عبد الرحيم التدلاوي
كاتب
"رأس جلوق وتضخم الوطن: قراءة في
محكيات حاجوي"
**
عرفت المبدع حاجوي كاتبًا ساخرًا تتميز كتاباته بنقد لاذع للظواهر الاجتماعية والسياسية وغيرها. في نقده الساخر، يعري الواقع ويغوص في أعماقه ليُظهر تناقضاته الكثيرة. قلمه ينحاز دائمًا للفئات المهمشة، سواء تلك التي صور معاناتها في قصصه المكتوبة بالعربية أو العامية. وفي عمله الجديد "السالف"، يكتب حاجوي من قاع المجتمع، مستعرضًا حياة أفراده في سلسلة مترابطة من الحكايات التي تبدو كمسلسل متماسك البنيان.
في عمله الروائي "السالف"، ينسج حاجوي من خيوط الواقع المرَّةِ لوحةً إنسانيةً معقدةً، تَظهرُ فيها الشخصياتُ كأشباحٍ تائهةٍ في دهاليزِ المجتمع، تُصارعُ من أجل البقاء تحت وطأةِ الفقر والاستبداد.
تَتجاوزُ الروايةُ السردَ التقليديَّ لتُدخلَ العناصرَ الشعبيةَ كالحكاياتِ والصورِ الدينيةِ (سيدنا علي والغول)، مُحاوِلةً تفكيكَ الخطابِ الثقافي السائد. ضخامةُ رأسِ "جلوق" – المُشبَّهةُ بـ"رأس المهراز" و"راس الطارو" – تَربطُ التشوُّهَ الفرديَّ برمزيةٍ جماعيةٍ تُجسِّدُ تشوُّهاتِ الوطن.
الجسدُ كساحةٍ للصراعِ الاجتماعي
يُصبحُ الجسدُ في الروايةِ ميداناً لمعاركَ وجودية:
جسدُ "جلوق": رأسهُ الضخمُ عاهةٌ تَجعلُه هدفاً للسخرية، لكنها تَتحولُ إلى سلاحٍ للانتقامِ من مجتمعٍ رفضَه.
جسدُ الأم يتميز بجمالٌ أنثويٌّ يُحوِّلُها إلى ضحيَّةٍ لِلهمساتِ الرجالِ وتحرشاتِهم.
يُصبحُ المجتمعُ نفسُه جسداً مريضاً، يُعاني من "تضخمِ الرأس" (الفسادُ السياسي) بينما تَضمرُ أطرافُه (الفقراء).
هنا يَتعمَّدُ الكاتبُ توظيفَ السخريةِ السوداء، كما في وصفِ "جلوق" لرأسه: "لا أغسلُه إلا في الأعياد... رأسي مظلمٌ كواقعِ أبي"، ليكشفَ عن اغترابِ الفردِ في عالمٍ يَقدسُ المظاهرَ ويُهملُ الجوهر.
عتبة الغلاف
تحليل عناصر الغلاف يوضح أهمية اللون الأزرق الغامق كلغة نفسية وثقافية، حيث يرتبط بالعمق والهدوء المشوب بالحزن والتأمل، مما يوحي بأن الرواية ليست مجرد سرد عابر، بل نص يشتبك مع الذاكرة والتحولات الوجدانية العميقة. أما الكتابة باللون الأبيض، فهي تخلق تباينًا بصريًا ودلالة رمزية على النقاء الذي يواجه عتمة الواقع.
الصورة على الغلاف ليست مجرد إضافة تزيينية، بل هي لغة بصرية متكاملة تحكي فصولًا من الرواية. الشعر الطويل، رمز الجمال الأنثوي، لا يظهر هنا في صورته التقليدية، بل يتماهى مع خيط أزرق يتدلى كأنه امتداد له. هذا التداخل يثير تساؤلات حول طبيعة هذا الخيط الأزرق: هل هو قيد ناعم يقيد حرية المرأة؟ أم رمز لربط الجمال الأنثوي بإطار التقاليد؟ أم أنه خط وهمي يفصل بين الجمال والسجن الاجتماعي؟ العنوان "السالف" باللهجة المغربية يمنح الغلاف قوة إضافية، حيث يجمع بين الحسي والرمزي، ويعيد إلى الأذهان جمالًا مفقودًا أو قيمًا جمالية كانت مرتبطة بأنوثة طبيعية غير مصطنعة.
العنوان: "السالف" – بين اللغة والمجاز
اختيار هذا العنوان باللهجة المغربية يمنح الغلاف قوة إضافية، لأنه يجمع بين الحسي والرمزي. "السالف" ليس مجرد شعر طويل، بل هو تعبير يحمل في عمقه حمولة ثقافية واجتماعية عميقة. إنه الشعر الذي كان في زمن قريب علامة جمال مطلقة، لكنه اليوم صار خارج الموضة أو على هامش معايير الجمال الجديدة. العنوان هنا يحيل إلى نوع من الحنين لجمال مفقود، وإلى نوع من الحداد الثقافي على قيم جمالية كانت مرتبطة بأنوثة طبيعية غير مصطنعة. وهكذا، يصبح العنوان صوتًا مزدوجًا: صوتًا نسائيًا يتحدث عن ذاته، وصوتًا ثقافيًا يرثي زمنًا انقضى.
العلاقة بين الصورة والعنوان
الصورة والعنوان في هذا الغلاف في علاقة تكامل مذهلة: الصورة تقدم البعد البصري للسالف، والعنوان يمنحها البعد اللساني والثقافي. الصورة وحدها قد تحيل إلى إعلان تجميلي، لكن ارتباطها بكلمة "السالف" ينقلها إلى مستوى آخر: مستوى يعيد الشعر الطويل إلى سياقه الثقافي والاجتماعي، ويمنحه بعدًا سرديًا مرتبطًا بتحولات صورة المرأة المغربية عبر الزمن.
عتبة التجنيس
ما يلفت الانتباه في هذا العمل هو تجنيسه المختلف؛ ففي الغلاف الأمامي يُصنف العمل على أنه "محكيات"، بينما يُدرج في الصفحة الداخلية ضمن "الرواية". هذا الاختلاف ليس وليد السهو أو النسيان، بل هو فعل مقصود. فما الأسباب الكامنة وراء اختيار تجنيس "محكيات" ووضعها على ظهر الغلاف بدل "رواية" الواردة في صفحة التعريف بالعمل؟ هذا السؤال مهم جدًا ويفتح الباب أمام فهم استراتيجيات الكاتب ووعيه التجنيسي. هناك عدة أسباب ممكنة قد تدفع المبدع إلى هذا الاختيار، من بينها التمرد على التصنيفات التقليدية، حيث ربما أراد الابتعاد عن القوالب الجاهزة، فلا يُحصر عمله في جنس الرواية الكلاسيكية ذات البنية المغلقة، وفضّل مصطلحًا أوسع مثل "محكيات" ليمنح نصه حرية أكبر.
قد يكون الدافع أيضًا الإيحاء بتعدد الأجناس، حيث إن "محكيات" لفظ فضفاض، ويمكن أن يضم بداخله السرد والحكي والشهادة واليوميات، مما يمنح العمل هوية هجينة ومتعددة الأبعاد. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون الاختيار وسيلة لإغراء القارئ، إذ نجد بعض الكتاب يلجأون إلى التجريب حتى على مستوى الغلاف، فيستخدمون مصطلحات أقل استهلاكًا، مثل "محكيات"، لإثارة فضول القارئ. من جهة أخرى، قد يعكس ذلك الفرق بين منظور الناشر ومنظور الكاتب؛ فأحيانًا يكون التصنيف الموجود في الصفحة الداخلية (رواية) اختيارًا تجاريًا يفرضه الناشر لتسويق الكتاب ضمن فئة أدبية مألوفة، بينما ظهر الغلاف يعكس رؤية الكاتب الشخصية التي ترى العمل أقرب إلى "محكيات" أو نص مفتوح.
الأمر الأكثر أهمية قد يكون رغبة الكاتب في اللعب بالتجنيس، حيث يعتبر بعض المبدعين أن التجنيس ممارسة إبداعية بحد ذاتها، فيتعمدون خلق توتر بين الغلاف والداخل، وكأنهم يقولون للقارئ: "لا تبحث عن تصنيف صارم، بل استمتع بالنص كما هو".
البنية السردية: تشظِّي الواقع ووحدة المصير
يَبنى العملُ على سلسلةِ حكاياتٍ مُتداخلةٍ، تُمسكُ بها خيوطٌ خفيةٌ تجتمعُ حول شخصية "جلوق" – الطفل المشوَّه الذي يُصبحُ رمزاً للقهرِ الاجتماعي. تَفتتحُ الروايةُ بجريمةِ قتله الغامضة، لتبدأ رحلةٌ تحمل جينة الرواية بوليسيةٌ باستضمار سؤال من؟ تَكشفُ تدريجياً عن مأساةِ ميلاده المُعاق، وعلاقته المُعقدة بأمه "صاحبة السالف"، وتناقضاتِ المجتمع الذي يرفضُ المختلفَ بينما يُغذّي انحرافَه بسخريته القاسية.
تُحاكُ الأحداثُ بلغةٍ هجينةٍ تَدمجُ الفصحى بالدارجة، وتُضفي لغةُ الجسدِ بُعداً درامياً، كما في مشهدِ التفاوضِ الصامت بين البائع والمشتري: "كانت العينُ لساناً، وكان الليلُ لغة". هذا التهجينُ اللغويُّ ليس أسلوباً فحسب، بل هو مرآةٌ لهُويةٍ مغربيةٍ تَتقاطعُ فيها الثقافةُ الرسميةُ مع الهمومِ اليوميةِ للشارع.
يوضح الكاتب أن الرواية هي مجموعة من المحكيات المترابطة، يربط بينها خيط ناظم يتمثل في فصولها التي تحمل اسمًا واحدًا "جلوق" الذي يتكرر 43 مرة، مع رقم تصاعدي من الواحد إلى الثلاثة والأربعين. في الفصول الأولى، نجد أنفسنا أمام شخصيات نسائية تعاني من القهر والتعسف، وتجد ملاذها في حي قصديري يطلق عليه حي لعيالات. هذه الشخصيات تتميز بانفتاحها على بعضها البعض، وتضامنها في مواجهة الفقر والظلم.
تفتح الرواية أبوابها على حدث كبير يتمثل في مقتل شخص معروف بانحرافه وسوء معاملته واعتماده على الوشاية. يصبح مقتله مصدر راحة لأهل الحي، لكن الرواية لا تكشف أسباب مقتله أو الفاعل، مما يضفي عليها طابعًا بوليسيًا يشد القارئ ويبقي فضوله مشتعلًا حتى النهاية.
لا يظهر "جلوق" مجددًا إلا في الفصل السابع، حيثُ تُروى قصة ولادته العسيرة، التي تميزت برأسه الضخمة. هذه الرأس، التي كانت مصدرًا للسخرية، ستتحول لاحقًا إلى سلاحٍ للدفاع عن النفس وتكسير الخصوم. هنا، يبرز التناقض بين الضعف والقوة، وكيف يمكن للعاهة أن تتحول إلى ميزة.
يثير توافق الفصل السابع مع ولادة "جلوق" تساؤلات حول دلالة هذا الترتيب. ففي الثقافة الإسلامية، يُعتبر اليوم السابع يوم العقيقة، أو "السبوع" في المغرب. هل كان هذا التوافق مقصودًا، أم أنه مجرد صدفة؟ يبدو أن الأمر يجمع بين الجوانب الفنية والثقافية، حيثُ يُعتبر اختيار الفصل السابع، الذي يتوافق مع العقيقة، خيارًا فنيًا وجماليًا وثقافيًا، سواءً كان ذلك بشكلٍ واعٍ أم غير واعٍ.
تتزامن ولادة "جلوق" مع دخول والده السجن، بعد أن اعتدى على الممرضة التي سبّت المولود بسبب رأسه الكبير. هذا التزامن يخلق حالة من التوتر الدرامي، حيثُ تُحرم الأسرة من فرحة العقيقة، ويُولد "جلوق" في غياب والده. خروج الأب من السجن بعد ستة أشهر يُعتبر بمثابة ولادة رمزية له، حيثُ ينتقل من ظلمة السجن إلى نور الحياة. هذه الولادة الرمزية تُقابل ولادة "جلوق" الجسدية، مما يُضفي على السرد بُعدًا رمزيًا عميقًا.
من العناصر اللافتة في الرواية الحضور المكثف للجسد في سياقات متنوعة. هذا الحضور لا يقتصر على وصف الجسد، بل يتجاوزه إلى توظيفه كرمز للانمساخ والاغتراب الذي تعيشه الشخصيات. يتجلى هذا التوظيف في المقارنة الصارخة بين جسد "جلوق" وجسد أمه، حيث يُمثل جسد الأم نموذجاً للجمال، بينما يُمثل جسد "جلوق" نموذجاً للتشوه والنبذ الاجتماعي.
يُظهر هذا التباين الصارخ بين الجسدين، والذي تجلى في ملاحظات سكان الحي "أمه زوينة، وهو خايب"، كيف أن الجسد يُصبح ميداناً للصراع الاجتماعي والنفسي. فجلوق، الذي وُلد برأس ضخمة، أصبح هدفاً للسخرية والتنمر، وهو ما ولّد لديه حقداً متنامياً ساهم في انحرافه. هذا الانحراف لم يكن وليد لحظة، بل هو نتيجة تراكمات نفسية واجتماعية، حيث ساهم الأساتذة أنفسهم في تعزيز شعوره بالدونية من خلال نعته بضخامة رأسه وفراغها، فضلا عن تحرش سكان الحي بأمه، يقول جلوق: ملامح أبي كملامح الرجال الذين يقبعون في رأس الدرب، أراهم يتطلعون إلى امي، يتنهدون، يقولون لي: { واش أمك بالصاح؟}. ستكون أمي حين سأسد افواهكم. ص 46.
كما لعب زميل دراسته، الذي كان يعاني من نفس العاهة، دوراً في تحريضه على الانحراف. حيث حرضه على سرقة الخضار، كما أنه تسلق سور مدرسته وسرق صورته التي انتزعها من ملفه الشخصي ولم يعبث بمحتويات خزانة الأستاذ. وهو يسرد علينا ما فعل، يستحضر القارئ الذي كان يتمنى أن يفعل ذلك لكنه أحبطه بسلوكه لا احتراما بل خوفا من الشرطة. وتجدر الإشارة إلى الحضور اللافت لكلمة "الرأس" بمعانيها الحقيقية والمجازية. كما لكلمة السالف التي أثارت الكثير من الناس رجالا ونساء إذ أن كل واحد قد أضفى عليه صفة أو نعتا خاصا.
كان يثير الفوضى في أي مكان وجد به، حتى مع لمخازني حين حملته امه إلى المقاطعة ليسجل اسمه ضمن قائمة الذاهبين إلى المخيم، إذ لما سمعه يسخر من رأسه سبه وفر هاربا، فما كان من لمخازني إلا أن قال لأمه ساخرا إن كانت قد أنجبته مع حمار.
لم يجد من صديق مخلص بعيدا عن النفعية سوى مع عباس ولد الهجالة غير معروف الأب، كانا يدا في يد يدافعان عن وجودهما المهدد.
توجه الصديقان إلى حلقة الحكي ليجدا أن الحكواتي يتناول قصة سيدنا علي والغول، ولما رأى الحكواتي جلوق سخر منه وكأنه الغول شخصيا. ثم تابع حكاية صراع الطرفين إلى أن انتصر سيدنا علي.
ثم انتقلا إلى حلقة زكرياء الإفريقي الذي يبيع الناس الفحولة المفتقدة لديهم؛ إذ أقبل على شراء الدواء كل من في الحلقة. ثم انتقلا إلى حلقة عزف سخر كثيرا منه.
ثم تأتي مراسيم دفن الأب الذي عاد بعد طول غياب ليلفظ أنفاسه في براكته، ويتم تأبينه بمساعدة فاعلي الخير.
في الفصل الخامس عشر، يكشف "جلوق" عن اسمه الحقيقي، سعيد البحري، ولم يكن أبدا سعيدا، وعن ظروف ولادته غير الطبيعية. يُصبح اسم "جلوق" بديلاً لاسمه الحقيقي، وهو اسمٌ مُشتقٌ من سوحانه في أزقة الحي، حيثُ يُشبه بالماء الآسن والبرك التي يتجنبها الناس. هذا التشبيه يُسلّط الضوء على تهميش "جلوق" ونبذه من المجتمع، وكيف يُصبح مُجرّد ظلٍّ في الظلام.
تُقدّم الرواية قصةً خرافيةً عن سبب ضخامة رأس "جلوق"، حيثُ يُشاع أن أمه كانت تتغذى على رؤوس البقر، وتستحضر صور سيدنا علي ورأس الغول أثناء الوحم. هذا الاستحضار للثقافة الشعبية، من خلال الصور التي كانت تُزيّن بيوت المغاربة، يُعتبر حوارًا مع ذاكرة المتلقي. إنهُ دعوة لإعادة قراءة هذه الصور، ليس من منظورٍ خرافيٍّ، بل من منظورٍ معرفيٍّ يُسلّط الضوء على تشبث المغاربة بهذه الصور، رغم حمولتها الخرافية والشيعية.
تُصبح ضخامة رأس "جلوق" وطول شعر أمه رمزًا للمشاكل التي يُواجهانها. كل رأس كبيرة تحمل اسمًا خاصًا، مثل "دوبل طيط" و"راس المهراز" و"راس الطارو"، مما يُضفي على الشخصيات طابعًا شعبيًا مميزًا. هذه الأسماء تُصبح علاماتٍ على الهوية، وتُعبّر عن التنوع الثقافي في المجتمع المغربي."
يحمل "جلوق"، بصفته شخصية ذات مظهر غير مألوف، عبء سلوكيات خاصة تفرضها عليه نظرات الآخرين. فرأسه الضخمة، التي تُعدّ علامة فارقة، تجلب له سخرية وتنمّر أهل الحي، حتى أنّ البقال لم يسلم من استهزائه. هذه السخرية تعكس ميلًا مجتمعيًا نحو نبذ كل ما هو مختلف، وتُظهر كيف أنّ الناس يُركّزون على المظاهر الخارجية، مُتجاهلين الجوانب الإنسانية.
هذا التركيز على المظاهر الخارجية يُخفي وراءه واقعًا اجتماعيًا وسياسيًا مُعقّدًا. فالناس، الذين يُستهلكون في تفاصيل حياة "جلوق"، ينسون أنّهم ضحايا وطنٍ يتآكل، وأنّ الانتهازيين يُفاقمون أزماته. يتضخّم رأس "جلوق" كرمزٍ لتضخّم رأس الوطن، الذي يُستغلّ من قبل الانتهازيين والأغنياء، بينما يُعاني المهمشون والفقراء من تضخّم فقرهم.
في هذا السياق المُظلم، تظهر امرأة الحاج كنقطة مضيئة في حياة "جلوق". إنّها الوحيدة التي تُعامله بعطف، وتُقدّر وجوده كشخصٍ يُخفّف من رتابة الحي. هذا الحي، الذي بدأ "جلوق" يتغيّب عنه تدريجيًا، يُصبح رمزًا للوحدة والملل، الذي تعيشه امرأة الحاج في حياتها الزوجية. إنّها تفتقد الصخب والحياة التي تجدها في بيت صاحبة السالف، وتُعاني من الوحدة بعد أن غادر أبناؤها المنزل.
تكشف الرواية عن اهتمام الناس بالقشور، وتجاهلهم للجواهر. إنّهم يُركّزون على رأس "جلوق"، ويُغفلون عن أولئك الذين ينهبون خيرات الوطن. إنّهم يُركّزون على مظهره الخارجي، ويتجاهلون العنف والظلم الذي يتعرّض له الآخرون، كما يتجلى في مشهد بائع الفحم الذي يُلقي بالمرأة على قفاها. هذا التناقض يُسلّط الضوء على ازدواجية المجتمع، وكيف أنّ الناس يُفضّلون الانشغال بالتفاصيل السطحية، بدلاً من مواجهة المشاكل الحقيقية التي تُهدّد وجودهم.
يُهيمن على العمل جو جنائزي مُخيف، حيث يُخبرنا السارد منذ البداية أن "جلوق" قُتل ومُثّل بجثته. هذا الجو يُضفي على العمل طابعاً سوداوياً، ويُعزز من إحساس القارئ بالاغتراب والضياع.
كما تُبرز الرواية توتر العلاقة بين الرجل والمرأة في عدة محطات. يتجلى هذا التوتر في شخصية "صاحبة السالف"، التي تتميز بجمالها اللافت، وزوجها الذي لا يعرف سوى "حرثها" دون أي مظهر من مظاهر العاطفة الإنسانية. هذا التوتر يُعكس واقعاً اجتماعياً مُعقداً، حيث تُصبح المرأة مجرد أداة لإشباع الرغبات الجسدية، وتُفقد قيمتها الإنسانية.
"محكيات" حاجوي وإعادة إنتاج الواقع الاجتماعي: قراءة في الهامش والجسد
تُقدم مجموعة "محكيات" لعبد العزيز حاجوي شهادة أدبية عميقة عن الواقع الاجتماعي المغربي، من خلال رصد تفاصيل حياة شخصيات هامشية تعيش في عالمٍ مُثقلٍ بالقيود والتناقضات. يبرز في هذه المجموعة توظيف مُكثّف للجسد كلغة تعبيرية عن الانمساخ والاغتراب، وتصوير دقيق للعلاقات الأسرية المُعقدة، مع حضور طاغٍ للغة العامية التي تُضفي على السرد واقعية مُؤثرة.
في فصل "جلوق" 6، يُرسم مشهد مُفجع لتفكك أسري، حيث يتضاءل دور الأب تدريجياً، مُتحولاً إلى كائنٍ هامشيٍّ مُنزوٍ. يُجسّد هذا المشهد حالة من التهميش الاجتماعي والاقتصادي، حيثُ يُصبح الأب مُجرّد ظلٍّ في حياة أبنائه، لا يملك سوى جسدٍ مُنهكٍ ومكانٍ ضيقٍ للنوم. هنا، يتجلى مفهوم "إعادة الإنتاج" عند بيير بورديو، حيثُ يتم إعادة إنتاج البنية الاجتماعية والاقتصادية من جيلٍ إلى جيل. فالأب، الذي يعيش في ظروفٍ قاسية، ينقل هذه الظروف إلى أبنائه، مُرسّخاً لديهم دائرة الفقر والتهميش. يُصبح "رأس المال الاجتماعي" للأب مُتضائلاً، مما يُعيق قدرته على توفير حياةٍ كريمةٍ لأسرته، ويُؤثّر بشكلٍ مباشرٍ على مستقبل أبنائه.
في فصل "جلوق" 2، تتجلّى معاناة المرأة في المجتمع التقليدي، حيثُ تُعبّر صاحبة السالف عن رفضها للزواج بسبب تجاربها السلبية في أسرتها. ترى في الزواج "صفقةً خاسرةً"، وتعتبر نفسها "ضحية زواج أبي من أمي". هذا الرفض يُعبّر عن وعيٍ مُتزايدٍ لدى المرأة بدورها في المجتمع، ورفضها للخضوع للتقاليد الاجتماعية. ومع ذلك، تجد صاحبة السالف نفسها مُجبرةً على الزواج وإنجاب الأطفال، مُجسّدةً بذلك كيف أن "العادات الاجتماعية" و"التقاليد" تُعيد إنتاج نفسها، حتى عندما يرفضها الأفراد. هنا، يبرز دور "رأس المال الثقافي" و"رأس المال الاجتماعي" في تمكين المرأة من اتخاذ قراراتٍ مُستقلة.
في فصل "جلوق" 7، تُقدّم الرواية صورةً مُفزعةً للمرأة في المجتمع التقليدي، حيثُ يتم تحديد دورها من خلال الزواج والإنجاب. تُصبح المرأة مُجرّد جسدٍ مُتاحٍ لنظرات الرجال، أو كائناً مُختبئاً وراء جلبابٍ ينتظر عودة المطر، رمزاً للرجل الذي سيُزوّجها. يُصبح الجسد هنا ميداناً للصراع الاجتماعي والجنسي، حيثُ تُصبح المرأة ضحيةً للتحرش الجنسي أو للخضوع للتقاليد الدينية. تُختزل المرأة في دورها كأمٍّ وزوجةٍ، وتُصبح "رأس المال الرمزي" الخاص بها مُحدّداً بجمالها وقدرتها على الإنجاب والأعمال المنزلية.
يُقدّم بورديو في نظريته عن إعادة الإنتاج رؤيةً مُعمّقةً لكيفية إعادة إنتاج البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من جيلٍ إلى جيل. يرى بورديو أن المجتمع يتكون من مجموعةٍ من "الحقول"، وهي فضاءاتٍ اجتماعيةٍ مُحدّدةٍ (مثل الحقل الاقتصادي، والحقل الثقافي، والحقل التعليمي)، يتنافس فيها الأفراد على اكتساب "رأس المال" (الاقتصادي، والثقافي، والاجتماعي، والرمزي). يُصبح "رأس المال" وسيلةً للسيطرة والتأثير، ويُساهم في إعادة إنتاج البنى الاجتماعية القائمة.
في "محكيات" حاجوي، يتجلّى مفهوم إعادة الإنتاج من خلال تصوير حياة شخصياتٍ هامشيةٍ مُحاصرةٍ في دوائر الفقر والتهميش. تُصبح هذه الشخصيات ضحيةً لظروفٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ خارجةٍ عن إرادتها، وتُجد نفسها مُجبرةً على إعادة إنتاج نفس الظروف التي عاشها آباؤها.
يجمع العمل بين اللغتين العربية والدارجة في السرد؛ فالأولى هي لغة السرد، بينما الثانية هي لغة التخاطب بين الشخصيات المسحوقة. بالإضافة إلى ذلك، تبرز لغة ثالثة تتمثل في لغة الجسد، من خلال الحركات والعيون: "كان البائع والمشتري يتوافقان على الثمن فقط بالعيون، كانت العين لسانًا وكان الليل لغة" (ص 12 و13)، مما يضيف عمقًا إضافيًا للحوارات والمشاهد.
الحضور المكثف للجسد في الرواية يعكس صراع الشخصيات بين الجمال والتشوه، بين القبول والنبذ الاجتماعي، حيث يمثل جسد "جلوق" نموذجًا للانمساخ والاغتراب. ويمكن النظر إلى تضخم رأس "جلوق" ليس فقط كحالة جسدية، بل كاستعارة لتضخم الوطن نفسه بأزماته وأحلامه المشوهة.
الرواية تسير بين حدين: بين الراهن والماضي عبر التذكر، وبين الفرح القليل والألم الطاغي.
هي محكيات تتوالى على سردها شخصيات العمل الروائي وتنتظم وفق إيقاع مرسوم بدقة من طرف السارد الأكبر الذي يؤطرها. شخصيات تتحدث عن واقعها المر، وتتخذ الحكي مناسبة بوح لتتخفف من وطأة واقعها المزري كما تتخفف منه بالسيلسيون. فنجد سرد صاحبة السالف، وسرد ابنها جلوق، وولد الهجالة...في سرد الأخيرين كثير من الوقائع التي جمعت بينهما ومن أهمها حبهما لبنت حارس المدرسة وتنافسهما على إثارة انتباهها، وقد امتدت المنافسة غير المعلنة بينهما إلى درجة سرقة غسيلها من طرف ولد الهجالة. لكن هذه المنافسة لم تباعد بينهما؛ فقد أنقذ ولد الهجالة جلوق من بين يدي حارس المدرسة الذي كاد يقتله حيث قام بضربه على راسه بعصا..
يأتي الفصل الأخير ليجيبنا عن سؤال من قتل جلوق، هذا السؤال الذي ظل عالقا بذهن القارئ من البداية إلى ن يبلغ النهاية حيث نهاية الطفل المسخ الذي تسبب في متاعب عدة للناس قبل أن يطعنه الحارس دفاعا عن حرمته التي انتهكت.
تتخلل الرواية لمسات ساخرة، تجمع بين السخرية من الآخر والسخرية من الذات، حيث يتشتت انتباه الناس إلى الجزئيات، متغاضين عن جوهر الأزمة. هذا التناقض بين الضحك والظلام يكشف عن صراع داخلي بين السخرية من الواقع والمعاناة المأساوية، مما يجعل "محكيات" حاجوي تجربة سردية غنية بتعدد طبقاتها ومعانيها العميقة.
على سبيل الختم، محكيات الهامش كمرآةِ المركز
لا تكتفي "محكيات" حاجوي بسردِ حكايات المهمشين، بل تَكشفُ عن آلياتِ إعادةِ إنتاجِ القهرِ عبر الأجيال، مُستحضرةً تنظيراتِ "بيير بورديو" حولَ الرسملةِ الرمزية. فـ"جلوق" ليس ضحيَّةَ عاهةٍ جسديةٍ فحسب، بل هو نتاجُ نظامٍ اجتماعيٍ يَصنعُ التناقضاتِ ثم يُعاقبُ ضحاياها.
بهذا، يَتحولُ العملُ إلى نقدٍ ثقافيٍ مُرصَّعٍ بالجماليات، حيثُ يَتفاعلُ التشكيلُ البصريُّ مع السردِ الهجينِ لرسمِ بانوراما لواقعٍ عربيٍ يُصارعُ أشباحَهُ. غلافٌ أزرقُ يَختزلُ عمقَ المأساة، وعنوانٌ بلهجةٍ مغربيةٍ يَصيحُ باسمِ المهمشين، ونصوصٌ تَتدفقُ كدماءِ الجراحِ الاجتماعية: هكذا يَصنعُ حاجوي مِن حكاياتِ القاعِ أدباً يُشبهُ المرايا – تعكسُ قبحَ الواقعِ بجمالٍ يُبهر.
ملاحظة لا تمس بقيمة العمل:
حكي جلوق وولد الهجالة يوحي بمستوى تعليمي رفيع لديهما؛ والواقع أن الشخصيتين لم تتلقيا سوى تعليم بسيط لا يتجاوز بالنسبة لجلوق السنة الأولى ابتدائي.
**
عرفت المبدع حاجوي كاتبًا ساخرًا تتميز كتاباته بنقد لاذع للظواهر الاجتماعية والسياسية وغيرها. في نقده الساخر، يعري الواقع ويغوص في أعماقه ليُظهر تناقضاته الكثيرة. قلمه ينحاز دائمًا للفئات المهمشة، سواء تلك التي صور معاناتها في قصصه المكتوبة بالعربية أو العامية. وفي عمله الجديد "السالف"، يكتب حاجوي من قاع المجتمع، مستعرضًا حياة أفراده في سلسلة مترابطة من الحكايات التي تبدو كمسلسل متماسك البنيان.
في عمله الروائي "السالف"، ينسج حاجوي من خيوط الواقع المرَّةِ لوحةً إنسانيةً معقدةً، تَظهرُ فيها الشخصياتُ كأشباحٍ تائهةٍ في دهاليزِ المجتمع، تُصارعُ من أجل البقاء تحت وطأةِ الفقر والاستبداد.
تَتجاوزُ الروايةُ السردَ التقليديَّ لتُدخلَ العناصرَ الشعبيةَ كالحكاياتِ والصورِ الدينيةِ (سيدنا علي والغول)، مُحاوِلةً تفكيكَ الخطابِ الثقافي السائد. ضخامةُ رأسِ "جلوق" – المُشبَّهةُ بـ"رأس المهراز" و"راس الطارو" – تَربطُ التشوُّهَ الفرديَّ برمزيةٍ جماعيةٍ تُجسِّدُ تشوُّهاتِ الوطن.
الجسدُ كساحةٍ للصراعِ الاجتماعي
يُصبحُ الجسدُ في الروايةِ ميداناً لمعاركَ وجودية:
جسدُ "جلوق": رأسهُ الضخمُ عاهةٌ تَجعلُه هدفاً للسخرية، لكنها تَتحولُ إلى سلاحٍ للانتقامِ من مجتمعٍ رفضَه.
جسدُ الأم يتميز بجمالٌ أنثويٌّ يُحوِّلُها إلى ضحيَّةٍ لِلهمساتِ الرجالِ وتحرشاتِهم.
يُصبحُ المجتمعُ نفسُه جسداً مريضاً، يُعاني من "تضخمِ الرأس" (الفسادُ السياسي) بينما تَضمرُ أطرافُه (الفقراء).
هنا يَتعمَّدُ الكاتبُ توظيفَ السخريةِ السوداء، كما في وصفِ "جلوق" لرأسه: "لا أغسلُه إلا في الأعياد... رأسي مظلمٌ كواقعِ أبي"، ليكشفَ عن اغترابِ الفردِ في عالمٍ يَقدسُ المظاهرَ ويُهملُ الجوهر.
عتبة الغلاف
تحليل عناصر الغلاف يوضح أهمية اللون الأزرق الغامق كلغة نفسية وثقافية، حيث يرتبط بالعمق والهدوء المشوب بالحزن والتأمل، مما يوحي بأن الرواية ليست مجرد سرد عابر، بل نص يشتبك مع الذاكرة والتحولات الوجدانية العميقة. أما الكتابة باللون الأبيض، فهي تخلق تباينًا بصريًا ودلالة رمزية على النقاء الذي يواجه عتمة الواقع.
الصورة على الغلاف ليست مجرد إضافة تزيينية، بل هي لغة بصرية متكاملة تحكي فصولًا من الرواية. الشعر الطويل، رمز الجمال الأنثوي، لا يظهر هنا في صورته التقليدية، بل يتماهى مع خيط أزرق يتدلى كأنه امتداد له. هذا التداخل يثير تساؤلات حول طبيعة هذا الخيط الأزرق: هل هو قيد ناعم يقيد حرية المرأة؟ أم رمز لربط الجمال الأنثوي بإطار التقاليد؟ أم أنه خط وهمي يفصل بين الجمال والسجن الاجتماعي؟ العنوان "السالف" باللهجة المغربية يمنح الغلاف قوة إضافية، حيث يجمع بين الحسي والرمزي، ويعيد إلى الأذهان جمالًا مفقودًا أو قيمًا جمالية كانت مرتبطة بأنوثة طبيعية غير مصطنعة.
العنوان: "السالف" – بين اللغة والمجاز
اختيار هذا العنوان باللهجة المغربية يمنح الغلاف قوة إضافية، لأنه يجمع بين الحسي والرمزي. "السالف" ليس مجرد شعر طويل، بل هو تعبير يحمل في عمقه حمولة ثقافية واجتماعية عميقة. إنه الشعر الذي كان في زمن قريب علامة جمال مطلقة، لكنه اليوم صار خارج الموضة أو على هامش معايير الجمال الجديدة. العنوان هنا يحيل إلى نوع من الحنين لجمال مفقود، وإلى نوع من الحداد الثقافي على قيم جمالية كانت مرتبطة بأنوثة طبيعية غير مصطنعة. وهكذا، يصبح العنوان صوتًا مزدوجًا: صوتًا نسائيًا يتحدث عن ذاته، وصوتًا ثقافيًا يرثي زمنًا انقضى.
العلاقة بين الصورة والعنوان
الصورة والعنوان في هذا الغلاف في علاقة تكامل مذهلة: الصورة تقدم البعد البصري للسالف، والعنوان يمنحها البعد اللساني والثقافي. الصورة وحدها قد تحيل إلى إعلان تجميلي، لكن ارتباطها بكلمة "السالف" ينقلها إلى مستوى آخر: مستوى يعيد الشعر الطويل إلى سياقه الثقافي والاجتماعي، ويمنحه بعدًا سرديًا مرتبطًا بتحولات صورة المرأة المغربية عبر الزمن.
عتبة التجنيس
ما يلفت الانتباه في هذا العمل هو تجنيسه المختلف؛ ففي الغلاف الأمامي يُصنف العمل على أنه "محكيات"، بينما يُدرج في الصفحة الداخلية ضمن "الرواية". هذا الاختلاف ليس وليد السهو أو النسيان، بل هو فعل مقصود. فما الأسباب الكامنة وراء اختيار تجنيس "محكيات" ووضعها على ظهر الغلاف بدل "رواية" الواردة في صفحة التعريف بالعمل؟ هذا السؤال مهم جدًا ويفتح الباب أمام فهم استراتيجيات الكاتب ووعيه التجنيسي. هناك عدة أسباب ممكنة قد تدفع المبدع إلى هذا الاختيار، من بينها التمرد على التصنيفات التقليدية، حيث ربما أراد الابتعاد عن القوالب الجاهزة، فلا يُحصر عمله في جنس الرواية الكلاسيكية ذات البنية المغلقة، وفضّل مصطلحًا أوسع مثل "محكيات" ليمنح نصه حرية أكبر.
قد يكون الدافع أيضًا الإيحاء بتعدد الأجناس، حيث إن "محكيات" لفظ فضفاض، ويمكن أن يضم بداخله السرد والحكي والشهادة واليوميات، مما يمنح العمل هوية هجينة ومتعددة الأبعاد. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون الاختيار وسيلة لإغراء القارئ، إذ نجد بعض الكتاب يلجأون إلى التجريب حتى على مستوى الغلاف، فيستخدمون مصطلحات أقل استهلاكًا، مثل "محكيات"، لإثارة فضول القارئ. من جهة أخرى، قد يعكس ذلك الفرق بين منظور الناشر ومنظور الكاتب؛ فأحيانًا يكون التصنيف الموجود في الصفحة الداخلية (رواية) اختيارًا تجاريًا يفرضه الناشر لتسويق الكتاب ضمن فئة أدبية مألوفة، بينما ظهر الغلاف يعكس رؤية الكاتب الشخصية التي ترى العمل أقرب إلى "محكيات" أو نص مفتوح.
الأمر الأكثر أهمية قد يكون رغبة الكاتب في اللعب بالتجنيس، حيث يعتبر بعض المبدعين أن التجنيس ممارسة إبداعية بحد ذاتها، فيتعمدون خلق توتر بين الغلاف والداخل، وكأنهم يقولون للقارئ: "لا تبحث عن تصنيف صارم، بل استمتع بالنص كما هو".
البنية السردية: تشظِّي الواقع ووحدة المصير
يَبنى العملُ على سلسلةِ حكاياتٍ مُتداخلةٍ، تُمسكُ بها خيوطٌ خفيةٌ تجتمعُ حول شخصية "جلوق" – الطفل المشوَّه الذي يُصبحُ رمزاً للقهرِ الاجتماعي. تَفتتحُ الروايةُ بجريمةِ قتله الغامضة، لتبدأ رحلةٌ تحمل جينة الرواية بوليسيةٌ باستضمار سؤال من؟ تَكشفُ تدريجياً عن مأساةِ ميلاده المُعاق، وعلاقته المُعقدة بأمه "صاحبة السالف"، وتناقضاتِ المجتمع الذي يرفضُ المختلفَ بينما يُغذّي انحرافَه بسخريته القاسية.
تُحاكُ الأحداثُ بلغةٍ هجينةٍ تَدمجُ الفصحى بالدارجة، وتُضفي لغةُ الجسدِ بُعداً درامياً، كما في مشهدِ التفاوضِ الصامت بين البائع والمشتري: "كانت العينُ لساناً، وكان الليلُ لغة". هذا التهجينُ اللغويُّ ليس أسلوباً فحسب، بل هو مرآةٌ لهُويةٍ مغربيةٍ تَتقاطعُ فيها الثقافةُ الرسميةُ مع الهمومِ اليوميةِ للشارع.
يوضح الكاتب أن الرواية هي مجموعة من المحكيات المترابطة، يربط بينها خيط ناظم يتمثل في فصولها التي تحمل اسمًا واحدًا "جلوق" الذي يتكرر 43 مرة، مع رقم تصاعدي من الواحد إلى الثلاثة والأربعين. في الفصول الأولى، نجد أنفسنا أمام شخصيات نسائية تعاني من القهر والتعسف، وتجد ملاذها في حي قصديري يطلق عليه حي لعيالات. هذه الشخصيات تتميز بانفتاحها على بعضها البعض، وتضامنها في مواجهة الفقر والظلم.
تفتح الرواية أبوابها على حدث كبير يتمثل في مقتل شخص معروف بانحرافه وسوء معاملته واعتماده على الوشاية. يصبح مقتله مصدر راحة لأهل الحي، لكن الرواية لا تكشف أسباب مقتله أو الفاعل، مما يضفي عليها طابعًا بوليسيًا يشد القارئ ويبقي فضوله مشتعلًا حتى النهاية.
لا يظهر "جلوق" مجددًا إلا في الفصل السابع، حيثُ تُروى قصة ولادته العسيرة، التي تميزت برأسه الضخمة. هذه الرأس، التي كانت مصدرًا للسخرية، ستتحول لاحقًا إلى سلاحٍ للدفاع عن النفس وتكسير الخصوم. هنا، يبرز التناقض بين الضعف والقوة، وكيف يمكن للعاهة أن تتحول إلى ميزة.
يثير توافق الفصل السابع مع ولادة "جلوق" تساؤلات حول دلالة هذا الترتيب. ففي الثقافة الإسلامية، يُعتبر اليوم السابع يوم العقيقة، أو "السبوع" في المغرب. هل كان هذا التوافق مقصودًا، أم أنه مجرد صدفة؟ يبدو أن الأمر يجمع بين الجوانب الفنية والثقافية، حيثُ يُعتبر اختيار الفصل السابع، الذي يتوافق مع العقيقة، خيارًا فنيًا وجماليًا وثقافيًا، سواءً كان ذلك بشكلٍ واعٍ أم غير واعٍ.
تتزامن ولادة "جلوق" مع دخول والده السجن، بعد أن اعتدى على الممرضة التي سبّت المولود بسبب رأسه الكبير. هذا التزامن يخلق حالة من التوتر الدرامي، حيثُ تُحرم الأسرة من فرحة العقيقة، ويُولد "جلوق" في غياب والده. خروج الأب من السجن بعد ستة أشهر يُعتبر بمثابة ولادة رمزية له، حيثُ ينتقل من ظلمة السجن إلى نور الحياة. هذه الولادة الرمزية تُقابل ولادة "جلوق" الجسدية، مما يُضفي على السرد بُعدًا رمزيًا عميقًا.
من العناصر اللافتة في الرواية الحضور المكثف للجسد في سياقات متنوعة. هذا الحضور لا يقتصر على وصف الجسد، بل يتجاوزه إلى توظيفه كرمز للانمساخ والاغتراب الذي تعيشه الشخصيات. يتجلى هذا التوظيف في المقارنة الصارخة بين جسد "جلوق" وجسد أمه، حيث يُمثل جسد الأم نموذجاً للجمال، بينما يُمثل جسد "جلوق" نموذجاً للتشوه والنبذ الاجتماعي.
يُظهر هذا التباين الصارخ بين الجسدين، والذي تجلى في ملاحظات سكان الحي "أمه زوينة، وهو خايب"، كيف أن الجسد يُصبح ميداناً للصراع الاجتماعي والنفسي. فجلوق، الذي وُلد برأس ضخمة، أصبح هدفاً للسخرية والتنمر، وهو ما ولّد لديه حقداً متنامياً ساهم في انحرافه. هذا الانحراف لم يكن وليد لحظة، بل هو نتيجة تراكمات نفسية واجتماعية، حيث ساهم الأساتذة أنفسهم في تعزيز شعوره بالدونية من خلال نعته بضخامة رأسه وفراغها، فضلا عن تحرش سكان الحي بأمه، يقول جلوق: ملامح أبي كملامح الرجال الذين يقبعون في رأس الدرب، أراهم يتطلعون إلى امي، يتنهدون، يقولون لي: { واش أمك بالصاح؟}. ستكون أمي حين سأسد افواهكم. ص 46.
كما لعب زميل دراسته، الذي كان يعاني من نفس العاهة، دوراً في تحريضه على الانحراف. حيث حرضه على سرقة الخضار، كما أنه تسلق سور مدرسته وسرق صورته التي انتزعها من ملفه الشخصي ولم يعبث بمحتويات خزانة الأستاذ. وهو يسرد علينا ما فعل، يستحضر القارئ الذي كان يتمنى أن يفعل ذلك لكنه أحبطه بسلوكه لا احتراما بل خوفا من الشرطة. وتجدر الإشارة إلى الحضور اللافت لكلمة "الرأس" بمعانيها الحقيقية والمجازية. كما لكلمة السالف التي أثارت الكثير من الناس رجالا ونساء إذ أن كل واحد قد أضفى عليه صفة أو نعتا خاصا.
كان يثير الفوضى في أي مكان وجد به، حتى مع لمخازني حين حملته امه إلى المقاطعة ليسجل اسمه ضمن قائمة الذاهبين إلى المخيم، إذ لما سمعه يسخر من رأسه سبه وفر هاربا، فما كان من لمخازني إلا أن قال لأمه ساخرا إن كانت قد أنجبته مع حمار.
لم يجد من صديق مخلص بعيدا عن النفعية سوى مع عباس ولد الهجالة غير معروف الأب، كانا يدا في يد يدافعان عن وجودهما المهدد.
توجه الصديقان إلى حلقة الحكي ليجدا أن الحكواتي يتناول قصة سيدنا علي والغول، ولما رأى الحكواتي جلوق سخر منه وكأنه الغول شخصيا. ثم تابع حكاية صراع الطرفين إلى أن انتصر سيدنا علي.
ثم انتقلا إلى حلقة زكرياء الإفريقي الذي يبيع الناس الفحولة المفتقدة لديهم؛ إذ أقبل على شراء الدواء كل من في الحلقة. ثم انتقلا إلى حلقة عزف سخر كثيرا منه.
ثم تأتي مراسيم دفن الأب الذي عاد بعد طول غياب ليلفظ أنفاسه في براكته، ويتم تأبينه بمساعدة فاعلي الخير.
في الفصل الخامس عشر، يكشف "جلوق" عن اسمه الحقيقي، سعيد البحري، ولم يكن أبدا سعيدا، وعن ظروف ولادته غير الطبيعية. يُصبح اسم "جلوق" بديلاً لاسمه الحقيقي، وهو اسمٌ مُشتقٌ من سوحانه في أزقة الحي، حيثُ يُشبه بالماء الآسن والبرك التي يتجنبها الناس. هذا التشبيه يُسلّط الضوء على تهميش "جلوق" ونبذه من المجتمع، وكيف يُصبح مُجرّد ظلٍّ في الظلام.
تُقدّم الرواية قصةً خرافيةً عن سبب ضخامة رأس "جلوق"، حيثُ يُشاع أن أمه كانت تتغذى على رؤوس البقر، وتستحضر صور سيدنا علي ورأس الغول أثناء الوحم. هذا الاستحضار للثقافة الشعبية، من خلال الصور التي كانت تُزيّن بيوت المغاربة، يُعتبر حوارًا مع ذاكرة المتلقي. إنهُ دعوة لإعادة قراءة هذه الصور، ليس من منظورٍ خرافيٍّ، بل من منظورٍ معرفيٍّ يُسلّط الضوء على تشبث المغاربة بهذه الصور، رغم حمولتها الخرافية والشيعية.
تُصبح ضخامة رأس "جلوق" وطول شعر أمه رمزًا للمشاكل التي يُواجهانها. كل رأس كبيرة تحمل اسمًا خاصًا، مثل "دوبل طيط" و"راس المهراز" و"راس الطارو"، مما يُضفي على الشخصيات طابعًا شعبيًا مميزًا. هذه الأسماء تُصبح علاماتٍ على الهوية، وتُعبّر عن التنوع الثقافي في المجتمع المغربي."
يحمل "جلوق"، بصفته شخصية ذات مظهر غير مألوف، عبء سلوكيات خاصة تفرضها عليه نظرات الآخرين. فرأسه الضخمة، التي تُعدّ علامة فارقة، تجلب له سخرية وتنمّر أهل الحي، حتى أنّ البقال لم يسلم من استهزائه. هذه السخرية تعكس ميلًا مجتمعيًا نحو نبذ كل ما هو مختلف، وتُظهر كيف أنّ الناس يُركّزون على المظاهر الخارجية، مُتجاهلين الجوانب الإنسانية.
هذا التركيز على المظاهر الخارجية يُخفي وراءه واقعًا اجتماعيًا وسياسيًا مُعقّدًا. فالناس، الذين يُستهلكون في تفاصيل حياة "جلوق"، ينسون أنّهم ضحايا وطنٍ يتآكل، وأنّ الانتهازيين يُفاقمون أزماته. يتضخّم رأس "جلوق" كرمزٍ لتضخّم رأس الوطن، الذي يُستغلّ من قبل الانتهازيين والأغنياء، بينما يُعاني المهمشون والفقراء من تضخّم فقرهم.
في هذا السياق المُظلم، تظهر امرأة الحاج كنقطة مضيئة في حياة "جلوق". إنّها الوحيدة التي تُعامله بعطف، وتُقدّر وجوده كشخصٍ يُخفّف من رتابة الحي. هذا الحي، الذي بدأ "جلوق" يتغيّب عنه تدريجيًا، يُصبح رمزًا للوحدة والملل، الذي تعيشه امرأة الحاج في حياتها الزوجية. إنّها تفتقد الصخب والحياة التي تجدها في بيت صاحبة السالف، وتُعاني من الوحدة بعد أن غادر أبناؤها المنزل.
تكشف الرواية عن اهتمام الناس بالقشور، وتجاهلهم للجواهر. إنّهم يُركّزون على رأس "جلوق"، ويُغفلون عن أولئك الذين ينهبون خيرات الوطن. إنّهم يُركّزون على مظهره الخارجي، ويتجاهلون العنف والظلم الذي يتعرّض له الآخرون، كما يتجلى في مشهد بائع الفحم الذي يُلقي بالمرأة على قفاها. هذا التناقض يُسلّط الضوء على ازدواجية المجتمع، وكيف أنّ الناس يُفضّلون الانشغال بالتفاصيل السطحية، بدلاً من مواجهة المشاكل الحقيقية التي تُهدّد وجودهم.
يُهيمن على العمل جو جنائزي مُخيف، حيث يُخبرنا السارد منذ البداية أن "جلوق" قُتل ومُثّل بجثته. هذا الجو يُضفي على العمل طابعاً سوداوياً، ويُعزز من إحساس القارئ بالاغتراب والضياع.
كما تُبرز الرواية توتر العلاقة بين الرجل والمرأة في عدة محطات. يتجلى هذا التوتر في شخصية "صاحبة السالف"، التي تتميز بجمالها اللافت، وزوجها الذي لا يعرف سوى "حرثها" دون أي مظهر من مظاهر العاطفة الإنسانية. هذا التوتر يُعكس واقعاً اجتماعياً مُعقداً، حيث تُصبح المرأة مجرد أداة لإشباع الرغبات الجسدية، وتُفقد قيمتها الإنسانية.
"محكيات" حاجوي وإعادة إنتاج الواقع الاجتماعي: قراءة في الهامش والجسد
تُقدم مجموعة "محكيات" لعبد العزيز حاجوي شهادة أدبية عميقة عن الواقع الاجتماعي المغربي، من خلال رصد تفاصيل حياة شخصيات هامشية تعيش في عالمٍ مُثقلٍ بالقيود والتناقضات. يبرز في هذه المجموعة توظيف مُكثّف للجسد كلغة تعبيرية عن الانمساخ والاغتراب، وتصوير دقيق للعلاقات الأسرية المُعقدة، مع حضور طاغٍ للغة العامية التي تُضفي على السرد واقعية مُؤثرة.
في فصل "جلوق" 6، يُرسم مشهد مُفجع لتفكك أسري، حيث يتضاءل دور الأب تدريجياً، مُتحولاً إلى كائنٍ هامشيٍّ مُنزوٍ. يُجسّد هذا المشهد حالة من التهميش الاجتماعي والاقتصادي، حيثُ يُصبح الأب مُجرّد ظلٍّ في حياة أبنائه، لا يملك سوى جسدٍ مُنهكٍ ومكانٍ ضيقٍ للنوم. هنا، يتجلى مفهوم "إعادة الإنتاج" عند بيير بورديو، حيثُ يتم إعادة إنتاج البنية الاجتماعية والاقتصادية من جيلٍ إلى جيل. فالأب، الذي يعيش في ظروفٍ قاسية، ينقل هذه الظروف إلى أبنائه، مُرسّخاً لديهم دائرة الفقر والتهميش. يُصبح "رأس المال الاجتماعي" للأب مُتضائلاً، مما يُعيق قدرته على توفير حياةٍ كريمةٍ لأسرته، ويُؤثّر بشكلٍ مباشرٍ على مستقبل أبنائه.
في فصل "جلوق" 2، تتجلّى معاناة المرأة في المجتمع التقليدي، حيثُ تُعبّر صاحبة السالف عن رفضها للزواج بسبب تجاربها السلبية في أسرتها. ترى في الزواج "صفقةً خاسرةً"، وتعتبر نفسها "ضحية زواج أبي من أمي". هذا الرفض يُعبّر عن وعيٍ مُتزايدٍ لدى المرأة بدورها في المجتمع، ورفضها للخضوع للتقاليد الاجتماعية. ومع ذلك، تجد صاحبة السالف نفسها مُجبرةً على الزواج وإنجاب الأطفال، مُجسّدةً بذلك كيف أن "العادات الاجتماعية" و"التقاليد" تُعيد إنتاج نفسها، حتى عندما يرفضها الأفراد. هنا، يبرز دور "رأس المال الثقافي" و"رأس المال الاجتماعي" في تمكين المرأة من اتخاذ قراراتٍ مُستقلة.
في فصل "جلوق" 7، تُقدّم الرواية صورةً مُفزعةً للمرأة في المجتمع التقليدي، حيثُ يتم تحديد دورها من خلال الزواج والإنجاب. تُصبح المرأة مُجرّد جسدٍ مُتاحٍ لنظرات الرجال، أو كائناً مُختبئاً وراء جلبابٍ ينتظر عودة المطر، رمزاً للرجل الذي سيُزوّجها. يُصبح الجسد هنا ميداناً للصراع الاجتماعي والجنسي، حيثُ تُصبح المرأة ضحيةً للتحرش الجنسي أو للخضوع للتقاليد الدينية. تُختزل المرأة في دورها كأمٍّ وزوجةٍ، وتُصبح "رأس المال الرمزي" الخاص بها مُحدّداً بجمالها وقدرتها على الإنجاب والأعمال المنزلية.
يُقدّم بورديو في نظريته عن إعادة الإنتاج رؤيةً مُعمّقةً لكيفية إعادة إنتاج البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من جيلٍ إلى جيل. يرى بورديو أن المجتمع يتكون من مجموعةٍ من "الحقول"، وهي فضاءاتٍ اجتماعيةٍ مُحدّدةٍ (مثل الحقل الاقتصادي، والحقل الثقافي، والحقل التعليمي)، يتنافس فيها الأفراد على اكتساب "رأس المال" (الاقتصادي، والثقافي، والاجتماعي، والرمزي). يُصبح "رأس المال" وسيلةً للسيطرة والتأثير، ويُساهم في إعادة إنتاج البنى الاجتماعية القائمة.
في "محكيات" حاجوي، يتجلّى مفهوم إعادة الإنتاج من خلال تصوير حياة شخصياتٍ هامشيةٍ مُحاصرةٍ في دوائر الفقر والتهميش. تُصبح هذه الشخصيات ضحيةً لظروفٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ خارجةٍ عن إرادتها، وتُجد نفسها مُجبرةً على إعادة إنتاج نفس الظروف التي عاشها آباؤها.
يجمع العمل بين اللغتين العربية والدارجة في السرد؛ فالأولى هي لغة السرد، بينما الثانية هي لغة التخاطب بين الشخصيات المسحوقة. بالإضافة إلى ذلك، تبرز لغة ثالثة تتمثل في لغة الجسد، من خلال الحركات والعيون: "كان البائع والمشتري يتوافقان على الثمن فقط بالعيون، كانت العين لسانًا وكان الليل لغة" (ص 12 و13)، مما يضيف عمقًا إضافيًا للحوارات والمشاهد.
الحضور المكثف للجسد في الرواية يعكس صراع الشخصيات بين الجمال والتشوه، بين القبول والنبذ الاجتماعي، حيث يمثل جسد "جلوق" نموذجًا للانمساخ والاغتراب. ويمكن النظر إلى تضخم رأس "جلوق" ليس فقط كحالة جسدية، بل كاستعارة لتضخم الوطن نفسه بأزماته وأحلامه المشوهة.
الرواية تسير بين حدين: بين الراهن والماضي عبر التذكر، وبين الفرح القليل والألم الطاغي.
هي محكيات تتوالى على سردها شخصيات العمل الروائي وتنتظم وفق إيقاع مرسوم بدقة من طرف السارد الأكبر الذي يؤطرها. شخصيات تتحدث عن واقعها المر، وتتخذ الحكي مناسبة بوح لتتخفف من وطأة واقعها المزري كما تتخفف منه بالسيلسيون. فنجد سرد صاحبة السالف، وسرد ابنها جلوق، وولد الهجالة...في سرد الأخيرين كثير من الوقائع التي جمعت بينهما ومن أهمها حبهما لبنت حارس المدرسة وتنافسهما على إثارة انتباهها، وقد امتدت المنافسة غير المعلنة بينهما إلى درجة سرقة غسيلها من طرف ولد الهجالة. لكن هذه المنافسة لم تباعد بينهما؛ فقد أنقذ ولد الهجالة جلوق من بين يدي حارس المدرسة الذي كاد يقتله حيث قام بضربه على راسه بعصا..
يأتي الفصل الأخير ليجيبنا عن سؤال من قتل جلوق، هذا السؤال الذي ظل عالقا بذهن القارئ من البداية إلى ن يبلغ النهاية حيث نهاية الطفل المسخ الذي تسبب في متاعب عدة للناس قبل أن يطعنه الحارس دفاعا عن حرمته التي انتهكت.
تتخلل الرواية لمسات ساخرة، تجمع بين السخرية من الآخر والسخرية من الذات، حيث يتشتت انتباه الناس إلى الجزئيات، متغاضين عن جوهر الأزمة. هذا التناقض بين الضحك والظلام يكشف عن صراع داخلي بين السخرية من الواقع والمعاناة المأساوية، مما يجعل "محكيات" حاجوي تجربة سردية غنية بتعدد طبقاتها ومعانيها العميقة.
على سبيل الختم، محكيات الهامش كمرآةِ المركز
لا تكتفي "محكيات" حاجوي بسردِ حكايات المهمشين، بل تَكشفُ عن آلياتِ إعادةِ إنتاجِ القهرِ عبر الأجيال، مُستحضرةً تنظيراتِ "بيير بورديو" حولَ الرسملةِ الرمزية. فـ"جلوق" ليس ضحيَّةَ عاهةٍ جسديةٍ فحسب، بل هو نتاجُ نظامٍ اجتماعيٍ يَصنعُ التناقضاتِ ثم يُعاقبُ ضحاياها.
بهذا، يَتحولُ العملُ إلى نقدٍ ثقافيٍ مُرصَّعٍ بالجماليات، حيثُ يَتفاعلُ التشكيلُ البصريُّ مع السردِ الهجينِ لرسمِ بانوراما لواقعٍ عربيٍ يُصارعُ أشباحَهُ. غلافٌ أزرقُ يَختزلُ عمقَ المأساة، وعنوانٌ بلهجةٍ مغربيةٍ يَصيحُ باسمِ المهمشين، ونصوصٌ تَتدفقُ كدماءِ الجراحِ الاجتماعية: هكذا يَصنعُ حاجوي مِن حكاياتِ القاعِ أدباً يُشبهُ المرايا – تعكسُ قبحَ الواقعِ بجمالٍ يُبهر.
ملاحظة لا تمس بقيمة العمل:
حكي جلوق وولد الهجالة يوحي بمستوى تعليمي رفيع لديهما؛ والواقع أن الشخصيتين لم تتلقيا سوى تعليم بسيط لا يتجاوز بالنسبة لجلوق السنة الأولى ابتدائي.