كفاح الزهاوي
كاتب
كانت الساعة السابعة والنصف مساءً عندما غادر المقهى الكبير الواقع في شارع ٥٢. زوجته داهمها قلق شديد وهي تنظر إلى الساعة المعلقة على الحائط في غرفة المعيشة، كانت قد تخطت العاشرة مساءً بقليل.
رددت بعض الكلمات بصوت مسموع:
ماذا حدث؟ لماذا لم يعد إلى البيت كعادته مبكرًا؟
ران عليها الأسى، راحت تذرع الغرفة ذهابًا وجيئةً، وتترنح من شدة الصدمة. توقفت عن الحركة للحظة، وضعت يديها على صدرها المنقبض وأخذت تضغط عليه بقوة. كانت عيناها محدقتين، وكأن رموشهما تؤشران إلى توقف حركة الزمن. وبعد هُنيهة سددت بصرها إلى النافذة المطلة على الشارع، أرسلت نظرات سريعة ومضطربة عبر الزجاج، حاملة معها ثقل الحزن المتصاعد. اختلج جسدها، دوت رعدة متأججة في أوصالها، هزت بدنها من عدم معرفة أسباب تأخر زوجها.
كانت تردد ناظريها ما بين امتداد الشارع وركون بعض السيارات على جانب الرصيف والنوافذ والشرفات المطلة من واجهات المباني التي تواجه نافذتها، وكأن عينيها تبحث في ذلك الفضاء، العديم الطعم عن حلقة ضائعة تعيد للسلسلة ترتيبها الصحيح. كانت ترى بعضها يشع منها ضياء خافت وأخرى تلبث في ظلام دامس تدفع إلى الاكتئاب. ذلك السكوت الجنائزي، لا ينم عن أي أثر لحياة. كل شيء في ذلك الموقف لم يكن سوى تعبير عن العدم. كان الخوف حاضرا في أروقة الغرفة يزحف في أرجاء المكان يترك آثاره هنا وهناك.
قالت بصوت يكتنفه الشجن:
ماذا جرى لك يا حكمت؟ لم تعتد أن تتسكع خارج البيت هكذا.
ثم مالت رأسها قليلًا وكأنها تريد التأكد من صحة تصوراتها وقالت:
هل يصح أن …...
أطبقت فمها وذابت حروفها في طوفان لعابها فارتفع منسوب الوجع، حيث تجلت آلامها على شكل كآبة أفرزتها عصارة عينيها.
تحولت عن النافذة بفؤاد مكلوم وعيناها كنهر جارف تتدفق منهما الدموع. ادلهمت الغرفة، صعد بصرها إلى السقف بقلب مهموم، وكأنما تتضرع إلى السماء، بعد أن أحست أن مكروها قد ألم بزوجها.
طفقت المشاعر يبتلعها الشك وريح الشؤم قد تنذر بمصيبة تعصف بالعائلة. فهل تلبث في مكانها طوال الليل في مواجهة القلق العارم؟ إلى أي مدى عليها احتمال هذا الجمود الراكد في صراعها مع الزمن؟ أفزعها رنين جرس الساعة فإذا هو يعلن منتصف الليل.
في تلك اللحظة استثارها بشدة غيابه، وعدم اتصاله بها قد ضاعف من تأثيره جثوم الليل، هذا الليل الذي صار طويلًا ليس كعادته والفجر بعيد من الطلوع، حتى لم تعد تسمع تصاعد بكاء طفلها الذي استيقظ من النوم طلبا إلى ثدي أمه. كلما طال غيابه أصابتها حالة من المد والجزر، أغرقت حلمها على شاطئ الأمل، وانصهر الفرح في نار الحزن.
على الرغم من انغماس الهدوء في نسيم الليل، فإنه كان يضفي شعورًا مضطربًا. كان ينيخ على الشقة عبء كبير من من جرّاءِ الصمت. فهي تكره الهدوء على هذا النحو، فهو أشبه بالسكون الذي يسبق العاصفة. كيف لها أن تكف عن هذا التفكير العقيم والإقلاع عنه وهي غارقة في حيرة من الفوضى الفكرية.
كانت ليلة مروعة فظيعة، تدفقت في ذهنها أفكار مخيفة، تحمل في طياتها التعاسة والشقاء.
