حسن الولهازي
كاتب
الاختصاص ومسألة تطوير المعرفة
المشكـــــــل:يطرح تطوّر العلوم مشكلا طريفا هو التالي: إذا ظلّ علم يتطوّر باستمرار، فهل سيأتي اليوم الذي فيه بالكاد يلمّ دارس ذلك العلم بما بلغه من تطوّر؟ وعندئذ هل سيتوقّف ذلك العلم عن التطوّر؟ هذا السؤال لم يكن مطروحا قديما لأنّ المعارف المكتسبة كانت محدودة وبإمكان الذهن البشري أن يلمّ بها بسهولة ناهيك أن الفيلسوف القديم كان عبارة عن موسوعة. فابن سينا كان طبيبا وفيلسوفا وشاعرا وفيزيائيا. معلوم أن أيّ دارس لا يقدر أن يطوّر علما، إلاّ إذا بلغ قمّة ذلك العلم فإذا استغرق الإلمام به طيلة حياته، فمن يطوّر ذلك العلم؟ كيف تجاوزت البشرية هذا المشكل؟ كيف أمكن تطوّر العلوم على امتداد التاريخ؟
الحــــــــــــلّ
لقد تمثّل الحلّ في تقسيم مجالات البحث إلى اختصاصات. ففي ميدان الطبّ مثلا نجد طبّ العيون، وطبّ الأسنان، واختصاص الأمراض الصدرية، والقلب والشرايين... فالعالم المعاصر عوض أن يلمّ بكلّ علوم حقل معيّن، يقتطع جانبا منه ويتعمّق فيه وهكذا يتطوّر ذلك القسم من العلم. وإذا تكفّل علماء آخرون بجوانب أخرى من ذلك العلم تطوّر ذلك العلم آليا.
ماذا نلاحظ في هذا الحلّ أي الاختصاص كحلّ لمشكل تطوير العلوم؟ نلاحظ أوّلا أنّ المهمّ في تطوير علم ليس الإلمام بكلّ المعارف الإنسانية وإنّما بمعارف معيّنة تفيد الاختصاص وتمكّن من البحث. ونلاحظ ثانيا أن المهمّة الصعبة التي يعجز العالم الواحد على أن يقوم بها تقسّم على مجموعة من العلماء. فعلم الرياضيّات علم ناجح ومتطوّر بفضل علماء الهندسة وعلماء الجبر وعلماء الحساب... وليس بمجهود عالم واحد له كفاءة من هو مختصّ في الهندسة والجبر والحساب... لأنّ هذا العالم لا وجود له ولا يمكن أن يوجد أصلا.
توظيف الحلّ
هذا الحلّ المنهجي أي الاختصاص لضمان تطوّر العلوم يمكن أن نستفيد منه في التدريس. إذا اعتبرنا التلميذ (وحتّى الطالب) باحثا في حقل المعرفة وأردنا له الامتياز والتميّز فلماذا لا نتّبع المنهج المذكور سابقا؟ لماذا نطالبه بأن يكون مبدعا وعبقريا وقد أثقلنا كاهله بمواد دراسية عديدة؟ إذا كان الأمر كذلك عدّ جنوح السياسة التربوية التي تكثّف المواد الدراسية وتؤخّر الاختصاص وتهمّش الميول المبكّرة للتلميذ أمورا لا تخدم المعرفة والإبداع والتلميذ والوطن والإنسانية. لماذا لا نستخلص العبرة من طريقة معالجة العلماء للعلوم، لماذا لا نقسّم إلمام التلميذ بكلّ المواد على كلّ التلاميذ بحيث يختصّ كلّ تلميذ مبكّرا في مادّة من المواد وهكذا يعمل في أريحيّة ويكون مبدعا في اختصاص ما؟ طالما أن التلميذ سيختصّ آجلا أم عاجلا في حقل معرفي معيّن فلماذا نشتتّ جهوده على عدّة ميادين في أعزّ فترات حياته وهي صغره وشبابه ونطالبه بالإبداع في كبره؟ لماذا نرى نقصا وعيبا جهل التلميذ المختصّ في العلوم، للمواد الأدبية... ولا نرى نقصا وعيبا جهل طبيب الأسنان، لطبّ العيون فما بالك بالتاريخ والجغرافيا والإعلامية...؟ وهل من الضروري كي يكون طبيب العيون حاذقا، أن يكون له معرفة بالجغرافيا؟ أضف إلى ذلك فإنّ التحاقنا بركب الدوّل المتقدّمة يتطلّب منّا أن نولي الاختصاص القيمة التي يستحقّها. ولنعتبر انعدام التكوين الشمولي الموسوعي لإبننا التلميذ تضحية وطنية مثلما ضحّى الأجداد في سبيل تخليص الوطن من الاستعمار. كلّنا مطالب بأن يضحّي التضحية التي تقتضيها مصلحة الوطن.