نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

حصاد مؤجل

حصاد مؤجل
يذوب الصمتُ كشمعةٍ فوق مذبحِ الأقنعة، تطلُّ اليدُ من شرنقةِ النقاء حاملةً سكينَها المُزيّفَ بغمدِ السلام. ليست يداً، بل لغزٌ مُدوَّرٌ كالثعبانِ الذي يلعقُ سمَّه قبل أن ينفثه. تسيلُ دماءُ "الشرف" من عنقِ الوهم، لكنْ... أيُّ شرفٍ هذا الذي ينزفُ من أوردتِه الأسماءُ لا الجروح؟ إنها طقوسُ المرايا المُعتَّمة: كلُّ جرحٍ ينعكسُ كتميمةٍ في عنقِ الجلاد. أنا هنا، أبكمُ كحجرٍ نُحتت عليه ألفُ لغةٍ ميتة. يحفرُ المُحققُ في جبينِ الزمنِ بحثاً عن بصمةِ المجرم، غافلاً أنَّ أصابعه تلمسُ وجهي المُعلَّقَ كمرآةٍ في متاهتِه. سأتركُه يطحنُ أسئلتَه البليدةَ في سوقِ الأجوبةِ الجاهزة، حيثُ تشتري العيونُ الحديديةُ حقائقَ مُعلَّبةً بصلاحيةِ انتهت قبل الولادة. الكلماتُ تتناسلُ في حنجرتي كالنملِ الأبيض في هيكلِ سفينةٍ غارقة. كلُّ محاولةِ صراخٍ تتحولُ إلى مرجانٍ أسودَ يزينُ قاعَ الصمت. البئرُ تبتسمُ بغطائها المُطابقِ لقياسِ الجمجمة، أما دخانُ الكلامِ المحترقِ في أحشائي فيرسمُ على جدرانِ روحي خرائطَ مدنٍ مفقودة. في الغرفةِ المجاورة، يرقصُ الظلُّ مع ضحكتهِ الميكانيكية. هو يعرفُ أنَّ الموسمَ يأتي دوماً متأخراً، حينَ يتحولُ القمحُ إلى رمادٍ والرمادُ إلى شعرٍ يُنشدُ للموتى. لكنَّ السؤالَ الأعمقَ يطفو كجثةٍ في نهرِ الوجود: ماذا لو كان "فصلُ الحصادِ" مجردَ أسطورةٍ اخترعناها كي لا نُصلّي على جنازةِ الانتظار؟ الآن، بينما تُغلّفُ الشكوكُ العالمَ كغشاءِ جرحٍ لا يندمل، أسمعُ همساتِ السكينِ القديمةِ تُناجي دماءها: "لا تبحثْ عنّي في قبضةِ اليد، بل في الفراغِ الذي تُركتُ فيه حينَ اختاروا السلامَ قفازاً". ربما هذه هي الجريمةُ التي لم يُدركها المُحقق: أننا جميعاً نحملُ السكينَ والجرحَ في آن، نزرعُ الأسئلةَ في حقولِ الآخرين، ثم نتعجّبُ حينَ يحصدون غباراً.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى