقافة لا تمنع أحدا من أن يكون سافلا"*

أنهى الطلبة الامتحان الأول في ظروف عادية رغم ما يطبع الأستاذ من صرامة ودقة في التقويم. فهو يردد دائما في محاضراته بأنه يمنح النقط لمن يستحقها. ويحكون عنه بأنه منح ابن أخته نقطة متدنية جدا أدت إلى تكراره السنة. وبغض النظر عن تشدده في التقويم، فقد أحبوا أسلوبه في التدريس، وما يقدمه لهم من مساعدات تخص محاضراته التي يضعها رهن إشارتهم لاستنساخها دون أن يستفيد منها ماديا .
على العكس من ذلك ينتظرهم اليوم امتحان آخر مع أستاذ آخر، سيجري في ظروف معقدة، تشبه مجزرة في حرب بين طرفين غير متكافئين. وقفوا على بعد بضعة أمتار من قاعة الامتحان، يتبادلون الحديث، وينتظرون دورهم بقلوب مرتجفة .
خرج طالب متجهم الوجه، يشتم كيفما اتفق. قال وهو يجيب عن سؤال صديقه :
ـ ولد الفاعلة طرح علي أسئلة استفزازية، لا علاقة لها بما يدرسه ؟!
خرجت بعده إلهام من القاعة، وهي تكاد تطير من الفرح. قالت لوئام قبل أن تدخل:
ـ لم يوجه إلي أي سؤال. تبادلنا فقط الحديث حول بعض الأمور الخاصة، ووعدني بالحصول على نقطة جيدة، بشرط ستعرفينه بعد قليل .
يظن بعض الطلبة بأن الرجل مصاب بخلل ما في جهازه النفسي. فالدكتور عندما يقف وسط حلقة من الطلبة يبتسم للإناث، وتنشرح أساريره، وهو يتحدث معهن. وأحيانا يمد يده ليسوي خصلة شعر إحداهن بتلذذ كما تفعل بعض الأمهات مع بناتهن. بينما ينظر إلى الذكور بتجهم، وكأنه غاضب ومتضايق من وجودهم. يتبادل الطلبة الأخبار حول انتقامه من بعضهم، ويروون عنه مواقف غريبة تبدو أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع حتى أصبحت صورته مثل صورة الغول الذي تخيف به الجدات الأطفال الصغار ليناموا باكرا. لم يجرؤ أحد من الطلبة على فضح ما يحصل بصوت عال.
حذره أحد أصدقائه في الشعبة غير ما مرة، وطلب منه أن يكف عن بعض تصرفاته المسيئة لوظيفته كأستاذ باحث بالجامعة، لكنه لم يكن يعلم بأن الأمر قد وصل حد الابتزاز والتحرش الجنسيين.
كان عندما يصطاد طالبة يتحايل على ضميره، بأنه إذا لم تنم معه، ستنام مع من هو أقل شأنا منه ، إذن فهو أولى بها من غيره .
دخلت وئام، وهي مرتبكة. وقفت أمام الطاولة، وألقت تحية الصباح احتراما لمقام الأستاذ. رفع الدكتور المعقد رأسه، وأذن لها بالجلوس
نظر إليها باندهاش! أزال النظارتين، وبدت العين اليسرى كأن بها حول. مسح النظارتين، ووضعهما من جديد على عينيه. مستقبل الفتاة يتوقف على اجتياز هذا الصراط الملعون. باشرها بالسؤال عن هويتها :
ـ الاسم الكريم، ورقم التسجيل ؟
أجابت بإيجاز وحذر.
فاجأها بسؤال آخر :
ـ من أي منطقة (الأمّورة) ؟
ارتبكت ، تساءلت مع نفسها، ما علاقة المنطقة و(الأمورة) بالموضوع ؟
صمتت برهة ثم أضافت بصوت بدا عليه نوع من التوتر :
ـ الأصل من الجبل، ومسقط الرأس بالمدينة.
رائحة عطر طيب تملأ المكان ببطء. قال وهو يمتحنها من فوق إلى تحت :
ـ جميل! كلنا مسكونين بهذا التوحش الفاتن القادم من السهول أو الجبال .
بدا على وجهها شيء من القلق. ما أسرت به إلهام ظل صداه يتردد في أذنيها، وهو ما جعلها تتوقع بأن هذه المقدمات لا تبشر بخير. تمنت لو انتقل إلى العمل الذي يجمع بينهما على الطاولة، ويبدأ بطرح الأسئلة والملاحظات، وتناقش معه القضايا والأفكار. ويعمل تقويم موضوعي، ثم يضع نقطة، وتذهب إلى حال سبيلها، وتنتهي المهمة. تنتظر أسبوعا أو أسبوعين، وتتلقى النتيجة .
لم يحدث شيء من ذلك. وبدلا من الدخول في صلب الموضوع، انحرف مرة أخرى إلى هوامش لا علاقة لها بالامتحان، فقال بخبث:
ـ لا داعي للتوتر. صورتك سبحان الخالق الناطق! لو تمعن فيها الناس لأضاعوا نعالهم في الصحاري، مثلما فعل جميل بن معمر.*
همس في نفسه كمن فرح بشكل مباغت بعد أن عثر على شيء ثمين ضاع منه
ـ من أي جنة خرجت ؟ هذه الشيطانة لو قدمت لي خدمة بسيطة لن تستغرق أكثر من ساعة، لمنحتها كل ما تريد من هذه الجامعة.
الوقت يمر بطيئا. ما توقعته وئام هو الذي حصل. اللعين يريد تحويل جسدها إلى موضوع يتغزل به. بدأ الدم يغلي في عروقها، ويصعد إلى وجهها. فحصها مرة ثانية من تحت إلى فوق، ثم أخرج عينيه، وثبتهما على فتحة القميص في أعلى صدرها، ووضع يده فوق ظهر يدها:
سحبت يدها بسرعة. أحست بخيط الجلد ينتفخ، ويلتف حول عنقها ليخنقها. لا بد من كسر الباب قبل أن يُغلق عليها بالقفل داخل هذه الزنزانة الملعونة. وضعت رأسها بين يديها حتى كادت تجهش بالبكاء، وقالت بصوت انفجر مثل البركان :
ـ عيب يا دكتور!؟
بدأ يلعب بالقلم في يده اليمنى، وتردد قليلا، كمن يفكر في تبرير ما قام به بأنه عاد وطبيعي :
ـ لا يا عزيزتي. هناك منعرجات وعرة في البحوث والدراسات، لا تتوقع أي شهرزاد الوصول إليها، مهما جابت من براري وبحار في عالم الحكي والمعرفة !
ثم سكت لحظة وأضاف:
ـ تبادل المصالح لعبة قديمة وبسيطة، تحكم العلاقات في السياسة والاقتصاد والحياة والمعرفة وحتى الفراش .
لم يترك خيطا للرجعة. بدا كالطفل الذي يضع خصومه بين خيارين، إما أن يلعب، أو يجمع كرته، ويُحرمهم من اللعب .
وجدت نفسها أمام معادلة صعبة: إما الكرامة أو الماستر! فقررت بشكل مفاجئ قطع شعرة معاوية .
رمته بكل ما كتب القرن الثامن عشر عن التنوير، ونهضت ثم بصقت على وجهه :
ـ (تفو) عليك أدكتور. الشهادة قد تثبت أنك دكتور، لكنها لا تمنع أن تكون سافلا . وأنا أرفض أن أصبح سافلة مثلك !
في المساء عندما عاد إلى البيت، كتب مقالا حول التحرش، وأبرز أهم أعراضه السلبية على المرأة، ودعا إلى وضع قوانين زجرية قوية للحد من خطورته، ثم أرسله إلى الجرائد الإلكترونية

المعجم :

*لوك فيري
ـ جميل بن معمر شاعر عاش في العصر الأموي و تربع على عرش الغزل العذري.

مراكش 09 يوليوز 2021
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى