عبد الرحيم التدلاوي
كاتب
1
لم يكن يعرف إن كان استيقظ حقاً، أم أن الحلم ألقى به إلى يقظة مزيفة.
كان الضوء معلقاً في السقف كجثة ناعمة، تتأرجح بهدوء.
فكّر:
هل يمكن للضوء أن ينتحر؟
ثم نهض، أو تظاهر بذلك.
المرآة التي أمامه لم تعد تعكس صورته، بل ترصد تحلّله.
2
كان اسمه... لا، لم يكن اسمه واضحاً.
كلما حاول تذكّره، سال الاسم من بين أصابعه، كما تسيل الدماء من فم الذاكرة.
"أنا... ذاك الذي لم يحسم شيئاً قط،" قالها مرة لامرأة صامتة،
ردّت دون أن تنظر إليه:
– "الذين لا يحسمون، تحسمهم الحياة."
3
في الليالي، لا تأتيه الكوابيس من الخارج، بل من داخله.
ظلال طفولته تتسلل تحت باب غرفته،
حذاء والده الطاغي،
ضحكة أمه المهزومة،
والقط الذي دفنه حيًّا وهو في السابعة.
4
هل يحق للأطفال ارتكاب جرائم؟
قال لذاته مرة، ثم ضحك،
ضحكته كانت تشبه رصاصة مرتدة.
5
في المصعد، التقى بجاره المسن،
قال له: "هل تعرف ما الذي يجعل الإنسان يخاف؟"
هزّ العجوز رأسه.
قال: "أن يُغلَق الباب، لا من الخارج، بل من الداخل."
ثم ضحك الجار، ضحكة بلا أسنان.
من يبني سجنه بنفسه، سيظل يبحث دون جدوى عن مفتاح في جيوب الآخرين.
6
هو الآن في عمله.
الموظفون يشبهون بعضهم:
وجوه بلا ملامح،
ضحكات بلا فم،
وأحاديث محفوظة على طريقة المصاعد: قصيرة، خانقة، وتهبط بك تدريجياً.
7
زميلته تقول له:
– "أنت لا تبدو بخير."
يرد:
– "أنا مجرد استراحة بين كابوسين."
تضحك،
ظن أنها فهمت، لكنها فقط سمعت شيئاً يشبه المزاح.
8
في المنام، زاره وجهه.
نعم، وجهه هو، لكنه كان ينظر إليه كغريب.
قال له:
– "لقد أضعتني حين قررت أن تخاف من وضوحك."
أجابه:
– "الوضوح مؤلم."
قال الوجه:
– "وما الحياة؟ ألم أقلّ شفافيةً؟"
ثم تلاشى.
9
مرّة، قرّر أن يكتب رسائل إلى مستقبله.
كتب في الأولى:
"أنا آسف لأنني لم أقتلك حين كنت ضعيفًا."
وفي الثانية:
"احترس من تلك الفكرة التي تبتسم لك كل ليلة."
وفي الثالثة لم يكتب شيئاً،
ترك الورقة بيضاء،
كان يعتقد أن الصمت أحياناً يصرخ.
10
قال له صديقه في الحانة:
– "أنت تسير وحولك ظلٌّ كثيف."
قال:
– "الظلّ أنا. الذي يمشي هو الماضي."
ضحك الاثنان، ثم سكنا فجأة كأن شيئاً مرّ،
شيء لا يُرى، لكنه يُثقل الهواء.
11
الليل طويل،
أطول من سيرة ذاتية كاذبة.
هو الآن يتمشى في عقله،
كل باب يفتحه يوصله إلى نفس الغرفة.
كل نافذة يطل منها يرى نفسه يسقط.
لا يصرخ.
لقد تعب من الصراخ الذي لا يسمعه إلا هو.
12
وفي اللحظة التي قرّر فيها أن يواجه الكابوس،
أن يدخل فيه بكامل وعيه،
أن يصرخ: "كفى!"
استيقظ.
لكنه لم يجد جسده.
وجد، فقط، ظلاً، جالساً في السرير،
يضحك.