وعلى ضوء المصباح الخافت لاحت الصورة على المنضدة التي تجمعهم في إطارها الرشيق المذهب. تناولتها بأطراف الأصابع برفق وروية. بعد أن سحبت نفس عميق ملء رئتيها، أمسكت الصورة بكلتا اليدين بحسرة مغمورة، وحدقت إليها طويلًا بعيونها الحزينة. انكفأ وجهها على زجاج الصورة حتى لامسها فطبع عليها بلورات دمعية صغيرة. تسللت إلى مخيلتها ذكريات الأيام الجميلة، أيام الحب
والأحضان الدافئة، أيام الدراسة الجامعية، ولقاءات العشق والغرام. ذكريات أول لقاء على ألحان نسمات الأحلام وروائح الزهور، توقظ مشاعر مدفونة وتحرك ذكريات هائمة في الضباب
تراءى لها في تلك القطرات طيف حكمت وهو واقف على غيمة وحيدة وسط سماء صافية وابتسامة عريضة مرتسمة على وجهه الوسيم. مدت يدها بتمهل نحو قطرات الدموع المتجمعة كبلورات فضية على الصورة، توقفت فجأة خشية من أن تفقد صورته أمام ناظريها وتسقط بعدها في متاهة معتمة. أرادت أن تديم حضوره الغائب في غمرة حزنها الذي سقط عليها دون انتظار.
عادت إلى الغرفة والتقطت طفلها، الذي بلغ توًا من العمر ثلاثة أشهر. جلست متكئًا ظهرها على الأريكة واضعةً رأس طفلها على ذراعها الأيسر وأخرجت ثديها، والتقط الطفل حلمته بثغره الصغير، فخيم على الغرفة سكون مطبق.
قالت بعد أن سقطت دمعة حزينة من إحدى عينيها:
الليل يمضي ببطء. متى سيشرق فجر غد؟
وبينما كان طفلها الرضيع منغمسًا بالرضاعة. غطت شذى في النوم وهي جالسة بعد أن أنهكها الانتظار والتفكير. حلمت بحكمت وهو يحملها على ظهره في الغابات البعيدة يطوفون في فسحتها الخضراء وأرضها المبللة بالحب تحت السماء الزرقاء الصافية متلاصقين وتحتضنهم الأشجار الباسقة المنتشرة في الأرجاء التي تلعب بأوراقها المخضلة بأمطار الليل. كانوا غارقين في خضم هذا التفاعل الحي مع الطبيعة الباهرة بجمالها. كانت السعادة هي اللحظة الحاسمة في حياتهم، الأحزان تتلاشى والقلوب تتداخل في بوتقة العشق، والأزهار تفتح أفواهها لتعانق أفواه العصافير، ونسمات الريح تهز جسد الشجرة فترقص أوراقها.
أسراب من الحمام تنتقل مسقسقة من شجرة إلى أخرى وتتجمع على أغصانها، وخيوط ضوئية من شعاع الشمس تتسلل خلال أوراقها الخضراء الكثيفة. وإذا بشمس الصباح المنعشة تنسل عبر النافذة، فتتكسر خيوطها على وجهها. فتحت عينيها بفزع، كانت صرخات الوجع لا تزل تئن داخل نفسها، وبينما طفلها لا يزال يغط في نوم عميق على ذراعها.
وفي الصباح مرت على الشرطة لتقديم بلاغ عن اختفاء زوجها. استقبلها ضابط شاب ببدلته الرسمية، طويل القامة، حليق بعناية. حالما وقع بصره عليها أثار عنده نوع من الفضول ولا سيما شذى كانت شابة جميلة وفاتنة.
دخلت شذى بأناقتها المعهودة وهي تحمل طفلها:
صباح الخير.
أجابها بشكل يضفي على وجهه شيء من الجدية ولكن ملامحه كانت طفولية.
صباح النور. تفضلي بالجلوس.
شكرا.
بعد صمت قصير
أنا اسمي علوان جاسم، ضابط تحقيق. ممكن التعريف عن نفسك
أنا اسمي شذى مصطفى.
أتيت هنا حسب ما وردني بسبب اختفاء زوجك
نعم.
بعد هذه المقدمة البسيطة، وبعد معاينة سريعة، أدار الضابط وجهه واستقرت عينيه على الكاتب وقال بلهجة آمرة:
افتح المحضر واكتب البلاغ.
تفضلي بالحديث.
زوجي حكمت لم يتأخر يومًا عن البيت ولم يمكث خارجه. فهو دائمًا بعد انتهائه من عمله يقصد الدار مباشرة. ولكن يوم أمس اتصل وقال سيعود إلى المنزل في الساعة الثامنة مساءً. ولكن لم يحضر على الإطلاق. وهذا ما أثار قلقي.
وقال ضابط آخر، جالس في ركن الغرفة يعاني من بعض الحروق على خده الأيسر متهكمًا.
أخشى أن يكون لديه زوجة أخرى وقضى ليلته معها.
شذى تجاهلته ولم تعر أي اهتمام لمزاحه السخيف.
ثم استمر الضابط الشاب بطرح الأسئلة وكأنه لم يسمع سفاهة الضابط الفضولي وقال:
هل كان لديه أعداء.
لا.
هل تتذكرين مكان وجوده آخر مرة؟
نعم.
أين؟
شارع ٥٢. قالت بصوت واضح.
قلتِ شارع ٥٢...
ثم أردف قائلًا:
حدثت أمس مشاجرة في هذا الشارع وجرى إطلاق نار هناك مما أدى إلى مقتل شاب في العشرينيات من عمره. ولكن لم يكن في حوزته أوراق تشير إلى هويته.
تجهم وجه شذى واغرورقت عينيها بالدموع. كانت على وشك الانهيار.
ثم أضاف الضابط بعد تفكير قصير:
جثته راقدة الآن في الطب العدلي.
قالت في نفسها وهي تجول بعينيها في ذهول:
كانت لحكمت مشاعر عظيمة تشده بعنفوان الى الحياة على الرغْم من العثرات المتكررة في حياته الصعبة.
ثم قالت بصوت خفيض موجهةً كلامها الى الضابط دون أن تنظر في عينيه:
مستحيل فهو يحب الحياة ويحبنا. ولا يتورط في مشاجرات قد تلحق الأذى به. لا يمكن أن يتشاجر. فهو هادئ الطبع، طيب النفس.
بعد أن أكمل الضابط طرح الأسئلة المطلوبة، توجها معا بسيارة الشرطة إلى الطب العدلي وهي تعيش حالة من الرعب والإحباط.
وفي الطب العدلي وقف الجميع من الأطباء والمساعدين والضابط وشذى حول السرير الميت، ورائحة الفورمالين المنبعث من الجثة تزكم الأنوف. وبينما يشرع الطبيب إلى رفع الشرشف بإبهامه مع سبابة وأصبعه الوسطى للكشف عن وجه الجثة، كادت شمعة الأمل أن تنطفئ، وأن تسقط شذى في الهاوية السحيقة.
كانت شذى ترقب المشهد بصبر شديد وتبتهل في اعماقها آيات التوسل. هناك في ركن ما يخبئ القدر شيئا مريعًا تحت الظلام. كانت هذه اللحظات القصيرة في حياتها قد تنطوي عليها جروح عميقة لا تندمل أو بزوغ فجر جديد يعيد للحياة وهجها.
التفت الضابط إلى شذى وطلب منها أن تتقدم بإشارة من يده وقال:
هل هذا هو زوجك.
تحركت بخطوات مثقلة وانزلقت عينا شذى على وجه الجثة الراقدة في سكون مطبق. كان الوجه طبيعيًا ولكن شاحبًا. أجابت بعد أن ألقت نظرة سريعة بنبرة واثقة، وكأنها ألقت عن كاهلها جبل شامخ:
لا. ليس هو.
سرعان ما تضاءلت من عينيها نظرة الوجع وكأنها نجت من اليأس ورسمت على محياها الأمل بعد أن علتها صفرة باهتة.
ما أن تأكدت أن الجثة لا تعود لزوجها، بدأت بعد ذلك رحلة البحث. راحت تسأل هنا وهناك في جميع المؤسسات الأمنية. أكد الجميع أن الشخص الذي يحمل هذا الاسم غير موجود لديهم في السجل. ومرت أيام وليالي من الأسى والوجع، تلك الأيام كانت معتمة مكسوة بأنفاس الموتى، ذابلة في ارض مجهولة.
لم تنعم برقاد آمن لفترات طويلة بعد تلك الليلة الفاجعة التي أفضت في اختفاء زوجها. كانت ساعات الانتظار تمتد في كل ليلة، لعل المشاعر الخامدة تجدد الأمل بعد أن تنفض عن جدارها غبار اليأس وتبعث فيها إيقاعات موسيقية هادئة فتوقظ الحياة الجامدة.
شذى كرست كل حياتها من أجل تربية ابنها دون أن تنسى لحظة واحدة ملامح حكمت التي كانت حاضرة على الرغْم من غيابها الطويل. بقيت تداري مشاعرها على أمل أن يعود. ابنهم دخل الجامعة وتخرج منها وأصبح رجلا وله حبيبة وقد بلغ عمره خمسا وعشرين سنة.
وفي إحدى الليالي كانت شذى منهمكة بإعداد الطعام في المطبخ. وفي هذه الأثناء دخلت إلى غرفة المعيشة حيث ولدها يشاهد الأخبار على التلفاز والابتسامة العريضة مرسومة على وجهها وتحمل صينية الطعام...
أعلن المذيع على الشاشة الملونة:
تمكنت الشرطة اليوم من العثور على مقبرة جماعية يعود تاريخها إلى ما قبل خمسا وعشرين سنة في ضواحي المدينة على بعد خمس كيلومترات عن شارع ٥٢.
ظهر أمام الكاميرا رجل يبرز هوية أحد المغدورين عليها صورة داكنة، وفجأة تجمدت شذى لحظة، ممسكة بالصينية بيدين مرتعشتين، تتماوج في الهواء محلقة في جهاز التلفزيون. وما إلا ثوان معدودة وإذا بصوت صاخب يرتفع، ليهز المكان بفعل سقوط الصينية وتناثر الصحون الى أشلاء محطمة على الأرض، بينما انهارت شذى ودخلت في غيبوبة عميقة عندما أعلن الشرطي اسم الشاب المغدور حكمت نوري الراوي عمره ٢٥ سنة.
رددت بعض الكلمات بصوت مسموع:
ماذا حدث؟ لماذا لم يعد إلى البيت كعادته مبكرًا؟
ران عليها الأسى، راحت تذرع الغرفة ذهابًا وجيئةً، وتترنح من شدة الصدمة. توقفت عن الحركة للحظة، وضعت يديها على صدرها المنقبض وأخذت تضغط عليه بقوة. كانت عيناها محدقتين، وكأن رموشهما تؤشران إلى توقف حركة الزمن. وبعد هُنيهة سددت بصرها إلى النافذة المطلة على الشارع، أرسلت نظرات سريعة ومضطربة عبر الزجاج، حاملة معها ثقل الحزن المتصاعد. اختلج جسدها، دوت رعدة متأججة في أوصالها، هزت بدنها من عدم معرفة أسباب تأخر زوجها.
كانت تردد ناظريها ما بين امتداد الشارع وركون بعض السيارات على جانب الرصيف والنوافذ والشرفات المطلة من واجهات المباني التي تواجه نافذتها، وكأن عينيها تبحث في ذلك الفضاء، العديم الطعم عن حلقة ضائعة تعيد للسلسلة ترتيبها الصحيح. كانت ترى بعضها يشع منها ضياء خافت وأخرى تلبث في ظلام دامس تدفع إلى الاكتئاب. ذلك السكوت الجنائزي، لا ينم عن أي أثر لحياة. كل شيء في ذلك الموقف لم يكن سوى تعبير عن العدم. كان الخوف حاضرا في أروقة الغرفة يزحف في أرجاء المكان يترك آثاره هنا وهناك.
قالت بصوت يكتنفه الشجن:
ماذا جرى لك يا حكمت؟ لم تعتد أن تتسكع خارج البيت هكذا.
ثم مالت رأسها قليلًا وكأنها تريد التأكد من صحة تصوراتها وقالت:
هل يصح أن …...
أطبقت فمها وذابت حروفها في طوفان لعابها فارتفع منسوب الوجع، حيث تجلت آلامها على شكل كآبة أفرزتها عصارة عينيها.
تحولت عن النافذة بفؤاد مكلوم وعيناها كنهر جارف تتدفق منهما الدموع. ادلهمت الغرفة، صعد بصرها إلى السقف بقلب مهموم، وكأنما تتضرع إلى السماء، بعد أن أحست أن مكروها قد ألم بزوجها.
طفقت المشاعر يبتلعها الشك وريح الشؤم قد تنذر بمصيبة تعصف بالعائلة. فهل تلبث في مكانها طوال الليل في مواجهة القلق العارم؟ إلى أي مدى عليها احتمال هذا الجمود الراكد في صراعها مع الزمن؟ أفزعها رنين جرس الساعة فإذا هو يعلن منتصف الليل.
في تلك اللحظة استثارها بشدة غيابه، وعدم اتصاله بها قد ضاعف من تأثيره جثوم الليل، هذا الليل الذي صار طويلًا ليس كعادته والفجر بعيد من الطلوع، حتى لم تعد تسمع تصاعد بكاء طفلها الذي استيقظ من النوم طلبا إلى ثدي أمه. كلما طال غيابه أصابتها حالة من المد والجزر، أغرقت حلمها على شاطئ الأمل، وانصهر الفرح في نار الحزن.
على الرغم من انغماس الهدوء في نسيم الليل، فإنه كان يضفي شعورًا مضطربًا. كان ينيخ على الشقة عبء كبير من من جرّاءِ الصمت. فهي تكره الهدوء على هذا النحو، فهو أشبه بالسكون الذي يسبق العاصفة. كيف لها أن تكف عن هذا التفكير العقيم والإقلاع عنه وهي غارقة في حيرة من الفوضى الفكرية.
كانت ليلة مروعة فظيعة، تدفقت في ذهنها أفكار مخيفة، تحمل في طياتها التعاسة والشقاء.
وعلى ضوء المصباح الخافت لاحت الصورة على المنضدة التي تجمعهم في إطارها الرشيق المذهب. تناولتها بأطراف الأصابع برفق وروية. بعد أن سحبت نفس عميق ملء رئتيها، أمسكت الصورة بكلتا اليدين بحسرة مغمورة، وحدقت إليها طويلًا بعيونها الحزينة. انكفأ وجهها على زجاج الصورة حتى لامسها فطبع عليها بلورات دمعية صغيرة. تسللت إلى مخيلتها ذكريات الأيام الجميلة، أيام الحب
والأحضان الدافئة، أيام الدراسة الجامعية، ولقاءات العشق والغرام. ذكريات أول لقاء على ألحان نسمات الأحلام وروائح الزهور، توقظ مشاعر مدفونة وتحرك ذكريات هائمة في الضباب
تراءى لها في تلك القطرات طيف حكمت وهو واقف على غيمة وحيدة وسط سماء صافية وابتسامة عريضة مرتسمة على وجهه الوسيم. مدت يدها بتمهل نحو قطرات الدموع المتجمعة كبلورات فضية على الصورة، توقفت فجأة خشية من أن تفقد صورته أمام ناظريها وتسقط بعدها في متاهة معتمة. أرادت أن تديم حضوره الغائب في غمرة حزنها الذي سقط عليها دون انتظار.
عادت إلى الغرفة والتقطت طفلها، الذي بلغ توًا من العمر ثلاثة أشهر. جلست متكئًا ظهرها على الأريكة واضعةً رأس طفلها على ذراعها الأيسر وأخرجت ثديها، والتقط الطفل حلمته بثغره الصغير، فخيم على الغرفة سكون مطبق.
قالت بعد أن سقطت دمعة حزينة من إحدى عينيها:
الليل يمضي ببطء. متى سيشرق فجر غد؟
وبينما كان طفلها الرضيع منغمسًا بالرضاعة. غطت شذى في النوم وهي جالسة بعد أن أنهكها الانتظار والتفكير. حلمت بحكمت وهو يحملها على ظهره في الغابات البعيدة يطوفون في فسحتها الخضراء وأرضها المبللة بالحب تحت السماء الزرقاء الصافية متلاصقين وتحتضنهم الأشجار الباسقة المنتشرة في الأرجاء التي تلعب بأوراقها المخضلة بأمطار الليل. كانوا غارقين في خضم هذا التفاعل الحي مع الطبيعة الباهرة بجمالها. كانت السعادة هي اللحظة الحاسمة في حياتهم، الأحزان تتلاشى والقلوب تتداخل في بوتقة العشق، والأزهار تفتح أفواهها لتعانق أفواه العصافير، ونسمات الريح تهز جسد الشجرة فترقص أوراقها.
أسراب من الحمام تنتقل مسقسقة من شجرة إلى أخرى وتتجمع على أغصانها، وخيوط ضوئية من شعاع الشمس تتسلل خلال أوراقها الخضراء الكثيفة. وإذا بشمس الصباح المنعشة تنسل عبر النافذة، فتتكسر خيوطها على وجهها. فتحت عينيها بفزع، كانت صرخات الوجع لا تزل تئن داخل نفسها، وبينما طفلها لا يزال يغط في نوم عميق على ذراعها.
وفي الصباح مرت على الشرطة لتقديم بلاغ عن اختفاء زوجها. استقبلها ضابط شاب ببدلته الرسمية، طويل القامة، حليق بعناية. حالما وقع بصره عليها أثار عنده نوع من الفضول ولا سيما شذى كانت شابة جميلة وفاتنة.
دخلت شذى بأناقتها المعهودة وهي تحمل طفلها:
صباح الخير.
أجابها بشكل يضفي على وجهه شيء من الجدية ولكن ملامحه كانت طفولية.
صباح النور. تفضلي بالجلوس.
شكرا.
بعد صمت قصير
أنا اسمي علوان جاسم، ضابط تحقيق. ممكن التعريف عن نفسك
أنا اسمي شذى مصطفى.
أتيت هنا حسب ما وردني بسبب اختفاء زوجك
نعم.
بعد هذه المقدمة البسيطة، وبعد معاينة سريعة، أدار الضابط وجهه واستقرت عينيه على الكاتب وقال بلهجة آمرة:
افتح المحضر واكتب البلاغ.
تفضلي بالحديث.
زوجي حكمت لم يتأخر يومًا عن البيت ولم يمكث خارجه. فهو دائمًا بعد انتهائه من عمله يقصد الدار مباشرة. ولكن يوم أمس اتصل وقال سيعود إلى المنزل في الساعة الثامنة مساءً. ولكن لم يحضر على الإطلاق. وهذا ما أثار قلقي.
وقال ضابط آخر، جالس في ركن الغرفة يعاني من بعض الحروق على خده الأيسر متهكمًا.
أخشى أن يكون لديه زوجة أخرى وقضى ليلته معها.
شذى تجاهلته ولم تعر أي اهتمام لمزاحه السخيف.
ثم استمر الضابط الشاب بطرح الأسئلة وكأنه لم يسمع سفاهة الضابط الفضولي وقال:
هل كان لديه أعداء.
لا.
هل تتذكرين مكان وجوده آخر مرة؟
نعم.
أين؟
شارع ٥٢. قالت بصوت واضح.
قلتِ شارع ٥٢...
ثم أردف قائلًا:
حدثت أمس مشاجرة في هذا الشارع وجرى إطلاق نار هناك مما أدى إلى مقتل شاب في العشرينيات من عمره. ولكن لم يكن في حوزته أوراق تشير إلى هويته.
تجهم وجه شذى واغرورقت عينيها بالدموع. كانت على وشك الانهيار.
ثم أضاف الضابط بعد تفكير قصير:
جثته راقدة الآن في الطب العدلي.
قالت في نفسها وهي تجول بعينيها في ذهول:
كانت لحكمت مشاعر عظيمة تشده بعنفوان الى الحياة على الرغْم من العثرات المتكررة في حياته الصعبة.
ثم قالت بصوت خفيض موجهةً كلامها الى الضابط دون أن تنظر في عينيه:
مستحيل فهو يحب الحياة ويحبنا. ولا يتورط في مشاجرات قد تلحق الأذى به. لا يمكن أن يتشاجر. فهو هادئ الطبع، طيب النفس.
بعد أن أكمل الضابط طرح الأسئلة المطلوبة، توجها معا بسيارة الشرطة إلى الطب العدلي وهي تعيش حالة من الرعب والإحباط.
وفي الطب العدلي وقف الجميع من الأطباء والمساعدين والضابط وشذى حول السرير الميت، ورائحة الفورمالين المنبعث من الجثة تزكم الأنوف. وبينما يشرع الطبيب إلى رفع الشرشف بإبهامه مع سبابة وأصبعه الوسطى للكشف عن وجه الجثة، كادت شمعة الأمل أن تنطفئ، وأن تسقط شذى في الهاوية السحيقة.
كانت شذى ترقب المشهد بصبر شديد وتبتهل في اعماقها آيات التوسل. هناك في ركن ما يخبئ القدر شيئا مريعًا تحت الظلام. كانت هذه اللحظات القصيرة في حياتها قد تنطوي عليها جروح عميقة لا تندمل أو بزوغ فجر جديد يعيد للحياة وهجها.
التفت الضابط إلى شذى وطلب منها أن تتقدم بإشارة من يده وقال:
هل هذا هو زوجك.
تحركت بخطوات مثقلة وانزلقت عينا شذى على وجه الجثة الراقدة في سكون مطبق. كان الوجه طبيعيًا ولكن شاحبًا. أجابت بعد أن ألقت نظرة سريعة بنبرة واثقة، وكأنها ألقت عن كاهلها جبل شامخ:
لا. ليس هو.
سرعان ما تضاءلت من عينيها نظرة الوجع وكأنها نجت من اليأس ورسمت على محياها الأمل بعد أن علتها صفرة باهتة.
ما أن تأكدت أن الجثة لا تعود لزوجها، بدأت بعد ذلك رحلة البحث. راحت تسأل هنا وهناك في جميع المؤسسات الأمنية. أكد الجميع أن الشخص الذي يحمل هذا الاسم غير موجود لديهم في السجل. ومرت أيام وليالي من الأسى والوجع، تلك الأيام كانت معتمة مكسوة بأنفاس الموتى، ذابلة في ارض مجهولة.
لم تنعم برقاد آمن لفترات طويلة بعد تلك الليلة الفاجعة التي أفضت في اختفاء زوجها. كانت ساعات الانتظار تمتد في كل ليلة، لعل المشاعر الخامدة تجدد الأمل بعد أن تنفض عن جدارها غبار اليأس وتبعث فيها إيقاعات موسيقية هادئة فتوقظ الحياة الجامدة.
شذى كرست كل حياتها من أجل تربية ابنها دون أن تنسى لحظة واحدة ملامح حكمت التي كانت حاضرة على الرغْم من غيابها الطويل. بقيت تداري مشاعرها على أمل أن يعود. ابنهم دخل الجامعة وتخرج منها وأصبح رجلا وله حبيبة وقد بلغ عمره خمسا وعشرين سنة.
وفي إحدى الليالي كانت شذى منهمكة بإعداد الطعام في المطبخ. وفي هذه الأثناء دخلت إلى غرفة المعيشة حيث ولدها يشاهد الأخبار على التلفاز والابتسامة العريضة مرسومة على وجهها وتحمل صينية الطعام...
أعلن المذيع على الشاشة الملونة:
تمكنت الشرطة اليوم من العثور على مقبرة جماعية يعود تاريخها إلى ما قبل خمسا وعشرين سنة في ضواحي المدينة على بعد خمس كيلومترات عن شارع ٥٢.
ظهر أمام الكاميرا رجل يبرز هوية أحد المغدورين عليها صورة داكنة، وفجأة تجمدت شذى لحظة، ممسكة بالصينية بيدين مرتعشتين، تتماوج في الهواء محلقة في جهاز التلفزيون. وما إلا ثوان معدودة وإذا بصوت صاخب يرتفع، ليهز المكان بفعل سقوط الصينية وتناثر الصحون الى أشلاء محطمة على الأرض، بينما انهارت شذى ودخلت في غيبوبة عميقة عندما أعلن الشرطي اسم الشاب المغدور حكمت نوري الراوي عمره ٢٥ سنة.
التعديل الأخير: