نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

حين تسبقني يدي

لا تصدقني؛


حين تسبقني يدي
**




في عتمة الغرفة، خُيّل إليّ أن يدي لم تعد لي تمامًا.
كانت مشدودة إلى قطعة قماش باردة، لا طلبًا لدفء، بل كأنها تحاول تثبيت شيء ينفلت ببطء. ظننتُ في البداية أن الأمر عابر، حركة جسدٍ لا أكثر، ثم تهيّأ لي أن المسألة أعمق؛ أن اليد تسبقني، تختبر وجودها أولًا، وتتركني أبحث عن دوري.

كان الفراغ من حولي كثيفًا، له ملمس لا يُخطئه الجسد. حسبتُ أنني أتوهم، لكن الإحساس استمر. رائحة تراب رطب ملأت أنفي، يعبرها أثر ياسمين واهن. بدا لي أن الرائحة لا تنتمي إلى المكان وحده، بل إلى زمنٍ آخر، زمن لم يغادر تمامًا.

حين أغمضت عيني، ظننتُ أن الظلام سيبتلع كل شيء. لكن الذي حدث هو امتلاء مفاجئ. تهيّأ لي أن وجوهًا شاحبة خرجت من داخلي لا من العتمة؛ تظهر، ثم تنسحب، بلا ملامح مستقرة. شعرت بلمسة باردة على وجنتي. لم أفزع. خُيّل إليّ أنها ليست تهديدًا، بل تنبيهًا خفيفًا. همسات اقتربت من اسمي، أو هكذا حسبت، ثم تلاشت قبل أن تكتمل.

في الليل، يعود الحلم نفسه.
يد تخرج من الظلام.
تقترب.
تتبدل.
مخالب.
أجنحة.
لا صراخ.
لا نجاة.
سقوط بلا أرض.

أستيقظ مذعورًا.
القلب يسبقني.
والصمت أثقل من الصوت.

ذات مساء، تهيّأ لي أنني أرى كتابًا في زاوية الغرفة. لم أفاجأ، بل شعرت أنني تجاهلته طويلًا. جلست قبالته، والصفحات مفتوحة. لم أحاول فهم الرموز. خُيّل إليّ أن القراءة لم تعد فعلًا، بل انتظارًا، وأن التحديق وحده كافٍ.

خطر لي، أو ظننت أنه خطر لي، قولٌ لا أعرف إن كنت قرأته يومًا أم اخترعته لاحقًا:
نحن لا نضلّ لأن الطريق معقّد، بل لأننا نصرّ على أن يكون له معنى.

أغلقت الصفحة ببطء. بدا لي أن الإفراط في الفهم ليس فضيلة، بل قلق مؤجل، وأن الاستمرار لا يحتاج سببًا واضحًا، بل قدرة على الاحتمال. شعرت أن الكتاب لا يقدّم نفسه، بل يختبر المسافة بيني وبينه.

تكرّر الإحساس بعدها:
خيّل إليّ أنني لست من يتحرك تمامًا،
وأن شيئًا ما يوجّه الإيقاع من الداخل،
لا يجبرني،
ولا يتركني.

في مرآة الحمام، تهيّأ لي أن عينين تظهران خلفي.
قريبتين.
صامتتين.
التفتُّ بسرعة.
لا أحد.

عدتُ إلى المرآة. خُيّل إليّ أن انعكاسي يتأخر لحظة، كأن الصورة تفكّر قبل أن تقلدني. لم أبحث عن اختلاف، فقط لاحظت أن الثبات هذه المرة كان أكثر إرباكًا من الحركة.

منذ ذلك الوقت، لم أعد أبحث عن تفسير.
الخوف لم يعد صراخًا،
بل يقظة طويلة.

وأحيانًا، حين تعود تلك اليد إلى الهامش القريب من بصري، لا أسأل إن كانت تطاردني…
بل إن كنت أنا من تهيّأ له أن يفلت منها.
 
نصك يلتقط لحظة اهتزاز الوعي في مهبّ التصدّع النفسي، ويُجسّد ببراعة حالة من التنازع الخفي بين الذات وظلّها، بين الجسد كأداة للحضور، والوعي كمرآة مشروخة لا تكفّ عن ارتجافها.
اللغة هنا ليست وسيلة للتوصيل، بل كيانٌ حيّ، يتنفس القلق، ويُراوغ المعنى، ويُراكم الإيحاءات دون أن يُغلقها على تأويلٍ واحد.

اليد التي “تسبقني” ليست مجرد صورة غرائبية، بل مفتاح تأويلي يُطلّ على عالمٍ تتفكك فيه الحدود بين الفعل والإدراك، بين الداخل والخارج. هذا الانفصال الجسدي-النفسي يُعيدنا إلى سؤال الهوية: من أنا حين لا أتحكم في أطرافي؟ من أنا حين يتأخر انعكاسي في المرآة؟

الزمن في النص ليس خطيًا، بل زمن داخلي، حلقي، يتكرر ويتشظى. الحلم لا يُفصل عن اليقظة، والرموز (الكتاب، اليد، المرآة) لا تُشرح، بل تُترك لتتخثّر في وعي القارئ، كما تتخثّر في وعي الشخصية.

أُقدّر كثيرًا هذا التوازن بين الانسياب الحسي والانضباط البنيوي. فالنص، رغم طابعه التأملي، لا يتوه في التجريد، بل يحتفظ بخيط سردي خفيّ، يُمسك بتلابيب القارئ دون أن يُقيده.

ربما ما يميّز هذا النص أكثر من غيره هو أنه لا يسعى إلى “شرح” التجربة، بل إلى استحضارها كما هي: مربكة، رخوة، مشبعة بالظلال. وهذا ما يجعله نصًا يُقرأ أكثر من مرة، لا بحثًا عن المعنى، بل عن الصدى.

أحييك على هذا التمرين العميق في الكتابة من الداخل.
 
سعي
نصك يلتقط لحظة اهتزاز الوعي في مهبّ التصدّع النفسي، ويُجسّد ببراعة حالة من التنازع الخفي بين الذات وظلّها، بين الجسد كأداة للحضور، والوعي كمرآة مشروخة لا تكفّ عن ارتجافها.
اللغة هنا ليست وسيلة للتوصيل، بل كيانٌ حيّ، يتنفس القلق، ويُراوغ المعنى، ويُراكم الإيحاءات دون أن يُغلقها على تأويلٍ واحد.

اليد التي “تسبقني” ليست مجرد صورة غرائبية، بل مفتاح تأويلي يُطلّ على عالمٍ تتفكك فيه الحدود بين الفعل والإدراك، بين الداخل والخارج. هذا الانفصال الجسدي-النفسي يُعيدنا إلى سؤال الهوية: من أنا حين لا أتحكم في أطرافي؟ من أنا حين يتأخر انعكاسي في المرآة؟

الزمن في النص ليس خطيًا، بل زمن داخلي، حلقي، يتكرر ويتشظى. الحلم لا يُفصل عن اليقظة، والرموز (الكتاب، اليد، المرآة) لا تُشرح، بل تُترك لتتخثّر في وعي القارئ، كما تتخثّر في وعي الشخصية.

أُقدّر كثيرًا هذا التوازن بين الانسياب الحسي والانضباط البنيوي. فالنص، رغم طابعه التأملي، لا يتوه في التجريد، بل يحتفظ بخيط سردي خفيّ، يُمسك بتلابيب القارئ دون أن يُقيده.

ربما ما يميّز هذا النص أكثر من غيره هو أنه لا يسعى إلى “شرح” التجربة، بل إلى استحضارها كما هي: مربكة، رخوة، مشبعة بالظلال. وهذا ما يجعله نصًا يُقرأ أكثر من مرة، لا بحثًا عن المعنى، بل عن الصدى.

أحييك على هذا التمرين العميق في الكتابة من الداخل.
د باستحسانك سيدي الزهاوي.
شكرا لك على عمق تعليقك.
بوركت.
نقديري.
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى