المصطفى سالمي
كاتب
مع بدء عام دراسي جديد يتفاجأ المغاربة بمقررات مختلفة تغزوها عبارات ونصوص فرضت فيها ألفاظ من العامية المحلية فرضا على المتعلمين، وانطلقت بموازاة ذلك حملة النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي ساخرة ومنددة بهذه الحملة المسعورة على اللغة العربية، في حين لم تتردد أصوات ـ إما مأجورة أو جاهلة ـ في الدفاع عما اعتبرته حقا للدارجة المغربية في مجاورة لغة الضاد الفصيحة لتساهم بدورها التعليمي التواصلي خاصة في المراحل الابتدائية، فهل العامية وسيلة ناجعة حقا لنقل المعرفة وتحصيل الثقافة؟ وهل لها من أدوار في التواصل بين المتعلمين على مقاعد الدراسة؟
إن استعمال العامية لا يتوقف في البيت والشارع وحتى الإدارات العمومية ووسائل الإعلام، إذا كان التعليم إذن يتأسس على العامية فلم الذهاب للمدرسة من أجل استنساخ كلام يجتره الطفل ويجتر معه واقعه بويلاته ونكساته وخيباته؟ أليس الأدب والشعر والموسيقى والرسم وباقي الفنون وسائل للارتقاء وتهذيب الذوق والتعالي على الواقع من أجل إعادة إنتاجه بشكل أسمى وأرقى ؟!
إن القرآن الكريم حين حمل بين طياته كلمات من قبيل: سندس، استبرق، ديباج... وغيرها من ألفاظ الفرس والروم والحبشة.. وغيرها قام بإدماجها في أوزان اللغة العربية وتراكيبها وأنماطها، فلفظ: (استبرق) ـ وهو حرير منسوج بخيوط الذهب ـ أصله (ستبرك) لفظ فارسي تم تعريبه، وتعديله، فلو بقيت الكاف في آخره ـ حسب لسان العرب ـ لتوهم القارئ أنها كاف الخطاب، فتم استبدال الكاف بالقاف تعديلا، وزيد حرف الألف للتناغم مع صيغة استفعل، وتغير الصوت والنطق.. إنه الارتقاء بالكلمة وتهيئتها لتصبح لغة فنية أدبية، ذلك ما حصل لبعض الكلمات التراثية المغربية مثل لفظ: (كسكس) التي أصلها أمازيغي (سكسو)، أو كلمات فرضت نفسها حتى على المعاجم في اللغات الحية لأنها مشحونة بمعاني إنسانية كلفظ (الإنتفاضة) الذي كرسته المقاومة الفلسطينية وأطفال الحجارة، فأصبحت القواميس العالمية لا تتردد في استعمال لفظ (lNTiFADA) في ما يشبه نطقها الأصلي.
قد يتساءل البعض: أين المشكل إذن في استعمال كلمات مثل: (بغرير/ غريبة/ بريوات/ للانمولة تسخن عظيماتها/ با مشى لسباتة...)؟؟ إن الأمر هنا ليس بريئا بالمرة للحديث عن عامية مقارنة بالحديث عن استعمال الزجل لألفاظ من الدارجة بشكل طاغ وجارف، وليس من مقارنة أيضا مع كتابات روائيين يوظفون أحيانا العامية المحلية مثل الروائي نجيب محفوظ مثلا الذي لا تخلو أعماله السردية من ألفاظ من العامية المصرية، أو محمد شكري الذي تتسم كتاباته الأدبية ببعض العبارات والألفاظ من الدارجة المغربية، إن المخاطَب هنا راشد يفكك الخطاب ويعي دلالاته، كما أن صاحب النص أديب فنان ينقح الكلمة والعبارة ويرتقي بها، ويكاد يلامس الفصحى من خلال الاقتراب من الواقع ثم التسامي عليه في نفس الوقت، أما في حالة الكتب المدرسية فإن الأمر يتعلق بأشخاص ينفذون أجندات خارجية، هؤلاء في الأصل جهلاء بالمخططات التي ينفذونها ويشرفون عليها، فالسيد (عيوش) المعين عضوا في المجلس الأعلى للتعليم في مهم تنشيطية هو شخص شبه جاهل بأساليب اللغة العربية وتراكيبها ومجازها وبديعها وبيانها، كلامه في وسائل الإعلام خليط من الفرنسية والدارجة، فكيف له أن يشرف على كتاب موجه للنشء، بينما يتم إقصاء أصحاب الشأن من خبراء وعلماء نفس واجتماع وتربويين وناس التربية والتعليم من أهل الميدان. إن التلميذ في المراحل الابتدائية يتلقف المفردات العامية بكثير من السخرية والضحك، ويرددها كأنه ما زال يمارس شغبه في الشارع أو في البيت، فلا خيال يتم تنميته، ولا ذوق تتم تصفيته وتهذيبه، ولا قيم يتم ترسيخها، إن هو إلا إسفاف وهزل وغثاء كغثاء السيل، فكيف لتلميذ لم يتشبع بنصوص ذات بعد عربي فصيح أن ينتج نصا أدبيا أو يصوغ جملا سليمة أو يتمثل صورة لحيوان أو نبات ليعطي المفردة أو العبارة الدالة عليها، فسواء انطلقنا من الجزء للكل (من الحرف إلى الكلمة ثم إلى الجملة فالنص) أو من الكل للجزء (عكس المعطيات السابقة) فلن نرتقي في عملية الإنتاج والتحويل الذهني والتمثل المعرفي بالاعتماد على كلمات عامية، إذ لو قيل للتلميذ: (ما هذا؟)، ووضعت أمامه بالموازاة مع ذلك صورة لنوع من أنواع الفاكهة أو إحدى الحيوانات فسيستعمل التلميذ تلقائيا وباستمرار للفظ العامي الذي تكرس لديه من واقعه التعليمي الذي جاءت به هذه المستجدات الخطيرة. ما دور المدرسة إذن حين تستنسخ الشارع والبيت؟ وكيف لها أن تلعب دورا في إنتاج نصوص أدبية أو تمثلات معرفية، أو حتى في المجال العلمي الذي لا مناص فيه من المعجم العلمي المتأسس على مفردات وألفاظ وسياقات وعلاقات منطقية تكرسها كلمات واضحة الدلالات والمعاني لا مفردات عامية هشة سطحية هي هجين متداخل من بقايا محليات ومن موروث استعماري لألفاظ ذات أصول لاتينية أو ربما رومانية وأمازيغية أو حتى كلمات منحوتة هي وليدة اللحظة القريبة....
إن التلاميذ الذين درسوا في الكتاتيب القرآنية وحفظوا نصوصا من كتاب الله يتميزون بملكة لغوية سليمة ونطق عربي يتميز بالارتقاء في الخيال وبذوق سليم، وباعتماد خاصية الاقتباس والتمثل، فأية أسس ومرجعيات عند من تشبع بالعامية التي هي عاميات في بلادنا، ماذا تحقق سلفا بإدراج الأمازيغية في مقرراتنا؟ وماذا نتوقع لو أدرجت الريفية والحسانية..؟ إننا نسير من سيئ إلى أسوأ، وطلابنا اليوم لا يجيدون كتابة نص أدبي يتوفر فيه الحد الأدنى من السلامة الإملائية والتعبيرية والتركيبية.. بل لا يجيدون اليوم وهم في المرحلة الجامعية كتابة طلب عمل بشكل سليم إلا من رحم ربي، فكيف نتوقعهم مستقبلا مع ما أصبح يصطلح عليه بـ (بغررة التعليم)؟؟!!
إن استعمال العامية لا يتوقف في البيت والشارع وحتى الإدارات العمومية ووسائل الإعلام، إذا كان التعليم إذن يتأسس على العامية فلم الذهاب للمدرسة من أجل استنساخ كلام يجتره الطفل ويجتر معه واقعه بويلاته ونكساته وخيباته؟ أليس الأدب والشعر والموسيقى والرسم وباقي الفنون وسائل للارتقاء وتهذيب الذوق والتعالي على الواقع من أجل إعادة إنتاجه بشكل أسمى وأرقى ؟!
إن القرآن الكريم حين حمل بين طياته كلمات من قبيل: سندس، استبرق، ديباج... وغيرها من ألفاظ الفرس والروم والحبشة.. وغيرها قام بإدماجها في أوزان اللغة العربية وتراكيبها وأنماطها، فلفظ: (استبرق) ـ وهو حرير منسوج بخيوط الذهب ـ أصله (ستبرك) لفظ فارسي تم تعريبه، وتعديله، فلو بقيت الكاف في آخره ـ حسب لسان العرب ـ لتوهم القارئ أنها كاف الخطاب، فتم استبدال الكاف بالقاف تعديلا، وزيد حرف الألف للتناغم مع صيغة استفعل، وتغير الصوت والنطق.. إنه الارتقاء بالكلمة وتهيئتها لتصبح لغة فنية أدبية، ذلك ما حصل لبعض الكلمات التراثية المغربية مثل لفظ: (كسكس) التي أصلها أمازيغي (سكسو)، أو كلمات فرضت نفسها حتى على المعاجم في اللغات الحية لأنها مشحونة بمعاني إنسانية كلفظ (الإنتفاضة) الذي كرسته المقاومة الفلسطينية وأطفال الحجارة، فأصبحت القواميس العالمية لا تتردد في استعمال لفظ (lNTiFADA) في ما يشبه نطقها الأصلي.
قد يتساءل البعض: أين المشكل إذن في استعمال كلمات مثل: (بغرير/ غريبة/ بريوات/ للانمولة تسخن عظيماتها/ با مشى لسباتة...)؟؟ إن الأمر هنا ليس بريئا بالمرة للحديث عن عامية مقارنة بالحديث عن استعمال الزجل لألفاظ من الدارجة بشكل طاغ وجارف، وليس من مقارنة أيضا مع كتابات روائيين يوظفون أحيانا العامية المحلية مثل الروائي نجيب محفوظ مثلا الذي لا تخلو أعماله السردية من ألفاظ من العامية المصرية، أو محمد شكري الذي تتسم كتاباته الأدبية ببعض العبارات والألفاظ من الدارجة المغربية، إن المخاطَب هنا راشد يفكك الخطاب ويعي دلالاته، كما أن صاحب النص أديب فنان ينقح الكلمة والعبارة ويرتقي بها، ويكاد يلامس الفصحى من خلال الاقتراب من الواقع ثم التسامي عليه في نفس الوقت، أما في حالة الكتب المدرسية فإن الأمر يتعلق بأشخاص ينفذون أجندات خارجية، هؤلاء في الأصل جهلاء بالمخططات التي ينفذونها ويشرفون عليها، فالسيد (عيوش) المعين عضوا في المجلس الأعلى للتعليم في مهم تنشيطية هو شخص شبه جاهل بأساليب اللغة العربية وتراكيبها ومجازها وبديعها وبيانها، كلامه في وسائل الإعلام خليط من الفرنسية والدارجة، فكيف له أن يشرف على كتاب موجه للنشء، بينما يتم إقصاء أصحاب الشأن من خبراء وعلماء نفس واجتماع وتربويين وناس التربية والتعليم من أهل الميدان. إن التلميذ في المراحل الابتدائية يتلقف المفردات العامية بكثير من السخرية والضحك، ويرددها كأنه ما زال يمارس شغبه في الشارع أو في البيت، فلا خيال يتم تنميته، ولا ذوق تتم تصفيته وتهذيبه، ولا قيم يتم ترسيخها، إن هو إلا إسفاف وهزل وغثاء كغثاء السيل، فكيف لتلميذ لم يتشبع بنصوص ذات بعد عربي فصيح أن ينتج نصا أدبيا أو يصوغ جملا سليمة أو يتمثل صورة لحيوان أو نبات ليعطي المفردة أو العبارة الدالة عليها، فسواء انطلقنا من الجزء للكل (من الحرف إلى الكلمة ثم إلى الجملة فالنص) أو من الكل للجزء (عكس المعطيات السابقة) فلن نرتقي في عملية الإنتاج والتحويل الذهني والتمثل المعرفي بالاعتماد على كلمات عامية، إذ لو قيل للتلميذ: (ما هذا؟)، ووضعت أمامه بالموازاة مع ذلك صورة لنوع من أنواع الفاكهة أو إحدى الحيوانات فسيستعمل التلميذ تلقائيا وباستمرار للفظ العامي الذي تكرس لديه من واقعه التعليمي الذي جاءت به هذه المستجدات الخطيرة. ما دور المدرسة إذن حين تستنسخ الشارع والبيت؟ وكيف لها أن تلعب دورا في إنتاج نصوص أدبية أو تمثلات معرفية، أو حتى في المجال العلمي الذي لا مناص فيه من المعجم العلمي المتأسس على مفردات وألفاظ وسياقات وعلاقات منطقية تكرسها كلمات واضحة الدلالات والمعاني لا مفردات عامية هشة سطحية هي هجين متداخل من بقايا محليات ومن موروث استعماري لألفاظ ذات أصول لاتينية أو ربما رومانية وأمازيغية أو حتى كلمات منحوتة هي وليدة اللحظة القريبة....
إن التلاميذ الذين درسوا في الكتاتيب القرآنية وحفظوا نصوصا من كتاب الله يتميزون بملكة لغوية سليمة ونطق عربي يتميز بالارتقاء في الخيال وبذوق سليم، وباعتماد خاصية الاقتباس والتمثل، فأية أسس ومرجعيات عند من تشبع بالعامية التي هي عاميات في بلادنا، ماذا تحقق سلفا بإدراج الأمازيغية في مقرراتنا؟ وماذا نتوقع لو أدرجت الريفية والحسانية..؟ إننا نسير من سيئ إلى أسوأ، وطلابنا اليوم لا يجيدون كتابة نص أدبي يتوفر فيه الحد الأدنى من السلامة الإملائية والتعبيرية والتركيبية.. بل لا يجيدون اليوم وهم في المرحلة الجامعية كتابة طلب عمل بشكل سليم إلا من رحم ربي، فكيف نتوقعهم مستقبلا مع ما أصبح يصطلح عليه بـ (بغررة التعليم)؟؟!!