نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

ندبة

ندبة
**

في زقاقٍ يتمطى بين سفح جبلٍ وتنهيدة مئذنة، في حيٍّ عتيق من أحياء فاس، عاش رحّال بن مسعود، رجلٌ نحيلٌ كقصبة، أشعث كشجرة زيتون عجوز، وحيدٌ إلا من قطٍ أعرج يدعى بوشتة.

كان صانع أحذية يدوية، ورغم أن السوق امتلأت بنعالٍ بلاستيكية لا تحتاج قلبًا ولا حرفة، ظلّ يطرز الجلد كما لو أنه يُخيط ذاكرته الأخيرة.

كان يقول:
"الحذاء المهترئ يعرف صاحبه أكثر من أمه، فقد مشى معه فوق الخوف والجوع والخذلان، ولم ينفكّ عنه."

وكان دكانه رطبًا، كأنّ العفن قد استوطن فيه من فرط الزمن، لكن بوشتة كان يحبّه، ويتمدد كل مساء فوق الطاولة الخشبية كحارس خاسر للمعنى.

قال له بوشتة ذات مساء، والريح تتسلّل مثل فأرٍ عجوز:
ــ "يا صاح، لماذا لا تهرب من هنا؟ العالم خارج الزقاق، كبير، مفتوح كفم السؤال."
أجابه رحّال وهو يُصلح كعب حذاء قديم:
ــ "هربت كثيرًا يا بوشتة، حتى صار وجهي مرآة للهاربين."

وسكت قليلاً ثم تمتم:
"العزلة ليست وحدة، بل محاولة لصيانة القلب من ضوضاء لا تَشفى."

كان أمله في كل غرزةٍ يخيطها.
لكن الأمل، في عينيه، لم يكن أكثر من نكتة ثقيلة.
"الأمل؟... لعله خدعة ابتكرها العقل ليبرر للروح تأخّر نهايتها."

في ظهيرة مغبّرة، جاءه طفل صغير، حافٍ، يحمل ورقة مطويّة. فتحها، فإذا بها صورة مرسومة لطفلٍ يبكي.
ــ "قال أبي إنك تصلح الأشياء. هل يمكنك أن تصلح هذا الحزن؟"

أخذ رحّال الورقة، وضعها على صدره، وقال:
ــ "الحزن لا يُصلَح يا صغيري، لكن يمكن حياكته في بطانة القلب حتى لا يظهر للناس."

ثم التفت إلى بوشتة وقال وكأنه يتحدّث إلى نفسه:
"رحّال لا يعيش ليبقى، بل ليخيط ذاته كلّ مساء، خيطًا فوق خيط، كي لا يتبعثر تمامًا."

في اليوم التالي، عاد الطفل. لم يحمل شيئًا هذه المرة.
ــ "أبي اختفى."

لم يردّ رحّال، فالصمت أحيانًا أصدق من التواسي.
طلب من بوشتة أن يقول شيئًا.
لكن القطّ أدار ظهره، وخرج من الدكان، كأنّه يهرب من معنى الوجود نفسه.

قال الطفل فجأة:
ــ "لماذا لم تتزوج؟"
ردّ رحّال وهو ينظر إلى سقفٍ تتدلّى منه خيوط العنكبوت:
ــ "لأني أحببت امرأةً تشبه الوطن، لا تُحبّ، فقط تُنتظر."

وسكت، ثم تابع همسًا:
"الوطن لا ينتظر أحدًا، هو فقط يتعفن ببطء داخل ذاكرة المطر."

رفع الطفل رأسه وقال:
ــ "هل الوطن مثل الخرتيت؟"
ابتسم رحّال لأول مرة منذ أشهر.
ــ "الوطن؟ لا، الوطن لا يصير خرتيتًا، الناس هم من يُقرّرون أن يتحوّلوا إليه."

ثم أضاف، بنبرة أقرب إلى الحلم:
"لم يعد يخاف من الفقر، بل من أن يصير عادياً؛ من أن لا يثير في أحدهم حتى الشفقة."

غابت الشمس فجأة، كأنها استيقظت على عبث وجودنا فقررت أن تختبئ.
أخرج رحّال من خزانة صغيرة زجاجة داكنة، رشّ منها في الهواء، ففاحت رائحة غريبة... مزيج من الرماد والحنين وشيء يشبه النعناع.

ــ "ما هذا؟" سأل الطفل.
ــ "عطر اسمه: لو أن... كان كل شيء مختلفاً."

ثم أردف، كأنه يحدّث غائبًا:
"هناك نوع من الرائحة، لا يُشمّ، بل يُتذكّر... تمامًا كألمٍ قديم كان يجب أن يُقال، ولم يُقال."

جلس الطفل على الأرض، ناظرًا إلى السقف.
ــ "لماذا كل الناس تمشي مسرعة؟"
ــ "لأنهم يخشون أن يسمعوا خطاهم، فيكتشفوا أنهم لا يذهبون إلى مكان."

بوشتة عاد، نظر إلى رحّال بعين واحدة، وتمدد قربه.
ــ "هذا القط..." قال الطفل.
ــ "ليس قطًا"، ابتسم رحّال، "إنه تذكير يومي بأن لا أحد يختار شكله، لكن يمكنه أن يختار كيف يعرج."

ثم تمتم لنفسه، والطفل غافٍ في حضنه:
"ما الحاجة للحب، إن كان كل ما نحتاجه هو يد لا تتركنا ونحن نعبر شتاء أرواحنا؟"
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى