نرحب بالكتاب الراغبين في الانضمام إلى مطر

خطة ,,

محمد فري

المدير العام
طاقم الإدارة
الجو حار، والأنفاس تكاد تختنق، والجميع في انتظار العطلة الصيفية كخلاص من سنة دراسية تمددت كثيرا، وشهر يونيو يمشي الهوينى غير مبال بأحد، الامتحانات بدورها لم تنته بعد، والكل في حالة تأهب وانتظار ..
دخلت الفصل مرهقا .. كالعادة طبعا .. غمغم البعض بتحية مبهمة، وظل الباقون صامتين وعيونهم جاحظة تتوقع أمرا ما، آخرون يكتمون أنفاسهم، ويمنعون ضحكات تشي ابتساماتهم بخنقها..
جلست وحييت الجميع بتحية روتينة، تناسب " حرارة " الاستقبال التي أبداها الشياطين وهم جلوس على مقاعدهم المهترئة،
الكل صامت على غير العادة، أخرجوا دفاترهم وكتبهم من محفظاتهم وشكاكيرهم، ووضعوها أمامهم على الطاولات بحركات آلية خالية من كل إحساس .. عيونهم جاحظة باستمرار خالية من أي معنى، وأذهانهم محلقة في عوالم مجهولة لم أعرف سرها، ما أدركته أنهم غير متحمسين للدرس، ولما نحن مقبلين عليه اليوم ..
الأجواء تنذر بمكيدة دبرها الأشقياء، انتبهت إلى الكرسي الذي أجلس عليه، وخشيت أن يكونوا قد وضعوا شيئا دون أن أنتبه، وقفت متظاهرا بأخذ قلم موضوع على مكتبي، وحمدت الله على خلوه من أي سوء.. ثم جلست مجددا، منتظرا تحمسا من الشياطين أمامي لبدء الدرس ..
الجميع ظل جامدا، إلا من عيون تتحرك في كل الاتجاهات، تنقل شيفرة تشي بها نوعية النظرات المتبادلة، فكرت في خلق حافز يحرك الجلمود ويذيب صخرة الثلج، غير أن جهودي باءت بالفشل، فجميعهم لاذوا بالصمت واعتنقوه منهجا، وتخيلتهم يمارسون لعبة " التيلت " ويعتمدونها خطة للاحتجاج على شيء ما لا أفقهه، هو منهج مألوف عند هؤلاء الشياطين حين يعتصمون بالصمت وعدم الرد أو التجاوب مع كل ما يصدر عن المدرس من قول أو فعل .. بحثت في ذهني عن مشكل ما بيني وبينهم فلم أعثر على شيء، كل الأمور تصدح بعلاقة طيبة عادية اجتهدت كثيرا في اتخاذها سلوكا أسير على منواله، ومع ذلك ظل الصمت الرهيب يقلقني ويكاد يعصف بأعصابي، لكنني تذكرت أن الغضب وفقدان الأعصاب رد فعل فاشل لا ينفع في مواقف مع المردة ..
تصنعت اللامبالاة وشرعت في الدرس دون أن أبدي ملاحظة، تململت الرؤوس قليلا، وتحركت الأصابع تبحث عن الصفحات لمتابعة ما يمكن متابعته، لكن بعض الرؤوس أبدت توترا خفيفا، وكأنها فقدت ما كانت تتوقعه، واستمرت العيون في تبادل النظرات المشفرة، في حوار صامت يدركه الشياطين وحدهم.
لم ألتفت للأمر، ولم أبد أنني انتبهت لشيء ما، تركت الجميع على حاله واستأنفت ما بدأته.. بعد هنيهة وصلتني رائحة نتنة لم أدرك مصدرها، كانت نافذة تزداد حدتها بالتدريج، أدركت حينها سر صمت " البلاوات "، وأيقنت أنهم نفذوا خطة " المخينزة "، وهي نوع من التمار كالبازلاء، يجلبونه من أشجار معينة تحفل بها أرصفة شوارع المدينة، ثم يضغطونها بأرجلهم تحت الطاولات، فتنشر في الفصل رائحة تزكم الأنوف، وتدمع الأعين، وتسهم في غليان الدماغ وفقدان رباطة الجأش..
أدركت متأخرا سر الصمت الرهيب، ودلالة حركات الأعين وتبادل النظرات، وأيقنت أن الشياطين البلاوات ينتظرون مني رد فعل يثلج صدورهم، ويمتع أفق انتظارهم .. ولعلهم يتوقعون مني أيضا غضبا عارما، وقاموس شتم وسب يمتح من أشد المعاجم بذاءة .. وأدركت كذلك أن مثل هذا الموقف يحتاج إلى خطة بديلة تواجه خطتهم، وإلى مواجهة غير متوقعة، تفشل ما ينتظرونه من نتائج، وتفقدهم متعة دبروا لها بدقة ..
لم أبد اهتماما، وتصنعت عدم انتباهي لأي شيء، واستأنفت ما شرعت فيه، بل أضفت إلى هذا كله موقفا اعتبرته سلاحا فعالا، حيث وقفت وأمرت بإقفال جميع النوافذ بحجة منع أشعة الشمس المزعجة للعيون، وحرصت على أن يكون الإقفال تاما لايترك منفذا ولا يغفل شقا، بل أمرت بإقفال الباب نفسه الذي كان يترك عادة مفتوحا في مثل هذه الأيام الحارة .. ثم
عدت إلى مقعدي أشرح ما يجب علي شرحه.
لا أخفي أن الرائحة " الزكية " قد غزت كل أركان الفصل، ووصلتني بقوة، وبطريقة تكاد تكتم أنفاسي، كانت تنفذ من خياشيمي وتصعد إلى دماغي بشكل يجعلني أفقد صوابي، لكنني كنت مصمما على رد فعلي، وعلى الخطة التي اعتمدتها في مواجهة خطتهم، فاعتنقت الصبر، متناسيا الرائحة النفاذة، والألم الفظيع الذي تتركه في الصدر والدماغ، واتخذت من عبارة " علي وعلى أعدائي " شعارا في مواجهة هذه الحرب الباردة.
تململت الرؤوس بطريقة مختلفة، وجحظت العيون أكثر، واحمرت المآقي كنيران ملتهبة، وسالت الأنوف بسوائل لزجة اجتهدت الأكف والأصابع في مسحها دون جدوى، وعلمت أن الخطة قد أنتجت ثمارها، وأدت غرضها، وأنها جعلت كيد الشياطين في نحورهم .. فقدوا ابتساماتهم، وفتر حماسهم، وبدا على وجوههم وملامحهم تعب غير متوقع، بل كان البعض منهم يتنفس بصعوبة، والبعض الآخر يغطي أنفه بكفه أو بمنديل يفي بالغرض .. وتابعت عملي كأنني في عالم بعيد عن عالمهم، رغم أني كنت داخل الوطيس، أعاني ما يعانون، وأكابد في صمت ما يكابدون..
اشتد تململ الرؤوس أكثر، وظهر التردد على البعض، وشعرت أنهم على وشك رفع الراية البيضاء، اتململت بعض الأصابع، فالتفت مستفسرا عن الغرض لأتلقى طلبا بفتح النوافذ جلبا للهواء، لكنني جنحت إلى منهج الصم البكم، وتجاهلت الطلب متظاهرا بانشغالي بالدرس، وأبديت عدم الاهتمام بشيء، بل صممت على التماسك وتشبثت برباطة الجأش وعدم الاستسلام للرائحة الزكية التي ازداد انتشارها وتفاقمت حدتها، وأظهرت أنني في كامل ارتياحي ولا وجود لما يزعج راحتي، وارتفع صوتي مستمرا في شرح الدرس، وكأنني أرفع عقيرتي بالغناء، متخيلا أنني على خشبة بالمسرح، غير مبال بجمهور لايبدي تجاوبا.
مرت دقائق معدودات حسبتها دهرا، وخشيت أن يطول تحمل الشياطين للرائحة، فأستسلم قبل أن يستسلموا، وأرفع رايتي قبل أن يرفعوها ... لكنني حمدت الله عندما بدت حركة غير متوقعة منهم، وتطوع البعض نيابة عن الآخرين، للجهر باعتذار صريح وفصيح، وبطلب الصفح عن فعل متسرع مجنون .. وتصاعدت عبارات من الجميع، قاسمها المشترك طلب الصفح عما صدر من طيش لم تحسب عواقبه، وكان الجميع بانتظار الإعلان عن فتح النوافذ والباب، للخلاص من جحيم لم يكن متوقعا.
وكنت أكثر الراغبين في هذا الخلاص، فسارعت إلى الاستجابة منتشيا بالانتصار في المعركة، شاكرا العقاد في أعماقي، على الخطة التي ألهمني إياها، فكانت ترياقا ضد سم " البلاوات ".
 
التعديل الأخير:
هههههه ذات حصة اتفقوا على أن لا يتكلم أحد منهم أو يشارك أو يجيب ... كنت في بداياتي جديدا على المهنة .. ارتبكت .. لكني استطعت كتمان ارتباكي وإخفائه .. اكتفيت بابتسامة وأنأ أجمع أغراضي في محفظتي ، وسألتهم إن كانوا لا يحبون درسي ولا يستسبغونني ، فالأمر سهل ، سأخرج أعرض على السيد الناظر أن يستبدلني بأحد الزملاء ... عندها أقروا أن الأمر مجرد هزل ومزاح ...
تنفست الصعداء وقلت لنفسي : مزاح يا البلاوات ؟؟ هذا را اكثر من المعقول ... هههه
 

لوحة مختارة

 لوحة مقترحة
أعلى