نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

الإنساني بين الكثرة و الوحدة

الإنساني بين الكثرة و الوحدة

I. الإنساني هو صفة تحمل على كلّ ما يرتبط بالإنسان وبالتالي كلّ ما يأتيه الإنسان يشكّل ما هو إنساني. و نحن عندما نتحدّث عن الإنسان فإنّنا نقصد حسب الفهم المتداول الإنسان في مختلف منازله في التاريخ. فلفظة "الإنسان" تضمّ الإنسان البدائي و الإنسان القديم و إنسان القرون الوسطى و إنسان العصر الحديث ثم الإنسان في وقتنا الحاضر. طبعا كان للناس في كلّ مرحلة من مراحل تاريخهم سلوكات تطوّرت عبر الزمن. و كأمثلة للتوضيح فحسب كان الإنسان البدائي يغطّي عورته بأوراق الشجر لكن حصل تطوّر حتّى وصلنا إلى استخدام القماش. كانت أسلحته من الحجارة و الخشب، حاليا يستخدم أسلحة نارية و نووية و غيرها. كان ينام في أكواخ، اليوم يسكن في منازل و عمارات... و الفوارق كثيرة. الآن عندما نسأل: هل أن تغطية العورة بأوراق الشجر هو سلوك إنساني أم حيواني؟ طبعا هو سلوك إنساني مثله مثل تغطية الجسم بالثياب طالما أن هناك أناس قاموا بذلك حتّى و إن كان هذا السلوك لا يتكرّر اليوم. قيل لنا أن في الأزمان الغابرة أن بعض القبائل تأكل البشر. هل أكل الإنسان لأخيه الإنسان سلوك إنساني؟ طبعا! هو كذلك طالما أن هناك من قام به. و الحكم نفسه على كلّ السلوكات الشاذّة و الغريبة. نكاح المحارم، اغتصاب الرضّع، التمثيل بالأسرى من جدع للأنوف و بقرٍ للبطون و فَــقْــإٍ للعيون...
تبعا لكلّ ذلك فإن لفظة "الإنساني" تجمع أو توحّد كل أتاه الإنسان عبر التاريخ. فمهما كانت غرابة سلوكات بعض الأفراد فإنّنا لا نستطيع أن نقصيهم عن الحظيرة الإنسانية. هكذا يرى البعض.

II. لكن عندما نتأمّل بعمق خصوصيات الحضارة البدائية و الحضارة المعاصرة نقف على اختلافات جوهرية و تدفعنا إلى أن نعتقد أن من المبالغة و التعسّف و حتّى الخطأ الجمع بينهما في لفظة واحدة هي "الإنسان". فعندما نقارن بين الإنسان البدائي و الإنسان المعاصر كأنّنا نقارن بين الذئب والكلب صحيح هما يشبهان بعضهما لكن كلّ واحد منهما يعود إلى نوع خاصّ. هذا الفرق هو عينه بين الإنسان البدائي و الإنسان المعاصر. شتّان بين الإنسان البدائي الذي يستر عورته بأوراق التين و يسكن المغاور و يطلق أصواتا شبيهة بالهمهمة و بين الإنسان المعاصر الذي يقود الصواريخ و يتحكّم في طائرات بدون طيّار و يتخاطب مع غيره عبر الإنترنت. هل أن العائلة من الأشخاص البدائيين الذين يطلقون أصوتا شبيهة بالأصوات الحيوانية و يتزوّجون من بعضهم البعض بدون معرفة للحلال و الحرام هل هؤلاء سلوكاتهم إنسانية؟ ما الذي يجمع الإنسان المعاصر الذي رحل إلى كواكب أخرى وقاد الصواريخ و بنى المدارس و الجامعات و المستشفيات و صنع أدوات تواصل حديثة و وسائل إعلام متطوّرة... ما الذي يجمعه بالإنسان البدائي الذي يسير عاريا حتّى أمام أفراد أسرته و يأكل اللحم نيّئا تماما مثل ما تفعل الحيوانات؟ الواقع لا علاقة بينهما.
بهذا الشكل نكاد نقول إن لفظة "الإنسان" لا تنطبق إلا على الإنسان المعاصر. و بالتالي فـ "الإنساني" هو ما يأتيه الإنسان المعاصر فقط، ذلك الذي يحيا في مدينة تسيّرها قوانين فيها بنية تحتية من دكاكين ومدارس ووسائل نقل و طرقات و أسواق و كلّ هذه الأمور غريبة عن الإنسان البدائي. هكذا نخلص إلى أن "الإنساني" له معنى واحد و معناه هو صفة لكلّ ما يأتيه الإنسان المعاصر أو ما يشترك فيه الإنسان في مختلف منازله في التاريخ مع الإنسان المعاصر. مثال هل أن أفلاطون إنسان و هل كان سلوكه إنسانيا؟ طبعا هو إنسان وسلوكه إنساني لأنّه كان فيلسوفا و الفلسفة موجودة حاليا عند الإنسان المعاصر. و هكذا يتحدّد ما هو إنساني و غير إنساني (في التاريخ) دائما بالرجوع للإنسان المعاصر. و حتّى نكون مخلصين للنتيجة التي توصّلنا إليها من الأفضل أن لا نقول "الإنسان البدائي" و "الإنسان المعاصر"، لأنّنا بذلك نجمع بينهما في لفظة "الإنسان" و كأنّ الاختلاف بينهما هو شكلي أو ثانوي، لذلك وجب أن نقول "البدائي" "الإنسان المعاصر" و هكذا نتحدّث عن كائنين لا رابط بينهما.

III. لكن بعيدا عن الموقف الأوّل الذي يرى أن مفهوم الإنسان هو محصّلة منازل الإنسان في التاريخ و بعيدا عن الموقف الثاني الذي يُـقْـصِـرٌ مفهوم الإنسان على الإنسان المعاصر، يبدو أن هناك موقفا ثالثا من المسألة. خطأ الموقف الثاني هو أنّه يضخّم من قيمة الإنسان المعاصر لدرجة أنّه يعتبره المعيار لتحديد ما هو إنساني. و هذا في الواقع إجحاف في حق القدامى الذين يظلّون أحببنا أم كرهنا أجدادنا. فإذا الواحد منّا يتطوّر في حياته و ينتقل من الرضاعة إلى الطفولة إلى الشباب ... فلماذا ننكر ذلك على النوع الإنساني؟ هل يستطيع أيّ واحد منّا أن ينظر إلي شخصيته لمّا كان طفلا على أنها شخصية غريبة عنه تماما؟ طبعا هذا مستحيل. فإذا كان يعترف بأن تطوّره هو تطوّر في صلب الهوية و ليس تطوّرا من نوع إلى آخر فلماذا ينكر ذلك على النوع البشري؟ نأتي الآن إلى مناقشة الموقف الأوّل. هل يقرّ الموقف الأوّل بالتطوّر في صلب الهوية؟ لا! لا يقرّ بذلك. هو الأقرب للصواب و لكن ليس صائبا كلّيا. عندما يقرّ الموقف الأوّل أن الإنسان هو حصيلة منازل الإنسان في التاريخ فإنّه يتحدّث عن تطوّر يفضي إلى قطيعات. بتعبير آخر يقرّ بأن الإنسان البدائي هو إنسان و الإنسان المعاصر هو إنسان أيضا و لكن في كلّ مرحلة تاريخية يتّميّر بخصوصيات معيّنة تجعله في قطيعة مع الإنسان الذي سبقه. في نظر هذا الموقف صحيح أن لفظة "إنسان" تجمّع و لكنّها تجمّع أشكال مختلفة من البشر لا علاقة بينهما.
يبدو أن الموقف السليم من المسألة، هو النظر إلى تطوّر الإنسانية كما ننظر لتطوّر الفرد في حياته. الإنسانية هي أيضا لها طفولتها و شبابها و كهولتها... فالعصر البدائي هو طفولة البشرية. و مثلما أن الواحد منّا لا ينظر لشخصيته و هو طفل على أنّها شخصية غريبة عنه كذلك لا يجب أن ننظر للإنسان البدائي على أنّها شخصية غريبة عنّا. و مثلما أن كلّ شخص يحمل تاريخه معه كذلك كلّ واحد منّا يحمل تاريخ الإنسانية في ذاته. عمر كلّ واحد منّا (من الناحية المعنوية طبعا) هو عمر الإنسانية. هكذا يكون تطوّر الإنسانية تطوّرا سلسا، و هو تطوّر في صلب الهوية مثل التطوّر في حياة كلّ فرد. و كلّ فرد عندما يطوّر حياته يطوّر حياة الإنسانية برمّتها لأنّ هناك آخرون يستفيدون من إكتشافاته. هكذا يكون التطوّر. بهذا الشكل يستحيل أن نضبط مفهوم "الإنساني" فهو مفهوم مفتوح على ميدان الإمكان. سيظلّ مفهوما يقبل التوسّع و التغيير طالما أن الإنسان على وجه الأرض. و قد سبق لجون بول سارتر أن قال هذه الفكرة لكن على الفرد. قال إنّنا لا نستطيع أن نحكم على أيّ شخص إلا بعد وفاته. فطالما هو حيّ فهو مشروع أي يمكن أن يغيّر حياته و يفاجئنا بشخصية لم نكن نتوقّعها. فهو كائن حرّ يصعب أن نتكهّن بما يأتيه. فما قاله سارتر على الفرد ينطبق على الإنسانية أيضا.
 
التعديل الأخير:

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى