عبد الرحيم التدلاوي
كاتب
**
يقوم الفانطاستيك هنا بدوره المعروف في زعزعة الحدود بين الواقع والخيال، لكنه لا يفعل ذلك بالطريقة المدرسية التي تحدث عنها تودوروف فحسب، بل بما يشبه انفتاحا داخليا للواقع نفسه على احتمالات مقلقة. هو تردد دائم، اهتزاز خفيف في نظرة القارئ، شعور بأن ما يحدث قد يكون معجزة أو وهما، وأن كليهما ممكن بالقدر نفسه. ولهذا يندس العجيب داخل اليومي دون مقدمات، كأنه جزء طبيعي من المشهد؛ جزء مألوف لا يمكن فصله عن الباقي.
ويتجلى هذا البعد الفانطاستيكي بوضوح في مشاهد مدهشة، مثل تحليق تابوت الولي الصالح في الفضاء، ذلك المشهد الذي يضع القارئ بين إيمانه بما هو مقدس وبين حسه الفطري بالغرابة (ص 135). ويتكرر هذا الإحساس حين يتحول عوبا، بفعل الجنية، إلى كائن خارج حدوده البشرية، ثم يحترق دون أن يترك رمادا، قبل أن يعثر على جثته سليمة. يصبح الرجل، فجأة، أسطورة حية، مادة لحكايات تتناقلها الألسن، فتذوب الحدود بين الواقع والمتخيل في نسق سردي يعيد تشكيل الحقيقة نفسها (ص 136).
والجنية هنا ليست مجرد عنصر عجائبي يستدعى للتزيين؛ إنها قوة تحكم مصائر شخصيات منهكة، تنتقم من الضعيف كما تنتقم من المتغطرس. هي التي أحرقت عوبا، وأحرقت الروبيو أيضا، وقلبت حياة الزوهرة رأسا على عقب بفقدان الذاكرة (ص 110 و111). المشهد الذي يجمع بين اللذة والألم في فصل “الحب يقتل أحيانًا” يبرز هذا التعالق بين الرغبة والموت. الروبيو الذي طمح إلى مشروع يخرجه من طبقته، انتهى إلى حريق وتبددت أحلامه كما تبدد هو نفسه، بينما الزوهرة، التي تركت النار مشتعلة وهربت بالمال، وجدت نفسها أمام مصير لا يقل قسوة. هكذا يتحول الفانطاستيك إلى آلية لتحريك السرد، وإلى طاقة داخلية تمنح الرواية ذلك “النسيج الإمبريالي” القادر على ابتلاع الواقع كله، بما فيه الكاتب نفسه وقد صار شخصية داخل العمل.
ويمكن النظر إلى هذه التدخلات الخارقة باعتبارها انزياحات رمزية تكشف التوترات الكامنة تحت جلد المجتمع. فأسطرة عوبا ليست سوى محو للهوية الفردية وإحلال القوى الجماعية المتخيلة محلها. واحتراق الروبيو على يد كائن ناري هو سقوط حلم الثراء أمام قوة أكبر من الرغبة نفسها. أما فقدان الزوهرة لذاكرتها، فهو وجه آخر لامحاء ذات المرأة تحت سلطة مجتمع لا يمنحها سوى السخرية منها والحط من قيمتها؛ وتصوير الزوهرة على أنها شبقة، تميل لكل الرجال ما هو إلا تضخيم لهذا البعد فيها، إذ الواقع المخفي هو أنها إنسانة لم تجد الحنان المطلوب ولا الدفء القادر على دفع غول الوحدة في الكبر، ذلك أن هذه الششخصية حكم عليها بالعقم أي بعدم الخلفة التي تعد صمام أمان لها في وجه قسوة العالم.
وتستفيد الرواية من أفق بصري قريب من السينما، فتجعل من اللحظات الفانطاستيكية مشاهد قابلة للرؤية، لا مجرد أحداث تروى. تتحرك “الكاميرا المتخيلة” في زوايا مختلفة: لقطة بانورامية تكشف امتداد المشهد وتحليق التابوت، لقطة من الأعلى تظهر هشاشة الناس أمام الحدث، وأخرى من الأسفل تكسبه هالة أسطورية. حتى اللقطات القريبة تتدخل لكشف ما هو خفي، سواء في ملامح برايس المشتت، أو في يد الرجل التي تمتد خلسة نحو متاع امرأة في الحافلة. وهكذا يصبح القارئ مشاهدا يراقب العالم وهو يتشكل أمامه وفق منطق مزدوج: منطق الواقع ومنطق السينما.
بهذه التقنية، يتحول السرد إلى تصوير متحرك، ويغدو الفانطاستيك مرآة ثانية للواقع، لا تكتفي بعرضه، بل تعيد إنتاجه بصريا. وهي إعادة إنتاج تؤدي، في النهاية، وظيفة ما بعد حداثية واضحة: تفكيك يقينيات الواقع، ضرب أحاديته، وتقديم حقيقة تعددية تتجاذبها الأسطورة بقدر ما يجذبها الواقع. فالتحليق والتحول والانمحاء تتجاوز بعد التزيين لتصير أدوات لقراءة العالم وهو ينزاح من تحت أقدامنا.
ومع هذا البعد العجائبي، تستحضر الرواية حضور الأضرحة والزوايا، تلك الفضاءات التي كانت، نظريا، مخصصة لتهذيب الروح، فإذا بها تتحول إلى بؤر لتكريس الجهل وتوسيع دائرة الخرافة. ورغم أنها لم تنحرف شكليا عن خطابها الروحي، إلا أن وظيفتها الأصلية بدأت تتآكل، وصارت مجالًا لتقاطع الجنس بالخرافة.* وهنا ترسم الرواية خطين متوازيين: خط الإيروتيك وخط الأضرحة، يلتقيان تارة ويفترقان تارة، لكنهما يظلان مشدودين إلى أصل واحد: حاجة الجسد السفلي للمجتمع إلى تعويض حرمانه وإشباع نقصه.
ومن بين أكبر المستفيدين من هذا التداخل السياسي الفاسد، الذي يجد في الجهل والخرافة حليفين مثاليين. فإبقاء الطبقات المسحوقة بعيدة عن السياسة مما يضمن له التحكم، بينما يمنحها الأضرحة كمسكن روحي واجتماعي يبعدها عن مطالب العدالة. السياسي مسعود الذي يمثل نموذجا صريحا لهذا الفساد: موظف شبح، يعتاش على الريع، ويتحصن بادعاء الانتساب إلى أحد الصلحاء. لكنه يسقط، في نهاية الأمر، سقوطا يعكس هشاشته وزيفه، خاصة بعد أن ظهر عوبا كمنافس له في الرمز وهدد موقعه، قبل أن تتدخل ابنته المتعلمة لإنقاذه من العلاج التقليدي.
هذا كله يستدعي التوقف عند خطي الإيروتيك والأضرحة، وهما جوهر بحث الصحفيين أيمن وأكرم اللذين فقدا حيادهما حين انغمسا في الموضوعين معا وبالأخص ايمن. فالصفحات التي نقلبها تكشف جسد المجتمع السفلي: جسدا منهكا، مثقلا بالخرافة، غارقا في الحرمان الجنسي، حتى تبدو بعض المشاهد وكأنها عند حافة الإباحية. لكنها ليست مشاهد للإثارة، بل ترجمة لواقع مفتت، لا يجد أفراده سبيلا إلى الإشباع إلا عبر الخيانة، أو عبر التخيل أثناء الجماع، أو بالاستمناء، أو في الحافلات، أو عبر الطقوس الخرافية التي تمنح لذة موازية.
وتحت هذا الثقل الاقتصادي والاجتماعي، تتكسر نفوس كثيرة: شخصيات تفقد كرامتها تحت وطأة الحاجة، وأخرى تبحث عن الاحتيال لتصعد، وثالثة تتشبث بأوهام الانتساب للصلحاء كي تضمن امتيازاتها. لكن نهاياتها تأتي دائما على قدر زيفها: الروبيو التهمته النار، الزوهرة فقدت ذاكرتها بعد نهبها، الخليجي تم تقييد حركته، ومسعود انتهى بعد سلسلة من السقطات.
إلى جانب هذه الحكايات، يرفد السارد متنه بقصص تستقي مادتها من التراث الديني والتاريخي، كحكاية رابعة العدوية وحسن البصري، وحكايات محلية مثل “دواير الزمان”، وأخرى ذات مرجعية يهودية مثل “ابن عرس والبئر” المأخوذة من التلمود. كلها تدخل في سياقات سردية تسعى إلى تعميق المعنى وإضفاء طبقة جمالية إضافية على الرواية، لتستعيد موقعها بين الأعمال الإبداعية التي تتجاوز حدود التجنيس نحو كتابة هجينة رحبة.
أما السرد نفسه، فقد بني بطبقات متعددة تحت سلطة سارد عليم يعرف كل شيء عن شخصياته ويكشف تفاصيلها الصغيرة. ومن خلاله تتوالد الحكايات: بعضها يعود إلى الماضي، وبعضها ينفلت من أفواه الشخصيات نفسها، كما يحدث مع قصة مسعود وأخيه وجذور عائلته. هذا التداخل يمنح الرواية نسيجًا حكائيا حيا يمتد عبر الأزمنة، فيتجاوز المألوف نحو كتابة تتنفس على أكثر من مستوى.
تشششتغل الرواية على الجسد السفلي للمجتمع بكل تفاصيله: الجنس، العنف، الخرافة، الصراعات اليومية، تاركة الجسد العلوي للخطاب الرسمي متظاهرا بالجدية، متجاهلا العيوب خلف واجهات براقة. بهذا، تتبع الرواية نهجا قريبا من الرؤية الباختينية التي اعتبرت الرواية من الأدب الثوري، لأنها قلبت المعادلة بين الأعلى والأسفل، بين خطاب الملحمة الكلاسيكية وواقع المهمشين، لتكشف لغة الناس البسطاء وتجاربهم، وجسدهم المادي بكل ما فيه من أكل وجنس وموت وعنف، بعيدا عن المثاليات الزائفة. أليست الرواية في نظره نقيض الملحمة كونها تعد لسان الفئات المقموعة والمهمشة؟ أليست اللسان الذي أعاد الكلام إلى أفواه الناس المقصيين؟ أنها كذلك، وهو ما تبرزه الرواية بكلها. وفي ذلك تحضر لعبة الإزاحة والإحلال؛ إزاحة البقة المتنفذة وإحلال الطبقة المسحوقة.
وتوظف الرواية الأسطورة والحكاية الششعبية، سواء عند المسلمين أو اليهود المغاربة، لتطرح قضايا التعايش والتوتر بين الديانتين، كما يظهر في قصة اليهودية التي ضحت بحبها وحياتها حفاظا على دينها، رافضة تغييره رغم الضغوط، لتصبح الرواية انعكاسا لمجتمع متشابك، متعدد المرجعيات، يعيش في صراع دائم بين الواقع والخرافة، بين الحرمان والإبداع، بين السياسة والمقدس، بين الجنس والروحاني.
وبالإضافة إلى الحكايات المستمدة من الواقع نجد السارد قد اغنى متنه بحكايات تمتح من مرجعيات تاريخية عقدية كحكاية رابعة العدوية وحسن البصري، وتراثية محلية كحكاية ( دواير الزمان )، ودينية كحكاية ( ابن عرس والبئر) المنقولة عن كتاب التلمود.. كتاب اليهود المقدس. حكي بسياقات مختلفة ومتنوعة ومرجعيات تاريخية وتراثية بطابع عقدي أحيانا، تندرج في نسق سردي بتفاصيل وجزئيات مطبوعة بعمق دلالي، وبعد جمالي يضفي على المتن الروائي نوعية تبوئه مكانة ترقى به إلى مصاف الأعمال الإبداعية المميزة ضمن جنس أدبي ( رواية) منفتح على ألوان فنية تكسبه شمولية ورحابة. 1
وبهذا، يمكن القول إن الرواية تمنح القارئ رؤية شاملة لعالم يعج بالانكسارات، لكنها لا تقف عند الألم، بل تطرح التجربة الفانطاستيكية كوسيلة لفهم أعمق للذات الإنسانية والمجتمع، من خلال المزج بين الأسطورة والحياة اليومية، بين الواقع المادي والخيال، بين اللذة والألم، بين الفرد والجماعة، ليصبح القارئ شاهدًا على عالم متشعب، متحرك، ومتشظٍ، ولكنه غني بالمعاني والرموز.
**
* انظر كتاب حول التصرف والمجتمع للباحث لحسن السباعي الإدريسي؛ منشورات الإشارة؛ الطبعة الأولي سنة 2007.
1_ بعض أشكال السرد وصِيَغه في رواية «سِفر الأحزان» بقلم عبد النبي بزاز، جريدة الاتحاد الاشتراكي، بتاريخ 3/10/2025-