نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

كلمتي في حق الشاعر المتفرد ذي البصمة الخاصة : رضوان حلوان، كنت أظنه في بداية صداقتنا أنه من مصر إلى أن اكتشفت أنه طبيب من المغرب.

كلمتي في حق الشاعر المتفرد ذي البصمة الخاصة : رضوان حلوان، كنت أظنه في بداية صداقتنا أنه من مصر إلى أن اكتشفت أنه طبيب من المغرب.
***
"رضوان حلوان: شاعر الدهشة والحكمة في شذرات من ضوء": منذ مدة وأنا أفكر في تخصيص مقالة للشاعر الطبيب رضوان حلوان، هذا الرجل الحكيم الذي يعجن اللغة ويعيد تشكيلها برقة تبعث على الدهشة. فتراكيبه اللغوية مبتكرة ورائعة، ونصوصه بديعة وبهية، وأسلوبه متفرد لا يشبه أحدًا سواه. هو الشاعر الحكيم، والطبيب المتمرس، الذي لم يشأ أن يجمع درره في كتاب رغم إلحاح أصدقائه، وهم من طبقة الشعراء المجدين، والمثقفين اللامعين، بل آثر أن يظل كمن يغمس قلمه في عسل التأمل، ليقدمه قطرة قطرة لمن يقدر الشعر على حقيقته، لا لمن يستهلكه استهلاكًا. والغريب أن صفحته لا تضم سوى القليل من الأصدقاء، إذ يصرّ على أن يكتفي بالقليل، ويمتعهم بريشته التي تصنع الجمال في صمت النخبة، لا صخب الحشود. رضوان حلوان، شاعر متميز في حقلنا الثقافي، وإضافة مهمة في المشهد الإبداعي، بما يملكه من خصوصية في الرؤية والكتابة.
شذراته الشعرية تبرز كأحجار كريمة مبعثرة في فضاء الكتابة الرقمية، لا تصيح لنفسها، بل تهمس للقارئ المرهف. تتميز هذه الشذرات بخصوصية فنية وأسلوبية تجعلها أشبه بلحظات شعرية خاطفة، تلتقط الدهشة والألم والحنين والوجودية في لحظة عابرة، بأسلوب مكثّف ومشحون بالإيحاء. هذه الشذرات ليست مجرد تأملات نثرية، بل قصائد قصيرة مكتملة، بلغة متقشفة وثرية في آن، تنبض بجماليات عميقة لا يمكن تجاهلها.
من أبرز ما يميز شذراته هو الاقتصاد اللغوي، حيث يستخدم جملاً قصيرة ومكثفة، تحمل في طياتها شحنات دلالية كبيرة، ما يعكس وعيًا فنيًا رفيعًا بالاقتصاد التعبيري. كما يعتمد الشاعر في كثير من نصوصه على تقنيات التوازي والتركيب البلاغي، ما يمنح نصوصه نغمة إيقاعية داخلية رصينة دون الحاجة إلى الوزن التقليدي، مثل قوله: "منذ ولدتُ وأنا أقاتلُ الحياةَ كيْ أصلَ إلى موتي سالمًا"، وهي جملة تحمل توازيًا بنيويًا ومفارقة شعورية مذهلة.
وتُعد الصور المجازية الكثيفة إحدى علامات فرادته، إذ لا يلجأ للمألوف، بل يصوغ صورًا شعرية تنتمي لعالمه الخاص، كما في قوله: "دعْ خِراف النّسيانٍ تأكلُ منْ عشبِ الذاكره"، حيث يمتزج الأسطوري باليومي، وتتكاثف الرموز لتفتح الباب لتأويلات شتى. وبهذا التكنيك اللغوي، يخلق دهشة جمالية تلامس العقل والوجدان معًا.
المفارقات الشعورية التي ينسجها رضوان حلوان تشكّل بنية دائمة في شذراته، مثل تعبيره المؤلم والساخر في آن: "منذ ولدتُ وأنا أقاتلُ الحياةَ كيْ أصلَ إلى موتي سالمًا"، أو قوله: "أحبك بعدد النصوص الرديئة التي نقرؤها هذه الأيام"، وهو تصوير ساخر لحالة الحب وسط تردي الذوق الأدبي. كذلك تظهر عنده السخرية السوداء كأداة لتمرير الأحاسيس المركّبة، ما يمنح نصوصه طبقة إضافية من العمق والتعدد.
الدهشة التي يولّدها الشاعر لا تأتي من الغرابة المجانية، بل من رصد ما هو عاديّ بطريقة غير عادية، كما في قوله: "لحظة من فضلكم حتى أختار قميصًا يليقُ بجمجمتي"، فالصورة هنا غريبة لكن وراءها تأمل في الوجود والموت، وتحويل الذات إلى مرآة للكون في أكثر حالاته هشاشة.
أما التيمات الكبرى في كتابته، فهي تتركز حول الذاكرة والنسيان، حيث يخوض صراعًا داخليًا بين التمسك بالماضي ومحاولة النجاة منه، كما يظهر في: "دع خراف النسيان تأكل من عشب الذاكرة"، أو "لا وقت لذيك لتمسك بأحلامك التائهة". وهناك أيضًا ثنائية الموت والحياة التي تشكل عصب تجربته، إذ يتنقل بينهما بشفافية فلسفية نادرة، ويمنح الموت بعدًا من المصالحة، لا الرعب.
وتتكرر في نصوصه ثنائية الغياب والحضور، خاصة في الشذرات ذات النفس العاطفي، مثل: "وأنت غائبة... كيف أعرف الفرق بين الحلم والحقيقة؟"، حيث يغدو الغياب مساحة تساؤل وتيه، لا فراغًا فقط. أما الزمن فهو قيد، والمكان هو ذاكرة، كقوله: "لن أكتب عن الوقت... ويداي مربوطتان بحنين إلى الأمكنة"، حيث يتجسد الاشتياق في صورة مادية تشدّ المتلقي إلى جوهر الفقد.
أسلوب رضوان حلوان يتسم بما يمكن تسميته بـ "الشعر السردي"، حيث يروي لحظة شعورية أو وجودية في هيئة سردية لكن بلغة مجازية عالية، دون أن يفقد شاعريته. كما يعتمد على الانزياح اللغوي، أي استخدام الكلمات في غير سياقها المعتاد لخلق صدمة جمالية، كما في "يذهبون بعيدا... ولا يغادرون... سكان المقبرة"، حيث المفارقة تحيل إلى رمزية كثيفة عن الغياب الأبدي.
في كل هذا، يبدو رضوان حلوان شاعرًا نادرًا في المشهد العربي المعاصر، لا يسعى إلى الأضواء، بل يصنع الضوء من كلماته، ويبثه بهدوء في فضاء الكلمة الصادقة. هو شاعر اللحظة الوجودية، شاعر الدهشة المكثفة، والوجع الشفيف، والحكمة التي تلبس ثوب المفارقة، واللغة التي تحفر في الذاكرة كما في الروح.
لهذا، فإن تخصيص هذه المقالة له هو بعض من واجب تجاه صوت شعري يستحق أن يُقرأ بتأمل، ويُحتفى به لا لكونه يكتب، بل لأنه "يعرف كيف يكتب".
واسمحوا لي بأن أقدم لكم مثالًا من أمثلة كثيرة على سحر الكتابة لدى هذا الرجل العازف عن الأضواء، يقول في قصيدته المكثفة والمدهشة :
تبدو هادئاً للغاية.
أخبرني
ماذا فيكَ يَحتَرِقْ. !؟
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى